= فلما صار الفضل إلى العراق، وجه أبا الصباح على خراج أرمينية، وسعيد ابن محمد الحراني اللهبي على حربها، فوثب أهل برذعة على أبي الصباح، فقتلوه، وانتقضت أرمينية، وظهر فيها أبو مسلم الشاري، فولى الفضل خالد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية ووجه إليه عبد الملك بن خليفة الحرشي في خمسة آلاف فلقوا أبا مسلم الشاري برويان، فهزمهم، وانصرف أبو مسلم إلى قلعة الكلاب، فأخذها.
واستعمل الرشيد على أرمينية العباس بن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، فلما صار إلى برذعة وثب به البيلقانية، فتحصن منهم في ربض برذعة، ووجه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري في ستة آلاف، والتقيا، وكانت بينهما وقعة، وقتل معدان الحمصي، فصار أبو مسلم الشاري إلى دبيل، فحصرها أربعة أشهر ثم انصرف، فصار إلى البيلقان فنزلها.
وقوي أمر أرمينية، ووجه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفاً، ويزيد ابن مزيد الشيباني في عشرة آلاف، وأمر يزيد بن مزيد أن يقصد أرمينية، وأمر الحرشي أن يأخذ على آذربيجان، وكان قد تغلب باذربيجان مهلهل التميمي، فلقيه الحرشي فقاتله، فهزمه، وأصلح البلاد، ثم صار إلى أرمينية ليجتمع ويزيد بن مزيد على محاربة أبي مسلم الشاري، فوافى البلد وقد مات، وقام من بعده السكن بن موسى البيلقاني مولى... وكان منزله البيلقان، فلما بلغه قدوم يحيى الحرشي وجه إليه الخليل بن السكن في خيار خيله، فلقي الحرشي، فأسره الحرشي، وزحف إلى البيلقان، فلما بلغ السكن الخبر خرج هاربا، فصار إلى قلعة الكلاب، وصار أهل البيلقان إلى الحرشي، فطلبوا الأمان، فأدخلوا المدينة، فامن أهلها، وهدم حصنها.
وسار السكن إلى يزيد بن مزيد في ثمانية آلاف مستأمناً منه، وحمله إلى الرشيد، ولما سكن البلد ولى الرشيد موسى بن عيسى الهاشمي، فأقام بأرمينية سنة، فعاد انتقاضها، فاضطربت نواحيها، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال الرشيد: ما أرى لها إلا الحرشي، فعزل موسى بن عيسى، ووجه الحرشي عاملا عليها، فوضع فيهم السيف حتى استقامت، ثم ولى الرشيد أحمد بن يزيد ابن أسيد السلمي، فلما قدم وثب به من كان في البلد من أهل خراسان ممن قدم مع الحرشي وقبل الحرشي، وقاتلوه، وتعصبوا عليه وقالوا: لا سمع لك ولا طاعة، فولى الرشيد سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فلما قدم البلد تلاءمت الناس شهوراً، ثم تعبث بالبطارقة، فخالف عليه أهل الباب والأبواب، ووثبوا بعاملة، وكان النجم بن هاشم صاحب الباب والأبواب، فقتله سعيد بن سلم، فوثب ابنه حيون بن النجم، فقتل عامل سعيد على الباب والأبواب، وكشف رأسه للمعصية، وكتب إلى خاقان ملك الخزر، فزحف إليه ملك الخزر في خلق عظيم، فأغار على المسلمين، فقتل وسبى خلقا عظيما، وسار حتى أتى جسر الكر، وسبى خلقاً من المسلمين، وقتل عالماً، وحرق البلاد، وقتل النساء والصبيان. فلما بلغ الرشيد خبره وجه بتحاب، وأمره أن يعرض على سعيد بن سلم، ويقيمه للناس فلما وافى البلد أعطاه سعيد مالاً، فمال التحاب إلى أخذ المال، فبلغ الرشيد ذلك فوجه نصر بن حبيب المهلبي عاملاً على البلد، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وولى علي بن عيسى بن ماهان، فلما قدم ساءت سيرته، ووثب به أهل شروان، واضطرب البلد، فولى الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، ورد علياً إلى خراسان، وجمعت ليزيد بن مزيد أرمينية وآذربيجان، فلما قدم تلاءمت الناس، وأصلح البلد، وساوى بين النزارية واليمانية، وكتب إلى أبناء الملوك والبطارقة يبسط آمالهم، فاستوى البلد.
ثم ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي، فأخذ البطارقة وأبناء الملوك، فضرب أعناقهم، وسار فيهم أسوأ سيرة، فانتقضت جرجان والصنارية، فأنفذ إليهم جيشاً، فقتلوه، فوجه إليهم سعيد بن الهيثم بن شعبة بن ظهير التميمي في جيش عظيم، فقاتل أهل جرجان والصنارية حتى أجلاهم عن البلد، وانصرف إلى تفليس، فأقام خزيمة بن خازم أقل من سنة، ثم عزله، وولى سليمان بن يزيد بن الأصم العامري، وكان شيخاً عفيفاً، مغفلاً، فضعف حتى لم يكن له أمر يجوز، حتى كاد أن يغلب على البلد. وولى الرشيد العباس بن زفر الهلالي، فانتقضت عليه الصنارية، فقاتلهم، وضعف عنهم، فوجه الرشيد محمد بن زهير بن المسيب الضبي، وكان آخر عمال الرشيد على أرمينية.
وخلع أهل حمص سنة 190، ووثبوا على واليهم، فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم ويسألون الإقالة، فعفا عنهم، ونفذ إلى بلاد الروم، فغزا الصائفة، وفتح هرقلة والمطامير.
وحجت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور في هذه السنة، وهي سنة 190، فنال الناس عطش شديد، وغارت زمزم حتى لم يوجد فيها من الماء إلا القليل، وحفرت زمزم، فنزل فيها عدة أذرع، فكان الماء زاد يسيراً، وكان مقدار رشاء زمزم ثماني عشرة ذراعاً، فحفر فيها تسع أذرع ليزيد، فكان أول ما حفر في زمزم.
واجتمع عند الرشيد عمه، وعم أبيه، وعم جدة، سليمان بن جعفر عمه، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جده، فقال عبد الصمد بن علي: أحمد الله، يا أمير المؤمنين، على نعمة عليك، فقد جمع لك ما لم يجمع لخليفه قبلك، ثم جمع لك عمك، وعم أبيك، وعم جدك.
وكان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك، وجعفر والفضل ابناه، صدراً من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي، فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة، ثم كان الفضل بن الربيع يغلب عليه، وإسماعيل بن صبيح، وعلى شرطة القاسم بن نصر بن مالك، ثم عزله وولى خزيمة بن خازم، ثم عزله وولى المسيب بن زهير الضبي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم عزله واستعمل علي بن الجراح الخزاعي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن خازم، وكان على حرسه جعفر بن محمد بن الأشعث، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم هرثمة بن أعين، وكان حاجبه الفضل ابن الربيع.
وخرج هارون إلى خراسان في شعبان سنة 192، فنزل قرماسين، فصار بها شهر رمضان وضحى بالري، فلما صار إلى جرجان كتب إلى عيسى بن جعفر بالخروج إليه، فخرج إليه عيسى، فلما صار في بعض الطريق توفي.
فحدثني شيخ من آل المهلب كان مع عيسى بن جعفر قال: دخلنا إليه يوماً، وقد اشتدت علته، فسمعناه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت والله نفسي! فقلنا له: إنك بحمد الله اليوم صالح. فقال: إني دققت ما يخرج من أذني، فوجدته رميما، حتى أغمي عليه، وسمع النساء بكاء الرجال، فغلبن الخدم، وخرجن فأفاق ورفع رأسه، فنظر إليهن وقال:
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم جئن برزن للنظار
ثم قضى من ساعته، فلما بلغ الرشيد خبر وفاته، اشتد جزعه عليه، فدخل على جارية، فقالت: يا أمير المؤمنين إن عيسى كان يريد بك ما صار إليه، فأحاقه الله به، وهذا مسرور وحسين يعلمان ذلك. فقالا: صدقت! فتسلى ودعا بالطعام، وصار هارون إلى طوس، فنزل قرية يقال لها سناباذ، وهو شديد العلة، وتوفي مستهل جمادى الأولى سنة 193، وهو ابن ست وأربعين سنة، وصلى عليه ابنه صالح بن هارون، وكان المأمون قد نفذ إلى مرو قبل ذلك بثلاثة وعشرين يوماً، وجاء نعيه من طوس إلى مدينة السلام يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا: عبد الله المأمون، ومحمداً الأمين، والقاسم، وأبا إسحاق المعتصم، وأبا عيسى، وأبا العباس، وعلياً، وصالحاً، وأبا يعقوب، وأبا علي، وأبا أحمد، وأبا أيوب، وكل مكنى من بني هاشم فاسمه محمد.
وأقام الحج في ولايته سنة 170 هارون الرشيد، سنة 171 عبد الصمد بن علي، سنة 172 يعقوب بن المنصور، سنة 173 الرشيد، سنة 174 وسنة 175 الرشيد، سنة 176، سليمان بن أبي جعفر، سنة 177 الرشيد، سنة 178 محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، سنة 179 الرشيد، وكان قد اعتمر فلم يزل معتمرا حتى حج، فانصرف إلى البصرة، سنة 180 موسى بن عيسى، وجهه هارون من الرقة، سنة 181 الرشيد، سنة 182 موسى بن عيسى، سنة 183 العباس بن موسى، سنة 184 إبراهيم بن المهدي، سنة 185 منصور بن المهدي، سنة 186 الرشيد، سنة 187 عبد الله بن العباس بن محمد، سنة 188 الرشيد، وهي آخر حجة حجها، ولم يحج بعده خليفة، سنة 189 العباس بن موسى بن عيسى، سنة 190 عيسى بن موسى الهادي، سنة 191 الفضل بن العباس بن محمد بن علي، سنة 192 العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر.
وغزا بالناس في أيامه سنة 171 يزيد بن عنبسة الحرشي، عاملا من قبل إسحاق بن سليمان، سنة 172 محمد بن إبراهيم، سنة 173 إبراهيم بن عثمان، سنة 174 سليمان بن أبي جعفر، سنة 175 عبد الملك بن صالح، وقيل إنه لم يدخل بلاد الروم، ولما صار إلى الدرب وجه الفضل بن صالح، سنة 176 هاشم بن الصلت، سنة 177 داود بن النعمان من قبل عبد الملك، سنة 178 يزيد ابن غزوان، سنة 179 الفضل بن محمد، سنة 180 إسماعيل بن القاسم سنة 181 هارون الرشيد، فافتتح حصن الصفصاف، سنة 182 إبراهيم بن القاسم من قبل عيسى بن جعفر، سنة 183 الفضل بن العباس، سنة 184 محمد بن إبراهيم، سنة 185 إبراهيم بن عثمان، سنة 186 إبراهيم بن عثمان أيضاً، سنة 187 القاسم ابن الرشيد، وعبد الملك بن صالح، وإبراهيم بن عثمان بن نهيك، وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان، سنة 189 الفضل بن العباس، سنة 190 الرشيد، فافتتح هرقلة والمطامير وأغزى حميد بن معيوف بالبحر، وكان أهل قبرس قد نقضوا الصلح، فغزاهم فقتل وسبى، سنة 191 خرج الرشيد يريد الغزو، فلما صار بالحدث أغزاهم مع هرثمة بن أعين، وأقام بالثغر حتى انصرف هرثمة. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمران بن إبراهيم، مالك بن أنس، إبراهيم بن محمد بن أبي الحسن الأسلمي، أبا البختري بن وهب القرشي، عبد الله بن جعفر المديني، إسماعيل بن جعفر أبا عقيل، أبا معشر السندي، سعيد بن عبد العزيز الجمحي، عبد العزيز بن أبي حازم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عبد الرحمن بن عبد الله العمري، سليمان بن فليح... عطاء ابن يزيد، سفيان بن عيينة، شريك بن عبد الله النخعي، سلمة الأحمر، أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، إبراهيم بن سعد الزهري، سفيان بن الحسن الحماني، جعفر بن عتاب بن أبي زائدة، علي بن مسهر، عبد الله بن إدريس الأودي، محمد بن مروان السدي، جرير بن عبد الحميد الكوفي، شعيب بن صفوان صاحب ابن شبرمة، جعفر بن سليمان، محمد بن الحسن، علي بن هاشم، عبد الله بن الأصلح الكندي، الطلب بن الحجاج، القاسم بن مالك المزني، علي بن ظبيان، أبا شهاب الكوفي، محمد بن مسروق القاضي، عدي بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكيع بن الجراح، يحيى بن البهائي، عمرو بن هشام، حماد بن زيد، أبا عوانة، يزيد بن زريع، عبيد الله بن الحسن، المعتمر بن سليمان، داود بن الزبرقان، عباد بن عباد المهلبي، حمزة بن نجيح، خالد بن يزيد، محمد بن راشد، عمران بن خالد صاحب عطاء، محمد بن يزيد الواسطي، عبد المنعم بن نعيم، عمر بن جميع، يوسف بن عطية، عبد العزيز بن عبد الصمد.
أيام محمد الأمينوبويع لمحمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، ولم يكن في الخلفاء هاشمي الأبوين غير علي بن أبي طالب، ومحمد، وكانت البيعة له بطوس، في اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الأحد مستهل جمادى الأولى سنة 193، وأخذ له الفضل بن الربيع بيعة من حضر من الهاشميين والقواد، وقدم رجاء الخادم إلى محمد ببغداد يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان ذلك من شهور العجم في آذار، وكانت الشمس يومئذ في الحمل ثلاث درجات وثلاثاً وخمسين دقيقة، وزحل في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعا، والمريخ في الدلو ستاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحوت سبع درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في السرطان اثنتين وعشرين درجة.
فبايع الناس في هذا اليوم ببغداد، وخرج إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، فصعد المنبر، فحمد الله وصلى على محمد، ثم قال: نحن أعظم الناس رزيئة وأحسن الناس بقية، رزئنا رسول الله، فلم يكن أحد أشد رزءا منا، وعوضنا خلفا ابنه، فمن ذا له مثل عوضنا؟ ثم نعاه إلى الناس، وذكرهم العهد، ثم نزل. فلما كان يوم الجمعة صعد محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، وذكر ما فضله الله به، ثم قال: وأفضت خلافة الله وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد، فعمل بالحق، وساس بالعدل، وحج بيت الله، وجاهد في سبيل الله، وبذل مهجته في طاعة الله، وباشر الجهاد طلبا لرضى الله جل وعز حتى أعز الله دينه، ثم دنياه، وأقام حقه، ووقم العدو، وآمن السبل، ونصح العباد، وعمر البلاد، وقد اختار الله له ما عنده، وأكرمه
بلقائه، فعند الله نحسبه، وإياه نسأل حسن الخلافة من بعده، والمعونة على ما حملني من أمركم، وارغب إليه في التسديد والتوفيق لما يرتضيه فيكم. ثم حض على الطاعة، وأمر بالمناصحة، ونزل.
وقدم الفضل بن الربيع الخزائن وبيوت الأموال ووصية الرشيد، مستهل جمادى الآخرة، وكان محمد بن هارون قد أمر بإظهار الحج فقال له الفضل ابن الربيع: إن أباك أمرني أن أقول لك إنه لن يحج بعدي أحد من خلفاء بني العباس فأقام، وحجت أمه أم جعفر معتمرة شهر رمضان، وقد كانت تقدمت في حفر عين المشاش في أيام الرشيد فقدمت مكة وقد فرغ منها، فبنت المصانع، وجعلت الحياض والسقايات ووجه محمد بعشرين ألف مثقال ذهبا، فجعلت صفائح على باب الكعبة ومسامير الباب والعتبة وأخرج عبد الملك بن صالح من الحبس، وولاه جميع ما كان إليه من الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور ورد عليه أمواله وضياعه ودفع إليه ابنه عبد الرحمن وكاتبه قمامة فحبس قمامة في حمام قد أحكم، وأوقد أشد وقود، وطرح معه سنانير، فلم يزل فيه حتى مات، وحبس ابنه فلم يزل محبوساً.
وقال عبد الملك حين أخرج من الحبس، وذكر ظلم الرشيد له: والله إن الملك لشيء ما نويته، ولا تمنيته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته، ولو أردته لكان أسرع إلي من السيل إلى الحدور ومن النار إلى يابس العرفج وإني لماخوذ بما لم أجن ومسؤول عما لا أعرف، ولكنه والله حين رآني للملك قمنا، وللخلافة خطرا، ورأى لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم اختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الوالدة، وتميل إلى ميل الهلوك، وخاف أن تنزع إلى أفضل منزع، وترغب في خير مرغب، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتفرد لها بجهده، وتهيأ لها بكل وسعه، فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت إليه فأحط نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا بأن أخرج له من الحكم، والعلم، والحزم والعزم فكما لا يستطيع المضيع أن يكون حافظا كذا لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً، وسواء عليه عاقبني على عقلي أم عاقبني على طاعة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولم يكن لما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل المجهود إلا القليل.
وأخرج علي بن عيسى بن ماهان من الحبس، ورد عليه أمواله، وولاه شرطته وقدمه وآثره. وولى أسد بن يزيد بن مزيد أرمينية فقدمها، وقد غلب على ناحية من البلد يحيى بن سعيد الملقب كوكب الصبح وإسماعيل بن شعيب مولى مروان ابن محمد بن مروان وكانا بناحية جرزان فاحتال لهما حتى أخذهما، ثم من عليهما، وخلى سبيلهما، وكان حسن السيرة سخياً ثم عزله محمد وولى أرمينية إسحاق بن سليمان الهاشمي فوجه إليها ابنه الفضل خليفة له، ولم يزل الفضل بها أيام المخلوع.
وولى محمد بن سعيد بن السرح الكناني اليمن وكان من أهل فلسطين، فأقام بها ثلاث سنين، ثم عزله وولى جرير بن يزيد البجلي فخرج سعيد بن السرح من اليمن بأموال عظام، حتى صار إلى فلسطين فاتخذ الدور والضياع، فلم يزل جرير بن يزيد على اليمن حتى بويع للمأمون.
وقد وجه الرشيد هرثمة بن أعين في جيش إلى رافع بن الليث إلى سمرقند وقد استكثف جمع رافع واستمال أهل الشاش وفرغانة، وأهل خجندة وأشروسنة والصغانيان وبخارى وخوارزم وختل وغيرها من كور بلخ وطخارستان والسغد وما وراء النهر والترك والخرلخي والتغزغز وجنود التبت وغيرهم، واستنصر بهم على قتال السلطان وقتل المسلمين وصار إلى مدينة سمرقند فتحصن بها، فلم يزل هرثمة محارباً له حتى قتل خلق من أصحابه.
ثم استعان رافع بجيغويه الخرلخي وكان جيغويه هذا قد أسلم على يد المهدي فجعل يخادع هرثمة ويوهمه أنه معه، ومعونته وهواه لرافع ثم أظهر المعصية، والخلع فقوى أمر رافع بمكانه، وأحرق السواد بالنار، وتبرأ من أهله، ودعا لغير بني هاشم وأخذ هرثمة بإكظامهم، حتى ضرع رافع إلى الأمان فأمنه، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله، وذلك في المحرم سنة 194، فكتب المأمون إلى محمد بالفتح، وأعلمهم ما كان من تدبيره واجتهاده، حتى فتح الله عليه.
فأفسد قوم قلب محمد على المأمون وأوقعوا بينهما الشر، وكان الذي يحرضه علي بن عيسى بن ماهان والفضل بن الربيع وزينا له أن يبايع لابنه بولاية العهد من بعده، ويخلع المأمون ففعل ذلك، وبايع لابنه موسى وكان ذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة 194، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما فحرقها، وجرت الوحشة بينهما، وكتب محمد إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه في جميع القواد فكتب إليه يعلمه أنه لا سمع عليه في هذا ولا طاعة فكتب إلى من بخراسان من القواد فأجابوه بمثل ذلك، وقالوا: إنما يلزمنا لك الوفاء إذا وفيت لأخيك، وأنت قد نقضت العهود وأحدثت الأحداث، واستخففت بالأيمان والمواثيق.
ووجه محمد إلى أم عيسى بنت موسى الهادي امرأة المأمون يطلب منها جوهراً كان عندها للمأمون فمنعته، وقالت: ما عندي شيء أملكه، فوجه من هجم منزلها، فانتهب كل ما فيه، وأخذ ذلك الجوهر، فلما انتهى ذلك إلى المأمون جمع القواد الذين قبله، فقال لهم: قد علمتم ما كان أبي شرط علي وعلى محمد وقد نكث ونقض العهود وأوجد السبيل إلى خلعه بنكثه ونقضه وتعرضه لأموالي وأسبابي وأعمالي، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه، واستخفافه بحق الله فيما نكث من ذلك، واشتغاله بالخصيان، فاتفق رأيهم على مراسلته، فإن رجع، وإلا خلعوه.
وبلغ محمداً ذلك، فجمع قواده وذكر لهم خلع المأمون إياه وندبهم إلى الخروج إليه، فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السبيعي فسير معه جيشاً كثيفاً، فخرج حتى صار إلى حد خراسان ثم وقف وكتب إليه يحركه على المسير فامتنع، فقال: أخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان وأخذت عليك ألا تدخلها، ولا ترسل أحداً إليها، فإن جاءني إنسان من قبل المأمون إلى هاهنا قاتلته، وإلا لم أجز الحد فوجه محمد علي بن عيسى بن ماهان واليا على خراسان، وأمره بإشخاص المأمون ومن معه، وضم إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق وحملت إليه الأموال ودفع إليه قيد فضة، وقال: إذا قدمت خراسان قيد بهذا القيد المأمون واحمله إلى ما قبلي، فلما أتى المأمون الخبر ندب طاهر بن الحسين بن مصعب البوشنجي للخروج، وقبل ذلك كان قد ولاه كورة بوشنج وأزاح علته بالكراع والأموال، ونفذ، فلقي علي بن عيسى بالري في سنة 195، وعلي بن عيسى في خلق عظيم، وطاهر بن الحسين في خمسة آلاف، فخرج علي بن عيسى في نفر يسير يدور حول العسكر وبصر به طاهر بن الحسين فأسرع إليه في جماعة من أصحابه، فلاقى علياً وهو على برذون أصفر، وعليه طيلسان كحلي طويل، فدافع عنه من كان معه حتى قتل جماعة وركض، فاتبعه طاهر وحده، فضربه بسيفه حتى أثخنه، وسقط إلى الأرض، فنزل واحتز رأسه، ورجع إلى معسكره ونصب الرأس على رمح ونادى في عسكر علي بن عيسى: قتل الأمير! وبلغ أصحابه به خبره، فانهزموا وأسلموا الخزائن والكراع فلم يبت طاهر حتى حوى جميع ما كان في عسكره فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
وكتب طاهر بالفتح إلى المأمون إلى مرو، ووجه بالرأس إليه مع رجل من أصحابه، فلما دخل على ذي الرئاستين سأله عن الخبر، فذهل، وانقطع كلامه فلم يقدر على إجابته، فهال ذلك الفضل ففتح الخريطة، وقرأ الكتب ثم قال: أين الرأس؟ فطلب ما معه، فلم يوجد، وسئل عنه فلم يتكلم، فوجه في طلبه فوجده قد سقط على مقدار ميلين، فحمل وأدخل إلى مرو.
وقرئ الفتح على الناس وبويع للمأمون بالخلافة وخلع محمداً فأعطى جميع أهل خراسان الطاعة
للمأمون فحدثني أحمد بن عبد الرحمن الكلبي قال: سلم على المأمون بالخلافة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: أيها الناس إني جعلت لله على نفسي أن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمداً لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالاً، ولا أثاثاً، ولا نحلة تحرم على، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي إلا ما كان في الله له، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكداً، وميثاقاً مشدداً، إني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمي، ورهبة من مسألتي إياي عن حقه وخلفه، فإن غيرت، أو بدلت، كنت للعبر مستأهلا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه وارغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته ولما بلغ محمداً قتل علي بن عيسى بن ماهان وانهزام عسكره ومصيرهم إلى حلوان وخلع أهل خراسان له واجتماع كلمتهم على المأمون وأن طاهرا قد قوي بما صار في يده من الأموال والسلاح والكراع وكتب إليه المأمون ألا يعرج دون بغداد وأن يقصدها وجه عبد الرحمن بن جبلة إليه وأمره أن يضم إليه من بحلوان من القواد والجند الذين كانوا مع علي بن عيسى فلقي طاهرا بهمذان في ذي القعدة سنة 195، فقتله طاهر واستباح كل ما في عسكره فوجه محمد عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي فرجع من حلوان.
ووثب بالشام رجل يقال له علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية يدعو إلى نفسه، فوجه إليه محمد بالحسين بن علي بن ماهان فلما صار الحسين إلى الرقة أقام ولم ينفذ إليه، وتوفي داود بن يزيد المهلبي عامل السند فاستخلف ابنه ووثب مالك بن لبيد اليشكري بالسواد فدعا للمأمون. وبلغ محمد بن أبي خالد القائد وكان شيخ قواد الحربية والمطاع فيهم أن محمداً قد عزم على قتله والفتك به، فجمع إليه أهل الحربية والأبناء، ثم وثبوا بمحمد فوجه إليهم محمد... فتحاربوا بموضع ببغداد يقال له باب الشام فكانت تلك الحرب أول حرب وقعت ببغداد في تلك السنة. وكان عامل محمد بمصر حاتم بن هرثمة بن أعين، فعزله وولى جابر بن الأشعث الخزاعي سنة 195، فلما قدم جابر بن الأشعث لم يدع للمأمون على المنابر كما كان يدعى بعد محمد، فشغب الجند، وقالوا: لا طاعة! فأعطاهم عطاءين.
وقدم يحيى بن محمد المديني بكتاب المأمون، فامتنع جابر بن الأشعث من البيعة له، وأقام على طاعة محمد، فوثب السري بن الحكم البلخي، وكان أحد قواد مصر، وجماعة معه، ودعوا الجند إلى البيعة للمأمون، ووعدوهم رزق سنتين، فأجابوا إلى ذلك، وأخرجوا جابر بن الأشعث من دار الإمارة، وصيروا مكانه عباد بن محمد، وكان عباد خليفة هرثمة بن أعين في البلد، فدعا للمأمون بالخلافة في رجب سنة 196... قوم، فوجه إليهم عبد بن حكيم بن كون، ومحمد بن صعير، فكانت بينهم وقعة، ثم سلموا وبايعوا، وكتب محمد إلى رجل يقال له ربيعة بن قيس الحرشي، بولاية مصر، فجمع إليه أهل الحوف وغيرهم، وقاتل عباد بن محمد، وزحف إليه حتى صار إلى قرب الفسطاط، فكانت بينهم وقعات وغلب عباداً على البلد، إلى أن وجه المأمون بالمطلب بن عبد الله الخزاعي عاملاً على مصر.
وتوفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة، وهي سنة 196، وكان عامل محمد بن هارون على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور واضطرب البلد بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين: حزب يظاهر بمحمد وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون لا سلطان يمنعهم ولا يدفعهم، وأخذ طاهر من ناحية الجبل إلى الأهواز، وقتل محمد بن يزيد بن حاتم عامل محمد وجيلويه الكردي.
وتوجه زهير بن المسيب الضبي إلى فارس، فأخذها وبايع بها، وصار طاهر إلى واسط لثلاث خلون من رجب بعد أن بايع أهل البصرة للمأمون على يد منصور بن المهدي، وبالكوفة على يد الفضل بن موسى بن عيسى، وبالموصل على يد المطلب بن عبد الله، وبمصر على يد عباد بن محمد، وبالرقة على يد الحسين بن علي بن ماهان، فأخرجه من كان بها من الزواقيل وغيرهم، فقدم بغداد لثمان خلون من رجب سنة 196، فأنكر مذهب محمد، وبلغه عنه ما يكره، فدعا الجند ببغداد إلى بيعة المأمون، فأجابوه، فوثب على محمد، فحبسه وأمه وولده، فلما حبسهم طالبه الجند بأرزاقهم، فاعتل عليهم، فقبضوا عليه، وأخرجوا محمداً وأمه وولده من الحبس، وبايعوه، وضربوا عنق الحسين ابن علي، فسألوا محمداً في أرزاقهم، فأعطاهم خمسمائة خمسمائة، وقارورة غالية، وعقد أربعمائة لواء لقواد شتى، واستعمل عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة، وهرثمة يومئذ معسكر بالنهروان، فالتقوا في شهر رمضان، فهزمهم وأسر علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وبعث به إلى المأمون.
وزحف بجيشه حتى صار بموضع يقال له نهريين، من بغداد على فرسخ أو فرسخين وصار طاهر بنهر صرصر على أربعة فراسخ من بغداد، وكان طاهر في الجانب الغربي وهرثمة في الجانب الشرقي، وحرب بغداد قائمة في الجانبين جميعاً، إلا أن الأسواق قائمة، والتجار على حالهم لا يهاجون، وتجتمع على التاجر الواحد جماعة من أصحاب المأمون وجماعة من أصحاب محمد، فلا يكون بينهم تنازع، ووثب الأبناء والحربية بمحمد، ودعوا للمأمون، وكاتبوا طاهرا، وأعطوه الرهائن، فدخل طاهر بغداد، فاشتق الجانب الغربي إلى باب الأنبار.
وكان محمد قد حبس سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي لأمر بلغه، فلما صار هرثمة على باب بغداد أخرجهما من الحبس، ووجه بهما مع جماعة من بني هاشم إلى هرثمة يدعونه إلى طاعته ويجعل له ما أراد من الأموال والقطائع، فقال لهم هرثمة: لو لا أن لا تقتل الرسل لضربت أعناقكم، فانصرفا إلى محمد! وخلى سبيلهما.
ووثب أهل شرقي بغداد بمحمد، ودعوا للمأمون، وأجلوا خزيمة بن خازم التميمي، فصار إلى الجسر، فقطعه.
ودخل زهير بن المسيب من كلواذى في السفن، وفيها المنجنيقات والعرادات، فصار محمد إلى قصره المعروف بالخلد في غربي بغداد، فتحصن به، فرماه زهير بالمنجنيق.
ودخل هرثمة من باب خراسان من عسكر المهدي، وهو الجانب الشرقي من بغداد، ودخل طاهر من معسكره إلى مدينة أبي جعفر، وأحدقوا بالخلد، فخرج محمد من باب خراسان، حتى أتى دجلة يريد هرثمة، فبلغ أصحاب طاهر ذلك، فوثبوا بهرثمة، وهو في حراقة له حتى غرقوه، وأخرجوه بعد ساعة، وخرج محمد في غلالة وسراويل، حتى جلس على الشط، والعسكر يمر به ولا يعرفه، حتى مر به مولى لشكله، فعرفه، فحمله إلى منزله.
ثم أتى طاهر بن الحسين بخبره، فوقعت بين طاهر وبين هرثمة وزهير منازعة، فأمر طاهر قريشاً الدنداني مولاه، فضرب عنقه، ونصب رأسه على رمح، ومضى به إلى معسكره بالبستان، ثم بعث به إلى المأمون. فكان مقتله يوم الأحد من المحرم سنة 198، وسمعت من يقول: لخمس خلون من صفر، وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً بخطه: أما بعد، فإن المخلوع، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لمفارقته عصمة الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عز وجل، فيما قص علينا من نبإ نوح يا نوح، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة، إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع، وأسلمه بغدره ونكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين حقه، الكائد له فيمن خان عهده ونقض عقده، حتى رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، فأحيا به أعلام الدين بعد دثور سرائرها.
ثم كتب كتاباً بالفتح يشرح فيه خبره منذ يوم شخص من خراسان، وما عمل في بلد بلد ويوم يوم جعلناه في كتاب مفرد.
وكانت خلافته منذ يوم توفي الرشيد إلى أن قتل أربع سنين وسبعة أشهر وواحداً وعشرين يوماً، ومنذ مات هارون إلى أن خلع ثلاث سنين، وكانت سنة يوم قتل سبعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وقيل ثمانياً وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: موسى وعبد الله، وكان الغالب عليه إسماعيل ابن صبيح الحراني، والفضل بن الربيع، وعلى شرطة محمد بن المسيب، ثم عزله وولاه أرمينية، وصير مكانه محمد بن حمزة بن مالك، ثم عزله وصير مكانه عبد الله بن خازم التميمي، وكان على حرسه عصمة بن أبي عصمة، وحجابته إلى الفضل بن الربيع يقوم بها ولد الفضل.
وأقام الحج للناس في ولايته سنة 193 داود بن عيسى بن موسى، سنة 194 علي بن هارون الرشيد، سنة 195 داود بن عيسى، سنة 196 العباس بن موسى ابن عيسى، وهو على مكة، سنة 197 العباس، وغزا بالناس في سنة 194 الحسن بن مصعب من قبل ثابت بن نصر، سنة 195 ثابت بن نصر الخزاعي، سنة 196 ثابت بن نصر، سنة 197 ثابت بن نصر.
وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمر بن واقد، يحيى بن سليمان الطائفي، أبا معاوية محمد بن حازم المكفوف، أسباط مولى قريش، عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عبد الرحمن بن مسهر، محمد بن كثير الكوفي صاحب التفسير، سفيان بن عيينة، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير يزيد بن إسحاق، إسماعيل بن علية، عبد الوهاب الثقفي، يحيى بن سعيد القطان، يزيد بن مالك، الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي، إسحاق الأزرق، زيد بن هارون، علي بن عاصم، حماد بن عمرو، سلم بن سالم التميمي.
أيام المأمونوبويع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها مراجل الباذغيسية، في سنة 195، على ما ذكرنا في أيام محمد من أمره وأمر محمد، وبايع له عامة أهل البلدان سنة 196، فلما كان في المحرم سنة 198، وقتل محمد، اجتمع عليه أهل البلدان، ولم يبق أحد إلا أعطي طاعته، وادعى كل ممتنع في بلد أنه إنما كان في طاعة المأمون وعلى الميل إليه.
وكانت الشمس يومئذ في الميزان درجة وثلاثاً وخمسين دقيقة، والقمر في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في الحمل ثماني عشرة درجة وعشر دقائق راجعاً، والمريخ في الأسد أربع درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الأسد أربعاً وعشرين درجة، وعطارد في السنبلة ثلاثاً وعشرين درجة وعشر دقائق، والرأس في الحمل أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة. ووجه المأمون المطلب بن عبد الله الخزاعي إلى مصر عاملاً عليها سنة 198، فأقام سبعة أشهر، ثم ولى العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي مصر سنة 199، فوجه بابنه عبد الله بن العباس، فحبس المطلب بن عبد الله، واستخلف إبراهيم ابن تميم على الخراج، وصير شرطته إلى عبد العزيز بن الوزير الجروي.
وساءت سيرة عبد الله بن العباس، فوثب السري بن الحكم، واستمال الجند، ثم حارب عبد الله حتى أخرجه من البلد، وأخرج المطلب من الحبس، فبايع له، ونزل دار الإمارة، وبيت عبد الله بن العباس، وأخذ كل ما كان معه من الأموال، ومضى عبد العزيز الجروي إلى تنيس، فأقام متغلبا عليها، وعلى ما والاها من كور أسفل الأرض، وغلب السري بن الحكم على قصبة الفسطاط والصعيد، وتغلب العباس بن موسى بن عيسى على الحوف في قيس، فخذلته، فأقام ببلبيس خمسة وثلاثين يوماً.
وفي سنة 198 وجه المأمون الحسن بن سهل إلى العراق عاملا عليها وعلى غيرها من البلد، وقد كان وثب الأصفر المعروف بأبي السرايا، واسمه السري ابن منصور الشيباني بالكوفة، ومعه محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا، ثم توفي محمد بن إبراهيم، فأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن زيد، فأخذ البصرة العباس بن محمد بن موسى الجعفري.
وقدم زيد بن موسى بن جعفر بن محمد من الكوفة، وقد كان خلع بها، فصار إلى البصرة مع العباس بن محمد الجعفري، وأخذ واسط محمد بن الحسن المعروف بالسلق، وأخذ اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وأخذ الحجاز محمد ابن جعفر، وتغلب على نصيبين وما والاها أحمد بن
عمر بن الخطاب الربعي، وبالموصل السيد بن أنس، وبميافارقين موسى بن المبارك اليشكري، وبأرمينية عبد الملك بن الجحاف السلمي ومحمد بن عتاب، وباذربيجان محمد بن الرواد الأزدي، ويزيد بن بلال اليمنى، ومحمد بن حميد الهمداني، وعثمان بن أفكل، وعلي بن مر الطائي، وبالجبل أبو دلف العجلي، ومرة بن أبي الرديني، وعلي ابن البهلول، ومحمد بن زهرة، وسنان وزيد بن... وبالسلسله وحن حساس وناحيتها بسطام بن السلس الربعي، وبكفر توثا ورأس عين حبيب بن الجهم، وبكيسوم وما والاها من ديار مضر نصر بن شبث النصري، وكان أصعب القوم شوكة وأشدهم امتناعاً، وبقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قنسرين عثمان بن ثمامة العبسي، وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي.
وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فلم يبق منهم أحد، وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قنسرين، وخرب يعقوب الحاضر حتى ألصقه بالأرض، وكان فيه عشرون ألف مقاتل، فهو خراب إلى اليوم. وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن حنطان التنوخي، وبحماة وما والاها حراق البهراني، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وبالمصيصة وأذنة وما والاها من الثغور الشامية ثابت ابن نصر الخزاعي، وكان عاملا للأمين، فلما كان من أمره ما كان تغلب على البلد، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من سائر القبائل، وبمصر السري بقصبة الفسطاط والصعيد، وبأسفل الأرض عبد العزيز الجروي، وبالحوفين القيسية واليمانية.
وغلبت لخم وبنو مدلج على الإسكندرية، ورئيس لخم رجل يقال له أحمد بن رحيم اللخمي، ثم غلب الأندلسيون، وكان ابتداء أمر الأندلسيين انهم قدموا من الأندلس في أربعة آلاف مركب، فأرسوا في ميناء الإسكندرية في الرمل، وكانوا زهاء ثلاثة آلاف رجل، فأقاموا على ساحل البحر، وما... ثم وثب بعض أعوان السلطان على رجل منهم، فوقعت عصبية، فوثب الأندلسيون على الفضل بن عبد الله أخي المطلب بن عبد الله، وقتلوا صاحب شرطته، وصاروا إلى الحصن وحاربوا أهل الإسكندرية، حتى أجلوهم عن منازلهم، فخلوا الديار والأموال، ورأسوا عليهم رجلاً يقال له أبو عبد الله الصوفي يسفك الدماء ويقتل المسلمين، ثم عزلوه وصيروا عليهم رجلاً يقال له الكناني، وأجلوا بني مدلج ولخما عن البلد، فصار البلد كله لهم، وكان ببرقة مسلم بن نصر الأعور الأنباري.
فلما ولى المأمون الحسن بن سهل العراق وجه خليفته ذا العلمين علي بن أبي سعيد، وكتب المأمون إلى طاهر بن الحسين أن يمضي إلى الجزيرة فيحارب نصر بن شبث، فلما قدم ذو العلمين العراق غلظ ذلك على طاهر، وقال ما أنصفني أمير المؤمنين! ثم نفذ إلى الجزيرة، فحارب نصراً.
وقدم الحسن بن سهل العراق، فنزل النهروان، وتوجه هرثمة إلى أبي السرايا، والتقوا بناحية الكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199، فكانت بينهم وقائع، فانصرف هرثمة، وزحف زهير بن المسيب الضبي إليه، فهزمه أبو السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجه إليه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد في جيش عظيم، فلقي أبا السرايا بموضع يقال له الجامع، بين بغداد والكوفة، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب من هذه السنة، فقتله أبو السرايا، وأسر أخاه هارون بن محمد بن أبي خالد وجماعة من أصحابه.
وبلغ زهيراً الخبر، فانصرف من قصر ابن هبيرة إلى بغداد، فرجع هرثمة في جيوش عظيمة، فلقي أبا السرايا، فلم يزل هرثمة حتى صار إلى الكوفة، فقاتله قتالاً شديداً، حتى قتل عامة أصحاب أبي السرايا، ودخل هرثمة الكوفة، وخرج أبو السرايا منهزماً، حتى صار إلى واسط، ثم إلى الأهواز، فلقيه الحسن ابن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فهزمه.
وانصرف أبو السرايا راجعاً منهزماً إلى روستقباذ، وهو عليل شديد العلة من بطن به، وبلغ
حماداً الخادم المعروف بالكندغوش مكانه، فهجم عليه، فأخذه وأخذ معه محمد بن محمد العلوي وأبا الشوك مولاه، فصار بهم إلى الحسن ابن سهل وهو بالنهروان، فلما أدخل عليه قال له أبو السرايا: استبقني، أصلح الله الأمير. قال: لا أبقى الله على أن أبقيت عليك فأمر به فضربت عنقه، وقطع بنصفين، وصلب على جسري بغداد. وأتي بمحمد بن محمد العلوي، فقربه وأدناه وبره، وقال له: لا خوف عليك، لعن الله من غرك وولى خالد بن يزيد بن مزيد الكوفة.
وصار الحسن بن سهل إلى المدائن، ووجه إلى محمد بن الحسن السلق عبد الله بن سعيد الحرشي، فالتقوا بواسط في شرقي دجلة، فهزم السلق، وفض جمعه.
ووجه عيسى بن يزيد الجلودي إلى محمد بن جعفر العلوي، وقد تغلب بمكة، وأخرج داود بن عيسى الهاشمي، فلما قدم الجلودي مكة لم يحاربه واستأمن إليه، فأخذه الجلودي، وخرج به بنفسه إلى المأمون وهو بمرو، وخلف ابنه بمكة، فلما صار بجرجان توفي محمد بن جعفر، وورد كتاب المأمون على الجلودي يأمره بالرجوع إلى الحجاز، فرجع.
ووجه حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان إلى اليمن، وإبراهيم بن موسى ابن جعفر العلوي متغلب بها، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن، وكانت وقعات منكرة تأخذ من الفريقين، وكان حمدويه قد استخلف على مكة يزيد ابن محمد بن حنظلة المخزومي، فخرج إبراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة، وبلغ يزيد بن محمد، فخندق عليه مكة، وأرسل إلى الحجبة، فأخذ الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان وصنم ملك التبت، وضربه دنانير ودراهم، وقرض قرضا من الأعراب، ودفع إليهم المال.
وصار إبراهيم إلى مكة، فوافقه يزيد في أصحابه، وبعث إبراهيم بن موسى بعض أصحابه، فدخل من الجبل، فانهزم يزيد ولحقه بعض أصحابه فقتله، ودخل إبراهيم إلى مكة، فغلب عليها، وأقام بها حمدويه في ناحية من اليمن.
وأشخص المأمون الرضا علي بن موسى بن جعفر من المدينة إلى خراسان، وكان رسوله إليه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل، فقدم بغداد، ثم أخذ به على طريق ماه البصرة حتى صار إلى مرو، وبايع له المأمون بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الإثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذت البيعة للرضى، ودعي له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه، ولم يبق أحد إلا لبس الخضرة إلا إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، فإنه كان عاملاً للمأمون على البصرة، فامتنع من لبس الخضرة، وقال: هذا نقض لله وله، وأظهر الخلع، فوجه إليه المأمون عيسى بن يزيد الجلودي فلما أشرف على البصرة هرب إسماعيل من غير حرب ولا قتال، ودخل الجلودي البصرة، فأقام بها، وصار إسماعيل إلى الحسن بن سهل، فحبسه، وكتب في أمره إلى المأمون وكتب بحمله إلى مرو، فحمل، فلما صار بالقرب من مرو أمر المأمون أن يرد إلى جرجان فيحبس بها، فأقام بجرجان محبوساً ممنوعاً منه، ثم رضي عنه بعد حين، ووجه ببيعة الرضا مع عيسى الجلودي إلى مكة، وإبراهيم ابن موسى بن جعفر بها مقيم، وقد استقامت له غير أنه يدعو إلى المأمون، فقدم الجلودي ومعه الخضرة وبيعة الرضا، فخرج إبراهيم فتلقاه، وبايع الناس للرضى بمكة، ولبسوا الأخضر.
وكان حمدويه بن علي بن عيسى، لما خرج إبراهيم إلى مكة، استمال جماعة من أهل اليمن، ثم خلع، فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولاية اليمن، وأمر الجلودي بالخروج معه ومعونته على محاربة حمدويه، فخرج إبراهيم حتى صار إلى اليمن، فلم يخرج الجلودي معه، فلحقه ابن لحمدويه، فحاربه، فقتل من أصحابه خلقاً، وانهزم ابن حمدويه، وصار إبراهيم إلى صنعاء، فخرج حمدويه، فحاربه محاربة شديدة، فقتل من أصحاب إبراهيم خلقاً عظيماً، وانهزم إبراهيم، فلم يرد وجهه شيء دون مكة، وانصرف الجلودي إلى البصرة، وقد تغلب عليها زيد بن موسى، ونهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس، وكان معه جماعة من القيسية وغيرهم، فلما قرب الجلودي حاربوه يومهم ذاك، ثم انهزموا، وانهزم زيد، فأخذه عيسى، وحمله إلى المأمون، فمن عليه، وأطلق سبيله.
وشخص هرثمة من العراق إلى مرو سنة 201، وقيل إنه انصرف بغير إذن من المأمون، فلما دخل على المأمون... قال: من نقرس، ولا يمكنني أمشي في محفة، وكلم المأمون بكلام غليظ، ودخل معه يحيى بن عامر بن إسماعيل الحارثي، فقال: السلام عليك يا أمير الكافرين! فأخذته السيوف في مجلس المأمون حتى قتل، فقال هرثمة: قدمت هذه المجوس على أوليائك وأنصارك؟ فأمر المأمون بسحب رجل هرثمة وحبسه، فأقام في محبسه ثلاثة أيام، ومات.
وخرج بخراسان منصور بن عبد الله بن يوسف البرم، فوجه إليه المأمون وبادر منصور بن عبد الله، فقتله.
ووثب محمد بن أبي خالد وأهل الحربية بالحسن بن سهل، حتى أخرجوه من بغداد، وأسروا زهير بن المسيب الضبي، وذلك أنه كان مع محمد بن أبي خالد... وأتوا محمد بن صالح بن المنصور، فقالوا: نحن أنصار دولتكم، وقد خشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس، وقد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضا، فهلم نبايعك، فإنا نخاف أن يخرج هذا الأمر عنكم. فقال لهم: قد بايعت للمأمون، وكان محمد بن صالح أول هاشمي بايع المأمون ببغداد، ولست لكم بصاحب وصار الحسن بن سهل إلى واسط فاتبعه محمد بن أبي خالد والحربية والأبناء، فالتقوا بقرية أبي قريش دون واسط فكانت بينهم وقعة منكرة، وأصاب محمد بن أبي خالد سهم فأثخنه، فحمل إلى جبل وأقام أياماً وتوفي، فحمل إلى بغداد.
وقام عيسى بن أبي خالد بالعسكر وقد كان محمد بن أبي خالد أسر زهير بن المسيب الضبي فلما أدخل محمد بن أبي خالد إلى بغداد ميتاً، وثب الأبناء على زهير بن المسيب وهو محبوس، فقتلوه، وشدوا في رجله حبلا، وجروه في طرق بغداد ومثلوا به، فاجتمع قواد الحربية فبايعوا لإبراهيم ابن المهدي، المعروف بابن شكلة لخمس ليال خلون من المحرم سنة 202، ودعي له بالخلافة وسمي بالمرضي ونزل الرصافة وصلى بالناس ببغداد في مسجد المدينة وعسكر بكلواذي ومعه الفضل بن الربيع وعيسى بن محمد بن أبي خالد وسعيد بن الساجور وأبو البط، وكتب بالولايات وعقد الألوية واستقامت له الأمور، وأطاعه الأبناء وأهل الحربية وما والاها، إلا من كان في طاعة المأمون فإنهم كانوا يحاربون مع حميد بن عبد الحميد الطائي الطوسي ويصيحون: يا عنقود، يا مغني! وكان إبراهيم أسود شديد السواد، وبنصف وجهه شامة، سمج المنظر، وكانوا يدعونه عنقوداً لذلك، ثم وثب أسد الحربي وكان من أصحاب إبراهيم في جماعة من الحربية فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون وأخذ عيسى بن أبي خالد أسداً الحربي وابنا له، فقتلهما وصلبهما.
وكان حميد بن عبد الحميد نازلا بموضع يقال له خان الحكم بنهر صرصر فراسل عيسى بن أبي خالد ليجتمعا، ثم صار حميد إلى بغداد فصلى خلف ابن أبي رجاء القاضي صلاة الجمعة، وانصرف إلى معسكره.
وخرج مهدي بن علوان الشاري بناحية عكبراً فخرج إليه المطلب ابن عبد الله فواقعه وقعة بعد وقعة، ثم هزمه مهدي فانصرف المطلب منهزما إلى بغداد وخرج إليه أبو إسحاق بن الرشيد فواقعه، وهزم مهدي ولم يزل يتبعه حتى أسره فمن عليه المأمون وألزمه بابه، وألبسه السواد فلم يزل على باب المأمون حتى مات.
وخرج المأمون من مرو متوجها إلى العراق سنة 202، ومعه الرضا وهو ولى عهده وذو الرئاستين الفضل بن سهل وزيره، وقد كتب للفضل الكتاب الذي سماه كتاب الشرط والحباء يصف فيه طاعته، ونصيحته، وعظته، وعنايته، وذهابه بنفسه عن الدنيا، وارتفاعه عما بذل من الأموال والقطائع والجوهر والعقد ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب، لا يدفعه، ولا يمنعه، ووقع فيه المأمون بخطه، وأشهد على نفسه، فلما صار المأمون بقومس قتل الفضل بن سهل وهو في الحمام، دخل عليه غالب الرومي وسراج الخادم بالسيوف فقتلهما المأمون جميعاً، وقتل قوماً معهما، وقتل ذا العلمين علي بن أبي سعيد وكان ابن خالة الفضل بن سهل وقال إنه الذي دس في قتله، ووجه برأسه إلى الحسن بن سهل إلى العراق وقتل خلف بن عمر البصري المعروف بالحف وموسى البصري وعبد العزيز بن عمران الطائي وغالباً الرومي وسراجاً الخادم وأقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد جزع، ولم يوجد للفضل مال ولا ضيعة، ولا فرس، ولا آنية، إلا خمسة أعبد وفرساً وبرذوناً.
قال غسان بن عباد قلت للفضل يوماً: أيها الأمير لو أمرت أن يتخذ لك ضياع وعقد، فقال: ولم؟ ويحك إن دام ما أنا فيه فالدنيا كلها ضيعتي وعقدي، وإن زال فما أنا فيه لا يزول إلا باصطلام. قال أبو سمير: وكنت أسمع الفضل بن سهل في أيام المأمون كثيراً ما يقول:
لئن نجوت أو نجت ركائبي ... من غالب ومن لفيف غالب
إني لنجاء من الكرائب
وهو لا يدري من غالب ولا يذهب إلا إلى قريش، حتى دخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون فقتله، فقال الفضل: لك مائة ألف دينار. فقال: ليس بأوان تملق ولا رشوة وقتله.
وكان المأمون كلما مر ببلد أقام فيه، حتى يصلح حاله، وينظر في مصالح أهله، واستخلف على خراسان عند خروجه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الحسن بن سهل وكانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها جميعاً الطاعة وأسلم ملك التبت وقدم على المأمون إلى... بصنم له من ذهب على سرير من ذهب، مرصع بالجوهر، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرف الناس هداية الله لملك التبت ولم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها، فلما فصل المأمون عن خراسان قلت مداراة رجاء بن أبي الضحاك وضعف في تدبيره، ولم يكن بالحازم في أموره فخاف المأمون أن يضطرب خراسان فعزله، وولى غسان ابن عباد فأحسن السيرة واستمال ملوك النواحي.
وفاة الرضا عليولما صار إلى طوس توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بقرية يقال لها النوقان أول سنة 302 ولم تكن علته غير ثلاثة أيام، فقيل إن علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم، وأظهر المأمون عليه جزعا شديدا. فحدثني أبو الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتى النعش يقول: إلى من أروح بعدك، يا أبا الحسن! وأقام عند قبره ثلاثة أيام يؤتى في كل يوم برغيف وملح، فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكانت سن الرضا أربعا وأربعين سنة. وقال أبو الحسن بن أبي عباد سمعت الرضا يقول: إن مشي الرجال مع الرجل فتنة للمتبوع ومذلة للتابع وسمعته يقول: إن في صحف إبراهيم: أيها الملك المغرور! إني لم أبعثك لتبني البنى، ولا لتجمع الدنيا، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من كافر.
وقال للمأمون: ما التقت فئتان قط إلا نصر الله أعظمهما عفواً.
وقال: إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن، فيتعظ، فأما صاحب سيف وسوط فلا! إن من تعرض لسلطان جائر فأصابته منه بلية، لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر فيها.
وقدم المأمون مدينة السلام في شهر ربيع الأول سنة 204، ولباسه ولباس قواده وجنده والناس كلهم الخضرة، فأقام جمعة، ثم نزعها، وأعاد لباس السواد.
وتغيب إبراهيم بن المهدي فلم يدر أين هو، وخرج من منزله، ومعه عبد الله بن صاعد كاتبه وامرأة من أهله، فلما صار في الطريق قال لعبد الله ابن صاعد: ارجع إلى أمي فسلها أن تدفع الجوهر الذي عندها! فرجع عبد الله ومضى هو، فخفي موضعه، وهرب الفضل بن الربيع إلى البصرة فاستتر عند يزيد بن المنجاب المهلبي وأمر المأمون أن يقبض ضياعه وأمواله وعقاراته، ثم صار إلى باب المأمون طالبا للأمان وقد كان بلغ المأمون أنه مات، وشهد عنده بذلك جماعة، فلما قيل للمأمون: هذا الفضل بن الربيع! قال: إن كان بعث من الآخرة فقد بعث الرشيد معه. ثم أدخله، فأعطاه الأمان ومن عليه وأحضره ليلة فقال: هبك تعتذر في محمد بأنه كانت له في عنقك بيعة من الرشيد فما عذرك في ابن شكلة وإنما محله محل المغنين والسفهاء، إذ قويت عزمه على ما خرج إليه من خلعي بعد أن صارت بيعتي في عنقك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما أجد قلبي مكانه، وقد عظم جرمي عن الاعتذار، وجل ذنبي عن الإقالة، وما أرجو الحياة إلا من سعة عفوك فهب دمي لحرمتي بآبائك! فأمسك عنه ورد عليه ضيعة من ضياعه مبلغ مالها ثلاثمائة ألف درهم وستون ألفاً، قدرها لقوته وقوت عياله.
وأنزل المأمون محمد بن صالح بن المنصور دار الفضل بن الربيع وزوجه بخديجة ابنة الرشيد وأمر له بألفي ألف درهم مكافأة على ما كان من مسارعته إلى بيعته وطاعته والامتناع من بيعة إبراهيم وأعفاه من الركوب إلى بابه وإلى دار العامة فكان يركب مكانه كاتبه جعفر بن وهب وزوج محمد بن الرضا ابنته أم الفضل وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله وعلي بن أبي طالب فلم تلد منه، وولى صالح ابن الرشيد البصرة فاستخلف أبا الرازي محمد بن عبد الحميد وولى أبا عيسى ابن الرشيد الكوفة فاستخلف محمد بن الليث وكان طاهر بن الحسين بالجزيرة في محاربة نصر بن شبث فوجه إليه بعهده على الجزيرة والشام ومصر وولى دينار بن عبد الله الجبال وقد كان الحسن بن سهل ولى الجبل بأمر المأمون الحسن بن عمرو الرستمي فخلع أيضاً، وأظهر المعصية، فلما قدم دينار حاربه، فأسره وأسر علي بن البهلول ووجه المأمون بنصر بن حمزة ابن مالك الخزاعي إلى الثغور وقد ولى الرشيد إياها ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وخيف معصيته فتسلمها منه نصر بن حمزة وتولى الثغور ولم يلبث ثابت بن نصر إلا أقل من جمعة حتى مات، فقيل إن نصر بن حمزة ابن مالك سقاه السم.
ووجه المأمون بعيسى بن يزيد الجلودي عاملا على اليمن وبها حمدويه بن علي بن عيسى متغلب قد أظهر المعصية بعد خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي فلما صار إلى مكة أشخص إبراهيم بن موسى إلى بغداد وولى مكانه عبيد الله بن الحسن العلوي بعهد من المأمون ونفذ الجلودي إلى اليمن وزحف إليه حمدويه فالتقوا لخمس خلون من جمادى الأولى سنة 205، فدعاه إلى الطاعة فامتنع، وشبت الحرب بينهم، فقتل من أصحاب حمدويه خلق عظيم، وانهزم حمدويه حتى دخل مدينة صنعاء فاتبعه الجلودي حتى صار إلى الدار التي كان ينزلها، فأخذه الجلودي وهو في ثوب جارية من جواريه، فقال له: سوءة لك قائد ابن قائد يقاتل الخليفة ويفر من الموت هذا الفرار؟ قد آمنك الله على دمك، حتى تصير إلى أمير المؤمنين فيحكم فيك برأيه. وأشخصه إلى المأمون.
ووثب الجند بطاهر بن الحسين وهو بالرقة يحارب نصر بن شبث فانصرف إلى بغداد وولى مكانه يحيى بن معاذ فأقام بالرقة حتى توفي، وولى المأمون طاهرا الشرط فأقام سنة، ثم شكا إلى أحمد بن أبي خالد الأحول كاتب المأمون ببرمه بالمقام بالباب ومحبته الخروج من بغداد وكان بينهما مودة وخلة، وجعل له ثلاثة آلاف ألف درهم، فاحتال أحمد بن أبي خالد أن كتب عن غسان بن عباد عامل خراسان كتاباً إلى المأمون فيه أن تعفني من خراسان فقال المأمون: والله ما أعرف في المملكة إلا خراسان وما أدري ما حمل هذا الجاهل على الاستعفاء إلا أن يكون ما رأى نفسه لها أهلاً. فقال له أحمد بن أبي خالد فولها طاهراً! فولى طاهر بن الحسين خراسان في أول سنة 206 مكان غسان بن عباد فقدمها طاهر وقد خرج حمزة الشاري بها، فوجه إليه بجيش بعد جيش ثم توفي حمزة فقام بعده ابنه إبراهيم بن النصر التميمي فلم يزل أيام طاهر وقدم غسان بن عباد من خراسان فحجبه المأمون عنه شهراً، ثم كتب الحسن بن سهل فيه، فأذن له فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك ما ذنبي؟ قال: تستعفيني من خراسان وهي المملكة بأسرها... فحلف له على ذلك، ووقف على تدبير أحمد بن أبي خالد.
وولى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة والشام ومصر والمغرب وصير إليه جميع أعمالها، وأمره بمحاربة المتغلبين بها، فنفذ عبد الله في سنة 206 بعد نفوذ أبيه إلى خراسان بشهرين، فصار إلى الرقة، فواقع نصر بن شبث النصري المتغلب بكيسوم وما والاها من ناحية الجزيرة، وكتب إلى سائر المتغلبين في النواحي من الجزيرة والشامات، وأنفذ إليهم الرسل في المعاون، فكتب القوم جميعاً انهم في الطاعة، وسألوه أن يكتب لهم الأمانات، فقبل ذلك منهم.
ووجه المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني إلى مصر، ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش، وأمرهما أن يتكاتفا على النظر، فإذا فتحا البلاد نظر عمر بن فرج الرخجي في أمر الخراج، وكان إلى خالد المعاون والصلاة، فسارا من العراق، وأخذا طريق البرية حتى صارا بفلسطين، ثم قدما إلى مصر، وعلي ابن عبد العزيز الجروي متغلب بأسفل الأرض، فلما قربا منه كتب إليهما أنه في السمع والطاعة، وأنه لم يزل هو وأبوه على ذلك، وأن كتبهما لم تزل بهذا، فصار خالد بن يزيد وعمر بن فرج إلى ناحية أسفل الأرض، فأقاما عدة شهور يكاتبان عبيد الله بن السري، ثم زحف إليه خالد، فأقام عمر بموضعه وخرج عبيد الله من الفسطاط لمحاربة خالد، فلما التقيا خذل خالدا أصحابه الذين كان الجروي أنفذهم معه، فحارب خالد ساعة في مواليه وعشيرته، وكاثره عبيد الله، وأسره، فأقام عنده مكرما في أحسن حال وأجملها، ثم حمله في البحر، وزوده، وأجازه إلى العراق وكان خالد يقول: ما شكرت أحداً شكري لعبيد الله بن السري، لقد أحسن إلي كل إحسان لو لا أنه حملني في البحر وأقام عمر بن الفرج بأسفل الأرض إلى أن حضر وقت الحج، فبذرقة ابن الجروي إلى مكة.
وكتب صاحب الخبر بخراسان يذكر أن طاهر بن الحسين صعد المنبر في يوم الجمعة، فخطب الناس، ولم يدع لأمير المؤمنين، فدعا المأمون بأحمد ابن أبي خالد ليلاً، فقال له: بعتني بثلاثة آلاف ألف درهم أخذتها من طاهر؟ فقال: أنا أخرج إليه، فأكفيك أمره، فأمره أن يتجهز، ثم ورد كتاب طاهر على أحمد بن أبي خالد يسأله أن يوجه إليه محمد بن فرخ العمركي، وكان أحب الناس إلى طاهر، وأوثقهم في نفسه، فقال أحمد بن أبي خالد للمأمون: يا أمير المؤمنين! إن محمد بن فرخ يقوم بما كنت أقوم به، فأقطع عدة قطائع، ووصل بمال عظيم، ونفذ إلى خراسان، فأقام عنده شهراً حتى توفي، فيقال إن ابن أخي العمركي سقاه سما فقتله.
وتوفي طاهر بن الحسين بخراسان في سنة 207، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، فولى المأمون ابنه طلحة بن طاهر خراسان، وأنفذ أحمد بن أبي خالد في الجيش الذي كان ضمه إليه، فنفذ إلى خراسان، وأقدم معه الأفشين حيدر بن كاوس الأشروسني وجملة من أبناء ملوك خراسان.
وبلغ المأمون أن بشر بن داود المهلبي عامل السند قد خالف، فوجه حاجب ابن صالح عاملاً مكانه، فلما صار بمكران ألفي أخا لبشر بن داود، فقال له: سلم العمل، إن سبيل كتاب العمل أن يقرأه بشر ليكتب بالتسليم، وقال: إنما أنا من قبل بشر، وبشر بالمنصورة، وبينك وبينه يومان، فإذا اجتمعت معه وكتب إلي بالتسليم سلمت إليك. فوقعت بينهما المنازعة، وكتب إلى المأمون يخبره أن بشرا قد خلع، وأنه على محاربته، فأحضر المأمون محمد بن عباد المهلبي، وكان سيد أهل البصرة في زمانه، فقال: قد خالف بشر! فقال: معاذ الله! قال: فاخرج مع غسان بن عباد! فوجه مع غسان بجماعة من القواد وبموسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وأمره أن يولي موسى البلد، فلما صار غسان إلى بلاد السند خرج إليه بشر، وأعطاه الطاعة من غير حرب ولا منازعة، فأشخصه، وولى البلد موسى بن يحيى، فلم يزل موسى في البلد حتى مات، فصار ابنه عمران بن موسى مكانه، ولما قدم بشر بن داود العراق ومن كان معه من آل المهلب أطلقهم المأمون جميعاً، وأحسن إليهم.
وظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي بن شكلة في أول سنة 208، ظفر به ليلاً، فجلس في تلك الليلة جلوسا عاما، وحبسه عند أحمد بن أبي خالد بغير وثاق، وأمره بالإحسان إليه، ثم كتب إبراهيم من حبسه، وهو لا يشك أنه يقتله، كتابا إلى المأمون قال فيه: ولى الثأر، يا أمير المؤمنين، محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، من تناوله الاغترار بما مد له من الرخاء أمر عادية الدهر على نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذي ذنب دوني، فإن عفوت
فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع المأمون في رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة بينهما عفو الله، وهو من أكثر ما نسأله. وخلى سبيله، وعفا عنه، وقال: إني شاورت جميع أصحابي في أمرك حتى شاورت أخي أبا إسحاق وابني العباس، فكلهم أشار علي بقتلك، فأبيت إلا العفو عنك. فقال: إما أن يكونوا قد نصحوك في عظم الخلافة وتدبير الملك، فقد فعلوا، ولكنك أبيت أن تستجلب نصر الله من حيث دعوك. وكان المأمون شاور فيه أصحابه جميعاً، فكل أشار بقتله، فقال لهم: إن قتلته كنت متبعا للملوك قبلي فيما فعلته بمن ناواها ونازعها، وإن عفوت كنت أمه وحدي.
ووثب ابن عائشة، وهو إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، في جماعة معه منهم: مالك بن شاهي النفري من أهل السواد، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، فدونوا الدواوين، وأثبتوا أسماء الرجال، وسموا العمال، فظفر به المأمون، فحبسه في المطبق، فاستمال إبراهيم بن عائشة أهل المطبق، حتى حملهم على الوثوب، وأن يشغبوا، وتنصروا، وشدوا الزنانير في أوساطهم والصلب في أعناقهم، ورفع محمد بن عمران صاحب البريد خبرهم، فركب المأمون إلى المطبق ليلاً، لما صح عنده الخبر، وأحضر جماعة من قواده، ودعا بإبراهيم، فضرب عنقه وقتل الذين كانوا معه، وهم: الإفريقي، وفرج البغوارى، وصلب ابن عائشة ببغداد ثلاثة أيام، ثم أنزله، وكان ذلك في سنة 210.
وشخص المأمون من بغداد إلى فم الصلح، وهو منزل الحسن بن سهل فتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، فعرس بها هناك، فكان عرسا لم ير مثله، فأنفق الحسن بن سهل على المأمون وجميع من معه من أهل بيته وكتابه وأصحابه وجميع من حوى عسكره من الاتباع، أيام مقام المأمون، ونثر عليهم الضياع والقرى والجواري والوصفاء والخيل والدواب، فكانت تكتب أسماء هذه الأنواع في رقاع صغار، وتجعل في بنادق المسك، وتنثر على الناس، فكلما أخذ إنسان بندقة نظر إلى الرقعة فيها، ثم قبضها من الوكلاء، ثم نثر على الناس الدراهم والدنانير وفار المسك وقطع العنبر، وأقام المأمون أربعين يوماً ثم انصرف.
وفتح عبد الله بن طاهر كيسوم، فظفر بنصر بن شبث في هذه السنة، وهي سنة 210، وحمله إلى المأمون.
فحكى ابن منصور بن زياد، وكان على بريد عبد الله بن طاهر، وكتب بخبره إلى المأمون: أن عبد الله بن طاهر يخرج في كل ليلة من عسكره، ويخرج إليه نصر بن شبث، فيجتمعان ويتحدثان، فدعا المأمون بعمرو بن مسعدة، فأمره أن يظهر علة يحتاج أن يقيم لها في منزله، وأن يخرج على خمس عشرة دابة من دواب البريد، ولا يعلم أحداً حتى يصير إلى عبد الله بن طاهر، ويقول له: يا ابن ألفاًعلة، لقد هم أمير المؤمنين أن يؤمر عبدا أسود، ثم يوجهه مكانك، ويجعلك سائساً له، وأمر عمراً أن لا يسلم عليه، ولا يسمع له جواباً، فخرج عمرو، فلما اجتمع مع عبد الله لم يسلم عليه حتى بلغه الرسالة على رؤوس الناس، ثم انصرف، ولم يسمع منه جواباً، فلما كان يوم الأربعين من مصير عمرو وافى نصر بن شبث، وسار عبد الله يستقري الشام بلداً بلداً لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل، وهدم الحصون وحيطان المدن وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر، وضمهم جميعاً، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا خالع إلا خرج من قلعته وحصنه.
وسار عبد الله بالقوم جميعاً إلى مصر، فلقيه علي بن عبد العزيز الجروي المتغلب بأسفل الأرض، فأعلمه أنه لم يزل هو وأبوه في الطاعة، فقبل قوله، وسيره معه حتى نزل ببلبيس، فواقع عبيد الله بن السري وقعات، وجعل أصحاب عبيد الله يستأمنون شيئاً بعد شيء، حتى لم يبق معه ممن كان يعتمد عليه أحد، فلما رأى ذلك طلب الأمان، على أن يسوغ ما أخذ، ويطلق له جباية الصعيد شهرين، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه الأمان، وقال: لو شرط أن أضع له خدي في الأرض يطأ عليه لفعلت، وكان ذلك قليلاً عندي في جنب ما أؤثره من حقن الدماء، فخرج إليه لعشر بقين من صفر سنة 211.
ودخل عبد الله بن طاهر الفسطاط، وكتب بالفتح، وأقر عبد الله بن طاهر عبيد الله بن السري على الصعيد شهرين، ثم سيره إلى العراق، ثم ولى العباس ابن هاشم بن باتيجور البلد.
وكان قوم من الأندلس قد تغلبوا بالإسكندرية، فزحف إليهم عبد الله، فحاصرهم حصارا شديدا، ثم آمنهم، وفتح الإسكندرية سنة 212، وولاها إلياس ابن أسد الخراساني، وانصرف إلى الفسطاط، ثم صار إلى العراق، وحمل معه الجروي وجماعة من أهل مصر والشام واستخلف على مصر عيسى بن يزيد الجلودي.
وكان أحمد بن محمد العمري، من ولد عمر بن الخطاب، قد وثب باليمن، وأخرج محمد بن نافع، واحتوى على بيت المال، فولى المأمون أبا الرازي محمد بن عبد الحميد اليمن، فلما قدم ضرع العمري إلى الأمان، فأعطاه إياه، ثم مكر به أبو الرازي، فأخذه وجماعة من أهل بيته وولده، فأوثقهم في الحديد، وحملهم إلى باب المأمون وأخذ أهل اليمن بأداء خراجين جباهما ابن العمري، ووجه إلى إبراهيم بن أبي جعفر الحميري المعروف بالمناخي، وكان في جبل له منيع، يأمره بالمصير إليه، فلم يصر إليه، فزحف إليه يريده، فلما صار إلى الجبل سلك طريقاً ضيقاً، وخرج ابن أبي جعفر، فقتله وقتل خلقاً من أصحابه، وأسر خلقاً، فقطع أيديهم وأرجلهم، وخلى سبيلهم، وغلب إبراهيم بن أبي جعفر على اليمن، وخرب مدينة السلطان وكان ذلك في سنة 212.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن مالك الخزاعي في ذي الحجة، وفيها كثر الحريق في الكرخ. وكان المأمون قد ولى طاهر بن محمد الصنعاني أرمينية وآذربيجان، وقيل بل وجهه هرثمة بن أعين من همذان، وهو متوجه إلى العراق، فصار إلى ورثان، من عمل آذربيجان، وكاتب قواد أرمينية ووجوه جندها، فبايعوا للمأمون، وكان العامل عليها من قبل المخلوع إسحاق بن سليمان، فكان معه عمر، والحزون، ونرسى، وعبد الرحمن صار بطريق الران وجماعة من البطارقة، وأقبل يريد برذعة ليوقع بأهلها لإخراجهم ابنه، فوجه إليهم طاهر عامل المأمون زهير بن سنان التميمي في خلق عظيم، فالتقوا، فاقتتلوا عامة يومهم، ثم انهزم إسحاق بن سليمان وأصحابه وأسر ابنه جعفر بن إسحاق بن سليمان فوجهه ومن معه من الأسارى إلى المأمون.
ولم يقم طاهر الصنعاني إلا أياماً حتى خرج عليه عبد الملك بن الجحاف السلمي خالعا، ووثب في أهل البيلقان فحصروا طاهراً في مدينة برذعة، فأقام محصوراً عدة أشهر، وبلغ المأمون، فولى سليمان بن أحمد بن سليمان الهاشمي، فقدم البلد، وطاهر محصور، فأخرجه وصرفه، وأعطى عبد الملك الأمان، واستقامت البلاد، ثم ولى حاتم بن هرثمة بن أعين أرمينية، فقدم البلد، وقد وقعت بين المعتزلة والجماعة العصبية، فبعضهم يقتل بعضاً، حتى كادوا يتفانون ثم اصطلحوا، ولم يقم حاتم بن هرثمة في البلد إلا أياماً قلائل حتى أتاه خبر موت أبيه هرثمة والحال التي مات عليها، فخرج من برذعة، حتى نزل كسال، فبنى بها حصناً، وعمل على أن يخلع، وكاتب البطارقة ووجوه أهل أرمينية، وكاتب بابك والخرمية، وهون أمر المسلمين عندهم فتحرك بابك والخرمية، وغلب بابك في عمل آذربيجان.
وبلغ المأمون الخبر، فولى يحيى بن معاذ بن مسلم مولى بني ذهل أرمينية... ففعل ذلك، وواقع يحيى بن معاذ وقعات لم يظهر عليه في وقعة منها، وكان المأمون قد أمر عيسى بن محمد بن أبي خالد القائد المحارب، كان في أيام المخلوع، فلما لم يحمد أثر يحيى، ولى عيسى أرمينية وآذربيجان، وأمره أن يجهزهم ويعطيهم الأرزاق من ماله، فجهزهم عيسى بن محمد من ماله، وهم الذين كانت ناحيتهم بمدينة السلام، وخرج، فلم يبق ببغداد أحد من الجند الحربية الذين كانوا في الفتنة فلما صار في البلد أتاه محمد بن الرواد... أن يمشي وجميع رؤساء تلك البلاد، فاحتشد لقتال بابك، وأخذ في مضيق، فلقيه بابك فيه، فهزمه، فمر عيسى مولياً لا يقف على شيء، فصاح به بعض شطار الحربية: إلى أين يا أبا موسى؟ فقال: ليس لنا في قتال هؤلاء بخت، إنما نخشى في قتال المسلمين.
وانصرف من آذربيجان إلى أرمينية، وقد عصى سوادة بن عبد الحميد الجحافي، فعرض عليه عيسى أن يوليه أرمينية، فأبى إلا محاربته، فحاربه فهزمه بعد جهد، واستقامت لعيسى بن محمد أرمينية، واستعظم أمر بابك بالبذ، فولى المأمون زريق بن علي بن صدقة الأزدي، فلم يصنع شيئاً، فولى محمد ابن حميد الطوسي، فلما بلغ زريقاً خبر صرفه خلع، وأظهر المعصية.
وقدم محمد بن حميد البلد، فحاربه زريق، فقتل محمد أصحابه، ثم طلب الأمان، فأمنه، وحمله إلى المأمون، وأقام محمد بن حميد حتى نقى البلاد ممن كان يخاف ناحيته، فلما أمكنه محاربة بابك عبا لقتاله، وزحف إليه، فحاربه محاربة شديدة له في كل ذلك الظفر، ثم صار إلى موضع ضيق فيه حزونة، فترجل ابن حميد وجماعة معه، فحمل عليهم أصحاب بابك، فقتل محمد وجماعة من وجوه أصحابه، وانهزم العسكر، وأقام على الجيش مهدي بن أصرم قرابة لابن حميد، وكان ذلك في أول سنة 214.
ولما قتل محمد بن حميد ولى المأمون عبد الله بن طاهر، وعقد له على كور الجبال وأرمينية وآذربيجان، وكتب إلى القضاة وعمال الخراج بالانتهاء إلى أمره، فخرج عبد الله، وأقام بالدينور، وكتب إلى مهدي بن أصرم، ومحمد بن يوسف، وعبد الرحمن بن حبيب، القواد الذين كانوا مع محمد بن حميد، أن يقيموا بمواضعهم.
وتوفي طلحة بن طاهر بخراسان، فولى المأمون مكانه عبد الله، ووجه إليه بعهده وعقده مع إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن أكثم، قاضي القضاة، فنفذ عبد الله إلى خراسان في هذه السنة، فولى المأمون آذربيجان ومحاربة بابك علي بن هشام، وولى عبد الأعلى بن أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، فقدم البلد، وقد تغلب على جرزان محمد بن عتاب، وانضمت إليه الصنارية، فحاربه فهزمه ابن عتاب، ولم يكن له ضبط ولا معرفة بالحرب، فولى المأمون خالد بن يزيد بن مزيد، فأخرج من كان في الحبس بالعراق من عشيرته، وشخص إلى الجزيرة، فانضم إليه خلق عظيم من ربيعة، ثم صار إلى البلد، فلما قدم خلاط أتاه سوادة بن عبد الحميد الجحافي فأمنه، ثم صار إلى النشوي، وقد كان تغلب بها يزيد بن حصن مولى بني محارب، فهرب منه يزيد بن حصن، وأتى كسال، فأقام بها، وبعث إلى محمد بن عتاب، وأتاه في الأمان مظهراً للطاعة، فأمنه خالد، ثم قال: الصنارية في طاعتك! فقال له محمد بن عتاب: ما هم لي في طاعة! فزحف إليهم خالد، فواقعهم بجرزان، فهزمهم، وأخذ مواشيهم، ثم دعا إلى الصلح، وصالحهم على ثلاثة آلاف رمكة وعشرين ألف شاة فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى وثبوا ووثب معهم القيسية، وشغبوا على خالد، وكان في القوم علي بن يحيى الأرمني، فأسره خالد، وأسر جماعة، ووجه بهم إلى المأمون، فصيرهم في ناحية أبي إسحاق المعتصم، وضمهم إليه، وفرض لهم. ثم ولى المأمون عبد الله بن مصاد الأسدي مكان خالد، وأشخص خالداً إليه، فخاف خالد أن يكون قد سعى عنده، فلما قدم ضمه إلى أخيه المعتصم، وقدم عبد الله بن مصاد الأسدي البلد، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، واستخلف ابنه علياً، فاضطرب البلد، وولى المأمون الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني، فقدم والبلد مضطرب، فقاتل أهل قلعة ليايقين، ففتحها، وانصرف إلى دبيل، فأقام بها، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل بن شعيب التفليسي في حمل الأموال، فدافعه إسحاق ورد رسله، فزحف إلى تفليس، فلما قرب منه خرج إليه، فأعطاه مالاً، فانصرف عنه.
وعقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على مصر والمغرب، ولابنه العباس على الجزيرة سنة 214، فقدم العباس الجزيرة، وقد وثب بلال الشاري، فاجتمع هو وأبو إسحاق وجماعة من معهما من القواد عليه، فظفروا به، فقتلوه.
ووثب القيسية واليمانية بمصر بناحية الحوف، فحاربهم عيسى بن يزيد الجلودي، فهزموه غير مرة، فوجه أبو إسحاق بعمير بن الوليد عاملاً على مصر مكان الجلودي، فحاربهم وأكثر فيهم النكاية، ثم قتل، فأمر المأمون أبا إسحاق أن ينفذ إليهم، فسار إليهم من الرقة، فدعاهم إلى الأمان، فأبوا عليه، فقاتلهم، فظفر بهم، وأسر عبد الله بن جليس الهلالي رئيس القيسية، وعبد السلام الجذامي رئيس اليمانية، فضرب أعناقهما وصلبهما على جسر مصر، وأسر منهم خلقاً عظيماً حملهم إلى بغداد.
ووشي يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم، وأن يكون مقيما حتى يوافيه، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة.
وخرج المأمون متوجها إلى أرض الروم في المحرم سنة 215، فغزا الصائفة، وافتتح أنقرة نصفا بالصلح ونصفا بالسيف، وأخربها، وهرب منويل البطريق منها، وفتح حصن شمال، ثم انصرف، فنزل دمشق ثم أتاه الخبر أن أهل البشرود من كور مصر قد ثاروا، فأمر أخاه أبا إسحاق أن يوجه الأفشين حيدر ابن كاوس، فوجه به وكف عاديتهم، ونفذ إلى برقة، وقد خالف أهلها فافتتحها، وأسر مسلم بن نصر بن الأعور، وانصرف إلى مصر سنة 216، وقد عاود أهل الحوف وأهل البشرود المعصية، فحاربهم.
وغزا المأمون أرض الروم سنة 216، ففتح اثني عشر حصناً، وعدة مطامير، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف، فوجه العباس ابنه، فلقيه، فهزمه، وفتح الله على المسلمين، ووجه إليه توفيل ملك الروم بالأسقف صاحبه، وكتب إليه كتابا بدأ فيه باسمه، فقال المأمون: لا أقرأ له كتابا يبدأ فيه باسمه ورده وكتب إليه توفيل بن ميخائيل: لعبد الله غاية الناس في الشرف، ملك العرب، من توفيل بن ميخائيل ملك الروم من قبل... وسأل أن يقبل منه مائة ألف دينار والأسرى الذين عنده، وهم سبعة آلاف أسير، وأن يدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم، ويكف عنهم الحرب خمس سنين، فلم يجبه إلى ذلك، وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة من ديار مضر. وتوفيت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور يوم الإثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة 216، وفي هذا اليوم ورد نعي عمرو بن مسعدة مات بإذنه وفي هذه السنة توفي طوق بن مالك الربعي في شهر رمضان.
واشتدت شوكة من كان يحارب الأفشين بمصر من أهل الحوف والبيما والبشرود، وهي من كور أسفل الأرض، فخرج المأمون إلى كور مصر، وقدم الأفشين في محاربة أهل الحوف، فزحف إليهم بنفسه، فقتلهم وسبى البيما، وهم قبط البشرود، واستفتى في ذلك فقيها بمصر يقال له الحارث بن مسكين مالكي، فقال: إن كانوا خرجوا لظلم نالهم، فلا تحل دماؤهم وأموالهم، فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، هؤلاء كفار لهم ذمة، إذا ظلموا تظلموا إلى الإمام، وليس لهم أن يستنصروا با... ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم. وأخرج المأمون رؤساءهم، فحملهم إلى بغداد.
ووشي محمد بن أبي العباس الطوسي، وأحمد بن أبي داود يحيى بن أكثم إلى المأمون تقربا إلى أبي إسحاق، فسخط عليه المأمون، وأمر بنفيه من عسكره، ونزع السواد عنه، وأخرجه إلى بغداد، وأمره أن لا يخرج من منزله، فأخرج من مصر، وأرسل موكلين به، وسخط أيضاً على عيسى بن منصور القائد الرافقي، وأخرجه من عسكره، وكان السخط عليهما في يوم واحد.
وكان مقام المأمون بمصر سبعة وأربعين يوماً، قدم لعشر خلون من المحرم، وخرج لثلاث بقين من صفر سنة 217، وقدم دمشق منصرفاً من مصر، فأقام أياماً، ثم شخص إلى الثغر، فنزل أذنة معسكرا بها، وقد كان أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي، وعبد الرحمن بن حبيب، وغيرهما من أصحاب محمد بن حميد الطوسي، الذين كانوا باذربيجان، صاروا إلى باب المأمون، فرقوا على علي بن هشام، ونسبوه إلى الخلاف والمعصية، وكتب العباس بن سعيد الجوهري صاحب بريد علي بن هشام بمثل ذلك، فوجه المأمون بعجيف بن عنبسة، وكان من أجل قواده وأحمد بن هشام، وأشخص عجيف علياً إلى أذنة، فأمر المأمون بضرب عنقه وعنق أخيه الحسين بن هشام، وكان المتولي لذلك منهما بيده ابن أختهما أحمد بن الخليل بن هشام، ونصب رأس علي بن هشام على قناة أياماً، ثم وجه به إلى برقة، فجعل في المنجنيق، ثم رمى به في البحر.
وغزا المأمون بلاد الروم في هذه السنة، وهي سنة 217، وصار إلى حصن من حصون الروم يقال له لؤلؤة، فأقام عليه حينا لم يفتحه، فبنى عليه حصنين أنزل فيهما أبا إسحاق والرجال، ثم قفل متوجها إلى قرية يقال لها سلغوس، وخلف على حصنه أحمد بن بسطام، وخلف أبو إسحاق على حصنه محمد بن الفرج بن أبي الليث بن الفضل، وصير عندهم زاد سنة، وخلف المأمون على جميع الناس عجيف بن عنبسة، فمكرت الروم أصحاب لؤلؤة بعجيف، فأسروه، فمكث في أيديهم شهراً، وكاتبوا ملكهم، فسار نحوهم، فهزمه الله بغير قتال، وظفر من كان في الحصنين من المسلمين بعسكره، فحووا كل ما كان فيه. فلما رأى ذلك أهل لؤلؤة، وأضر بهم الحصار، طلب رئيسهم الحيلة، فقال لعجيف: أخلي سبيلك على أن تطلب لي الأمان من المأمون، فضمن له ذلك، فقال: أريد رهينة. فقال: أنا أحضرك ابني، فوجه إلى خليفته أن يوجه إليه بفراشين نصرانيين، ويخوسان ويجملان، فوجه معهما بجماعة من غلمان نصارى في زي المسلمين ففعل ذلك، فدفعهم عجيف إليهم، وخرج، فلما صار إلى المعسكر كتب إليهم: أن الذين في أيديكم نصارى، وأنتم مخيرون فيهم، فكتب إليه رئيسهم: أن الوفاء حسن وهو من دينكم أحسن. فأخذ لهم عجيف الأمان وفتحها وأسكنها المسلمين.
وصار المأمون إلى دمشق سنة 218، وامتحن الناس في العدل والتوحيد، وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها، فامتحنهم في خلق القرآن، وأكفر من امتنع أن يقول القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته فقال كل بذلك، إلا نفراً يسيراً.
وكتب المأمون على عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكان أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء، وكبر بعد كل صلاة، فبقي ذلك سنة، وحول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة، وقال: هذه سنة أحدثها معاوية.
وكان بشر بن الوليد الكندي، قاضي المأمون ببغداد، قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر، وأطافه على جمل، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء، فقال: إني قد نظرت في قضيتك، يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثم أقبل على الفقهاء، فقال: أ فيكم من وقف على هذا؟ قالوا: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بشر بم أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم أبي بكر وعمر. قال: حضرك خصومه قال: لا قال فوكلوك؟ قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم؟ قال: لا! قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته، فيبطل الحد؟ قال: لا! قال: فأمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل كافرتان. قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة؟ قال: لا! قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق، أفيشهد عندك شاهداً عدل؟ قال: قد زكي أحدهما. قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين؟ قال: لا! قال: ثم أقمت الحد في رمضان، فالحدود تقام في شهر رمضان؟ قال: لا! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود يقام؟ قال: لا! ثم شبحته بين العقابين، فالمحدود يشبح؟ قال: لا! قال: ثم جلدته عرياناً، فالمحدود يعرى؟ قال: لا! قال: ثم حملته على جمل، فأطفته، فالمحدود يطاف به قال لا قال ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد، فالمحدود يحبس بعد الحد؟ قال: لا! قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك، خذوا عنه ثيابه، وأحضروا المحدود ليأخذ حقه منه. فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملا بحقوقه، عارفا بأحكامه، تقول الحق، وتعمل به، وتأمر بالعدل، وتؤدب من رغب عنه، إن هذا، يا أمير المؤمنين، حاكم أجد برأيه فأخطأ، فلا تفضح به الحكام، وتهتك به القضاء. فأمر به، فحبس في داره حتى مات.
ورفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك كان وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهوداً، فأحضرت علياً والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن... رووا أن فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وإن أبا بكر لم يجز شهادتهم. فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: إن علياً والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما أجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة، وكتب بذلك وسلمت إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وغزا المأمون بلاد الروم سنة 218، وقد استعد لحصار عمورية، وقال: أوجه إلى العرب، فأتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها، حتى أضرب إلى القسطنطينية، فأتاه رسول ملك الروم يدعوه إلى الصلح والمهادنة ودفع الأسرى الذين قبله، فلم يقبل، فلما قرب من لؤلؤة أقبل، فأقام أياماً وتوفي بموضع يقال له البدندون، بين لؤلؤة وطرسوس، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218، وسنة ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم، وكانت خلافته منذ يوم سلم عليه بالخلافة في حياة المخلوع إلى أن مات اثنتين وعشرين سنة، ومنذ قتل المخلوع عشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين، ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطة العباس بن المسيب ابن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين، ثم عبد الله بن طاهر، فاستخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه طاهر بن إبراهيم خليفة له على شرطه، وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين، ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلازي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام، ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد ابن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى.
وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا، وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر، وهو ابن معللة، وتوفي في حياته، ومحمد الأصغر، وعبيد الله، أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أيام المعتصم باللهوولي أبو إسحاق محمد بن الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها ماردة، وبايع له القواد والجند الذين كانوا مع المأمون، وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218.
وكانت الشمس يومئذ في الأسد ثلاث عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في الميزان خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في القوس درجة وعشر دقائق، والمريخ في القوس أربع درجات وخمساً وثلاثين دقيقة، وعطارد في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والرأس في الحمل عشر دقائق.
وامتنع بعض القواد من البيعة لمكان العباس من المأمون، فخرج إليهم العباس من مضربه، فكلمهم بكلام استحمقوه فيه، فشتموه، وبايعوا لأبي إسحاق، وانصرف المعتصم من الثغر يريد العراق، فلما صار بالرقة ولي غسان بن عباد الجزيرة وقنسرين والعواصم، ونفذ إلى بغداد، فقدمها يوم السبت مستهل شهر رمضان، وعلى جنده الديباج المذهب، وأقر عمال المأمون على أعمالهم ثلاثة أشهر، ثم استبدل بهم.
وخرجت المحمرة بالجبل، فقتلوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، وعرضوا لحاج خراسان، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، فوجه المعتصم هاشم بن باتيجور فكانت بينه وبينهم وقعة فهزموا هاشما، فوجه المعتصم إسحاق بن إبراهيم في جيش، واستخلف إسحاق على الشرط أخاه طاهراً، ونفذ فواقعهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأقام حتى أصلح البلد بعد أن نالته منهم شدة. وتحرك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بالطالقان، واتبعه جماعة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فلما لحقه هرب محمد بن القاسم من الطالقان إلى نيسابور، وذكر أن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأخذه عبد الله بن طاهر، فحمله إلى المعتصم، فحبسه في قصره فهرب منه ليلة الفطر سنة 219، فطلبوه، فلم يقدروا عليه.
ووثب الزط بالبطائح بين البصرة وواسط، فقطعوا الطريق، فوجه إليهم المعتصم أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فهزموه، فعقد المعتصم لعجيف في جمادى الأولى سنة 219، فطلبوا الأمان وخرجوا إليه على حكم المعتصم، فأدخلهم بغداد، فأجاز المعتصم لهم الأمان، وأسكنهم خانقين.
وسخط المعتصم على الفضل بن مروان وزيره، وبطش بجماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم، ووجه الفضل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمر بطلب أموالهم، فركب به إلى داره، وأخرج منها مالا عظيما، ثم نفى، فقال فيه راشد بن إسحاق:
يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني، يا أمير المؤمنين مناظرته فقال شأنك به فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال قال بل علمته من الرجال. قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟ قال: علمته شيئاً بعد شيء. قال فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال: بقي علي. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين. قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله. وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة 220، فاختط موضع المدينة التي بناها، وأقطع الناس المقاطع، وجد في البناء حتى بنى الناس القصور والدور، وقامت الأسواق، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة، وهناك دير للنصارى، فاشترى من أهل الدير الأرض، واختط فيه، وصار إلى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة، فبنى هناك عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وكان ابتداء ذلك في سنة 221، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.
واشتدت شوكة بابك، وكان محمد بن البعيث قد شايعه، وعصمة الكردي صاحب مرند في طاعته، فوجه المعتصم طاهر بن إبراهيم أخا إسحاق بن إبراهيم، عامل البلد، وأمره بمحاربة القوم، فلما قدم البلد كتب ابن البعيث إلى المعتصم يعلمه أنه في الطاعة، وأنه في التدبير على بابك وأصحابه، ثم مكر بعصمة الكردي صاحب مرند، فتزوج ابنته، وصار إليه إلى مرند، ثم دعاه إلى منزله فحمل عليه وعلى من معه في الشرب، فلما سكروا حملهم في الليل إلى قلعته التي يقال لها شاهي، ثم أنفذهم إلى المعتصم، فأجازه المعتصم، وحباه، وأعطاه، وذلك لأنه أخبر طاهر بن إبراهيم بما كان منه، وسأله أن يبعث إليه الحديد والبغال يحملهم إليه، ففعل ذلك طاهر، فحملهم إلى المعتصم، وكتب إليه بخبرهم، فغلظ المعتصم على إسحاق، وقال: ما أرى عند أخيك شيئاً ولا أرى الرجلة إلا عند ابن البعيث.
ووجه الأفشين حيدر بن كاوس الأسروشني، وعقد له على جميع ما اجتاز به من الأعمال، وحملت معه الأموال وخزائن السلاح، فلما صار الأفشين إلى الجبل أخذ من كان به من الصعاليك والوجوه، فنفذ، فكانت بينه وبين بابك وقائع، وكان عسكره بموضع يقال له برزند، فصار بموضع يقال له سادراسب فأقام في محاربته حولا حتى كثرت الثلوج، ثم رجع إلى برزند، ثم وجه بخليفته إلى سادراست، وزحف وصير في كل ناحية... وصار يد روذالروذ، فخندق خندقاً، وبنى سوراً، وكمن الكمناء، وزحف إلى البذ يوم الخميس لتسع خلون من شهر رمضان سنة 222، فأرسل إليه بابك يسأله أن يكلمه، فوافقه، وبينهما نهر، فعرض عليه الأفشين الأمان، فسأله أن يؤخره يومه ذلك، فقال له: إنما تريد أن تحصن مدينتك، فإن أردت الأمان، فاقطع الوادي. فانصرف واشتدت الحرب، ودخل المسلمون مدينة البذ، وهرب بابك وستة من أصحابه، وأخرج من كان بالبذ من أسارى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة.
ومضى بابك على بغلة، وقد لبس ثياب الصوف، وكتب الأفشين إلى البطارقة بأرمينية وآذربيجان في طلبه، وضمن لمن جاء به ألف ألف درهم والصفح عن بلادهم، فصار بابك إلى رجل من البطارقة يقال له سهل بن سنباط، فأخذه، وكتب إلى الأفشين بخبره، فأنفذ، فأخذه، وكتب بالفتح وبما كان من تدبيره، فقريء الفتح، وكتب به إلى الآفاق في... حتى أصلح البلاد، وسار واستخلف منكجور الفرغاني خال ولده.
وقدم على المعتصم، وهو بسر من رأى، فتلقاه القواد والناس على مراحل، ودخلها لليلتين خلتا من صفر سنة 223، وبابك بين يديه على الفيل، حتى دخل إلى المعتصم، فأمر بقطع يدي بابك، ورجليه، ثم قتله وصلبه بسر من رأى، ووجه بأخيه عبد الله إلى بغداد، فقتله إسحاق بن إبراهيم، وصلبه على رأس الجسر في الجانب الشرقي من بغداد.
وكان الأفشين لما قدم آذربيجان ولي أرمينية محمد بن سليمان الأزدي السمرقندي، فقدمها، وقد خالف سهل بن سنباط بالران، وتغلب عليها، فدخل بلاده، فبايته سهل، فهزمه ووثب محمد بن عبيد الله الورثاني بورثان، فوجه إليه الأفشين منكجور ليحاربه، وتكلم في أمره علي بن يحيى الأرمني، فأمنه المعتصم، فقدم به علي بن يحيى، ثم ولى الأفشين أرمينية محمد بن خالد بخاراخذاه، فلما قدم حارب الصنارية، وصار إلى تفليس، فبره إسحاق بن إسماعيل، ووصله، ثم ولى أرمينية علي بن الحسين بن سباع القيسي، فاستضعفه أهل البلد، حتى كان يسمى اليتيم لضعفه ومهانته، فولى المعتصم خالد بن يزيد أرمينية وناحية من ديار ربيعة، فلما بلغ خبره أرمينية تحصن كل رئيس فيها، واشتد خوفهم منه، وعملوا على العصيان، فكتب منصور بن عيسى السبيعي، صاحب بريد أرمينية، إلى المعتصم بذلك، فرد خالداً، وأمر بإقرار علي بن الحسين، فلم يلبث إلا أياماً حتى شغب الجند عليه ببرذعة، وطلبوا أرزاقهم فقال: ليس لي شيء، والأموال عند أهل البلد، وطالب أهل البلد، فامتنعوا عليه، وتحصنوا في حصونهم ثم تراسلوا، واجتمعوا، فحاصروه ببرذعة، فوجه المعتصم حمدويه بن علي بن الفضل إلى البلد، فصار إلى النشوي، فخرج إليه يزيد بن حصن في الأمان... فكان لا يهيجهم خوفاً من أن يعلوا عليه. ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها، وأخرجوهم، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً، حتى جلس على الأرض، وندب الناس للخروج، ووضع الإعطاء، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة، وقدم أشناس التركي على مقدمته، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223، ودخل أرض الروم، فقصد أرض عمورية، وكانت من أعظم مدائنهم، وأكثرها عدة ورجالاً، فحاصرها حصاراً شديداً.
وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم فلما دنا وجه المعتصم بالأفشين في جيش عظيم، فلقي الطاغية، وأوقع به وهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، فأوفد طاغية الروم من قبله وفدا إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدوا أمري، وأنا أبنيها بمالي ورجالي، وأرد من أخذ من أهلها، وأخلي جملة من في بلد الروم من الأسارى، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة.
وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223، فقتل وسبى جميع من فيها وأخذ ياطس خال ملك الروم، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم، وانصرف، فلما صار بإذنه حبس العباس ابن المأمون لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار، فأمر أن تفرق على الجند، ويؤمروا أن يلعنوه، فأحصوا، فوجدوا ثمانين ألف مرتزق، فدفع إليهم دينارين دينارين، وتمم ذلك المعتصم من عنده، ودفع العباس إلى الأفشين مقيدا ليسيره، فلما صار بحند رأس توفي، وقيل إن الأفشين أطعمه طعاما كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء، فحمل إلى منبج، فدفن بها، وسخط المعتصم على عجيف بن عنبسة لأنه كان سبب معصيته، وحمله من أذنة في الحديد الثقيل، في فيه لبود قد خيطت عليه، وفي عنقه غل عظيم، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا، على مرحلة من نصيبين، مات، ودفن بها، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه، وأن يدعي صالحا المعتصمي، ولعنه، وبرئ منه.
وكان المازيار، وهو محمد بن قارن بن بنداد هرمز أصبهبذ طبرستان قد قدم على المأمون، بعد وفاة أبيه وتصيير مملكة طبرستان إلى عمه، فملكه المأمون على مدينتين من مدن طبرستان، وكتب إلى عمه في تسليمهما إليه، وخرج متوجها، فلما بلغ عمه ذلك أغاظه وبلغ منه، فخرج كأنه يتلقاه، وكان مع المازيار مولى لأبيه له دراية، فقال إن عمك لم يخرج في هذه الهيئة إلا ليفتك بك، فإذا قربت منه، وانفردت عن أصحابك، فإني أدفع إليك الحربة، فضعها في صدره، ففعل ذلك، فقتل عمه، واجتمعت عليه المملكة، وضبط البلد، وكتب إلى المأمون بأن عمه كان مخالفاً لملكه على البلد.
فلما عظم أمره كتب من جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار خرشاد محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين، ثم ذهب بنفسه أن يقول: موالي أمير المؤمنين، ثم تفاقم أمره حتى أظهر المعصية، وخلع، ويقال إن الأفشين كاتبه، وحمله على الخلع، فوجه المعتصم محمد بن إبراهيم لمحاربته في جيش، فنفذ وكتب إلى عبد الله بن طاهر أن يمده بالجيوش، فحاربه، وألح عليه عبد الله بالبعثة إليه بالجيوش، فحاربه، فقطعوا الأودية والحزونة، وخرج ليلاً، فوضع يده في يد قرابة لعبد الله، وقدم به سنة 226، فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك.
فحدثني محمد بن عيسى قال: قدم بالمازيار، وقد حبس الأفشين في ذلك الوقت، فجمع ابن داود بينه وبين المازيار، وقال له: هذا الأفشين الذي زعمت أنه حملك على المعصية. فقال له الأفشين: والله إن الكذب بالسوقة لقبيح، فكيف بالملوك؟ والله ما ينجيك كذبك من القتل، فلا تجعل الكذب خاتمة أمرك. فقال المازيار: والله ما كتب إلي، ولا راسلني، إلا أن أبا الحارث وكيلي أخبرني أنه لما قدم عليه بره وأكرمه، فرد الأفشين إلى الحبس، فضرب المازيار حتى قتل.
وكان أول سبب حبس الأفشين أن منكجور الفرغاني خال ولد الأفشين وخليفته باذربيجان، خلع هناك، وجمع إليه أصحاب بابك، وسار إلى ورثان، فقتل محمد بن عبيد الله الورثاني وجماعة من أولياء السلطان، فقال المعتصم للأفشين: أحضر منكجور! فوجه إليه الأفشين بأبي الساج، المعروف بديوداد، في جيش عظيم، ثم بلغ المعتصم أن منكجور إنما خلع بأمر الأفشين، وأنه إنما وجه إليه بأبي الساج مدداً له، فوجه محمد بن حماد على البريد، ووجه ببغا التركي، فحارب منكجور، فلما صدقه القتال ضرع منكجور إلى طلب الأمان، فأعطاه الأمان، وقدم به إلى سر من رأى، وقد حبس الأفشين، وكان حبسه في سنة 226، ثم توفي في الحبس، وصلب على باب العامة بسر من رأى عرياناً، ساعة من نهار، ثم أنزل فأحرق بالنار.
وكان الغالب على المعتصم أحمد بن أبي دواد الأيادي قاضي القضاة، والفضل ابن مروان الكاتب، ثم غضب على الفضل، فنفاه واستصفى ماله، فغلب عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه عجيف بن عنبسة، ثم الأفشين، ثم إسحاق بن يحيى بن معاذ وحجبه جماعة من الأتراك منهم: وصيف، وسيما الدمشقي، وسيما الشرابي، ومحمد بن حماد بن دنفيس، وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن في قصره المعروف بالجوسق، وكانت سنة 49 سنة وكانت ولايته ثماني سنين، وخلف من الولد الذكور ستة: هارون الواثق، وجعفر المتوكل، ومحمداً، وأحمد، وعلياً، والعباس.
أيام هارون الواثق باللهوولى هارون الواثق بالله بن أبي إسحاق، وأمه أم ولد، يقال لها قراطيس، يوم توفي المعتصم، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وكان ذلك من شهور العجم في كانون الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجدي خمس عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة.
وتوجه إسحاق بن إبراهيم ساعة بايع إلى بغداد، فسار ليلته أجمع، ووافى بغداد قبل أن يطلع الفجر، فوكل بالأطراف والسجون، وأحضر القواد والوجوه، فأخذ عليهم البيعة، ووثب عوام الجند والغوغاء بشعيب بن سهل قاضي الجانب الشرقي ببغداد، فانتهبوا داره، فوجه إسحاق جعفر معيشة، وإبراهيم الديرج، وجماعة معهما، فأخرجوا شعيب بن سهل، حتى صاروا به إلى دار إسحاق.
وأراد الواثق الحج في هذه السنة، وصحت عزيمته، فتأخر حجه، وأذن لأمه، فخرجت، ومعها جعفر بن المعتصم، فلما صارت بالكوفة توفيت، وأذن الواثق لأخيه جعفر في النفوذ، فنفذ وأقام الحج بالناس وكان أول من عقد له الواثق من قواده أشناس التركي ولاه من بابه إلى آخر عمل المغرب، فوجه عماله، وكتب إلى محمد بن إبراهيم الأغلب بولاية المغرب من قبله، وكان المدبر له أحمد بن الخصيب.
وولى الواثق خراسان إيتاخ التركي، والسند وكور دجلة، وكانت السند قد اضطربت، وقتل عمران بن موسى بن يحيى بن خالد عامل السند، فوجه إيتاخ إلى السند عنبسة بن إسحاق الضبي، فقدم البلد، وقد تغلب عليه عدة ملوك، فلما قدمها عنبسة سمعوا وأطاعوا وخرجوا إليه جميعاً خلا عثمان... فسار إليه عنبسة... فأقام على البلد تسع سنين.
ووثب ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، ووثب بفلسطين رجل يقال له تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب، ويلقب بالمبرقع، في لخم وجذام وعاملة وبلقين، وصار إلى كورة الأردن، وخلع قوم من البربر ببرقة، ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص، ووثبوا بعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة، فوجه الواثق رجاء بن أيوب الحضاري، فبدأ بدمشق، فأوقع بابن بيهس، فأسره، وسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره وحمله إلى سر من رأى، فوقف بباب العامة، ونودي عليه، وصار رجاء إلى مصر سنة 228، فنزل الجيزة، ثم توجه إلى برقة، فهرب من كان فيها، وظفر بجماعة منهم، فحملهم، ثم انصرف.
وتوفي عبد الله بن طاهر بخراسان سنة 230، وهو ابن سبع وأربعين سنة، ومنزله منها نيسابور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة، وولى الواثق طاهر بن عبد الله، وكان عبد الله بن طاهر قد ضبط خراسان ضبطا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة. وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز، وقطعوا الطريق، حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، فوجه الواثق بغا الكبير سنة 230، وأمره أن يقتل كل من وجده من الأعراب، فشخص قبل أوان الحج، فاجتمعت قيس من كل ناحية، وأكثرهم بنو سليم ورئيسهم عزيزة، فلقيهم، فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم عالماً حبسهم في دار يزيد بن معاوية بالمدينة، فنقبوا وخرجوا على أهل المدينة، فوثب عليهم أهل المدينة، فقتلوا عامتهم، وحمل بغا الباقين في الأغلال، ووافى إسحاق بن إبراهيم الموسم في تلك السنة.
وسخط الواثق على إبراهيم بن رباح، وكان إبراهيم مقدماً عنده بمكانه منه، أيام إمرته، فولاه ديوان الضياع، فتشاغل باللهو، وفوض أمره إلى نجاح بن سلمة كاتبه، وإلى يمان بن... النصراني، وتجافيا للناس عن أموال كثيرة، فكثروا عليه عند الواثق، فأمر بقبض ضياعه وأمواله، وصير ما كان إليه إلى عمر بن فرج الرخجي.
وكان أحمد بن الخصيب كاتب أشناس التركي، وهو يلي أعمال الجزيرة، والشامات، ومصر، والمغرب، والمدبر لذلك أحمد، فرفع إلى الواثق أنه قد حاز أموالا عظيمة، فسخط عليه، وقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم، وعذبا، وعذبت أمهما.
وتوفي أشناس في هذه السنة، فصيرت مرتبته وأكثر أعماله إلى إيتاخ التركي، وتركت ضياعه وأمواله بحالها لولده، ورد القيام بها إلى عبد الله بن صاعد، فلم يزل يقوم بها إلى أن توفي. وانتقضت أرمينية، وتحرك بها قوم من العرب والبطارقة والمتغلبين، وتغلب ملوك الجبال والباب والأبواب على ما يليهم، وضعف أمر السلطان، فولى الواثق خالد بن يزيد بن مزيد، وأمره بالنفوذ، وضم إليه كورا من كور ديار ربيعة، فسار في جيش عظيم، فلما بلغ المتغلبين بتلك البلاد خبره هابوه، وكتب أكثرهم يذكر أنه لم يزل في الطاعة، ووجهوا بالهدايا، فقال: لا أقبل إلا هدية من جاءني، فزاد ذلك في وحشتهم، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل يأمره أن يقدم عليه، فلم يفعل، فزحف إليه، فكاد أن يعطي إسحاق بيده.
واعتل خالد، فأقام أياماً، ثم مات، فحمل في تابوت إلى دبيل، فدفن فيها، وتفرق أصحابه، فعاد البلد إلى أقبح أحواله، فولى الواثق محمد بن خالد مكان أبيه، فكتب محمد يذكر انصراف أصحاب أبيه وسأل ردهم إليه، فوجه أحمد بن بسطام إلى نصيبين، فضرب، وحبس، وحرق الدور، فاجتمع إلى محمد أصحاب أبيه ومواليه، فحارب الصنارية وإسحاق، حتى أخرجه، وهزمهم، ولم يزل ضابطا للبلد.
وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً.
وكتب طاغية الروم يذكر كثرة من بيده من أسارى المسلمين ويدعو إلى الفداء فأجابه الواثق إلى ذلك، ووجه بخاقان الخادم... المعروف بأبي رملة والآخر جعفر بن أحمد الحذاء، وكان صاحب الجيش، وولى الثغر أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، فصاروا إلى موضع يقال له نهر اللامس على مرحلتين من طرسوس، وحضر ذلك الفداء سبعون ألف رامح سوى من ليس معه رمح، وكان أبو رملة وجعفر الحذاء واقفين على قنطرة النهر، فكلما مر رجل من الأسرى امتحنوه في القرآن، فمن قال إنه مخلوق فودي به، ودفع إليه ديناران وثوبان، فبلغ عدة من فودي به خمسمائة رجل وسبعمائة امرأة، وكان هذا في المحرم سنة 231.
وصار أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي إلى ابن أبي دؤاد في بعض أموره، فرده، فانصرف ذاما له، فجعل يبسط عليه لسانه ويشهد عليه بالكفر، فمال إليه قوم منهم، وهم لا يشكون أن ذلك غضب للدين، فاشرأبت قلوبهم للمعصية لسبب القرآن، وخرج قوم، فضربوا بطبل، وصاروا إلى ناحية صحراء أبي السري، فأخذوا، وأقروا عليه، فكتب الواثق إلى إسحاق في إشخاصه، فأشخصه إليه، فكلمه بكلام غليظ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات، وامتحنه في القرآن، فأبى أن يقول إنه مخلوق، وشتمه الواثق، فرد عليه، فضرب عنقه وصلبه بسر من رأى، ووجه برأسه، فنصب ببغداد في الجانب الشرقي.
وخرج محمد بن عمرو الشيباني الخارجي بديار ربيعة وأبو سعيد محمد ابن يوسف بها فخرج إليه مع الجند ومحمد بن عمرو في ثلاثمائة، أو أربعمائة من الخوارج فصار إلى سنجار، ثم انهزم إلى ناحية الموصل، فتبعه أبو سعيد، فأسره وأدخله نصيبين على بقرة، وحمله... إلى الواثق، فكتب إليه: ما ينبغي أن يقتل، فإنه لن يخرج خارجي ما دام حياً، فلم يزل محبوساً أيام الواثق.
وفرق الواثق أموالا جمة بمكة والمدينة وسائر البلدان على الهاشميين وسائر قريش والناس كافة، وقسم في أهل بغداد قسماً كثيرة مرة بعد أخرى على أهل البيوتات وعلى عامة الناس، وكثر الحريق ببغداد، وفرق على قوم من التجار أموالا جمة، وبنى لقوم وأسقط ما كان يؤخذ ممن يرد في بحر الصين من العشر.
وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك، وعمر بن فرج الرخجي، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه إسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ.
واعتل الواثق، واشتدت علته حتى حفر له في الأرض حفير كالتنور ثم سخن بحطب الطرفاء، وصير فيه مراراً، وكان يقول في علته: لوددت أني أقلت العثرة، وأني حمال أحمل على رأسي. وقيل له في البيعة لابنه، فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً.
وكان قد انتقل من قصور المعتصم، وبنى له قصرا على شط دجلة يقال له الهاروني، وجعل له دكتين: دكة غربية ودكة شرقية، وكان من أحسن القصور، وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وسنة يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الولد الذكور ستة: محمداً، وعلياً، وعبد الله، وإبراهيم، وأحمد، ومحمداً الأصغر.
أيام جعفر المتوكلوبويع جعفر بن المعتصم، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وكان أول من بايعه سيما التركي، المعروف بالدمشقي، ووصيف التركي، وركب إلى دار العامة من ساعته وأمر بإعطاء الجند لثمانية أشهر، وسلم عليه أولاد سبعة خلفاء مجتمعين: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأحمد بن الرشيد وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون وإخوته، وأبو أحمد بن المعتصم وإخوته، ومحمد بن الواثق، وأقر الأمور على ما كانت عليه أربعين صباحاً، ثم سخط على محمد بن عبد الملك واصطفى أمواله وعذبه حتى مات، وكان يعتد عليه بأمور كثيرة.
وكان محمد رجلاً شديد القسوة، قليل الرحمة، جباها للناس، كثير الاستخفاف بهم، لا يعرف له إحسان إلى أحد، ولا معروف عنده، وكان يقول: الحياء خنث، والرحمة ضعف، والسخاء حمق فلما نكب لم ير إلا شامت به وفرح بنكبته.
وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى ابن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى. ونهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن، وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاهم جميعاً، وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهى عن المناظرة والجدال فأمسك الناس.
وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك، فوجه كتابا في حمله، وقبضت أموالهما، وكان ذلك في سنة 233، وكان عمر محبوساً ببغداد ومحمد محبوساً بسر من رأى فأقاما سنتين.
واعتل أحمد بن أبي دؤاد من فالج، فولى المتوكل ابنه محمداً، المعروف بأبي الوليد، مكانه، وفي ذلك الوقت... قال أبو العيناء: قد حبس لأنه بطل لسانه، فكان لا يتكلم.
وسخط المتوكل على الفضل بن مروان، وقبض ضياعه وأمواله، ونفاه، ثم رضي عنه فرده. وسخط على أحمد بن خالد، المعروف بأبي الوزير، فاستصفى أمواله في سنة 234، ثم رضي عنه.
ولما سخط المتوكل على الكتاب قال لإسحاق بن إبراهيم: انظر لي رجلين أحدهما لديوان الخراج والآخر لديوان الضياع، فقال: هما عندي يحيى بن خاقان، وموسى بن عبد الملك بن هشام، وكان يحيى محبوساً قبل إسحاق بأموال كان يطلب بها من ولايته فارس، وموسى محبوس أيضاً، فأحضرهما فولى يحيى بن خاقان ديوان الخراج، وموسى ديوان الضياع وأمر المتوكل أن يسلم على ابنه محمد بالإمرة، ويدعى له على المنابر، فكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في ذي القعدة سنة 234.
واستأذن إيتاخ التركي في الحج في هذه السنة، فأذن له، فخرج في أحسن زي، واتصل بالمتوكل إنه كان على إيقاع الحيلة به، فلما لم يمكنه ذلك طلب الحج، فكتب إلى جعفر بن دينار، المعروف بالخياط، وكان عامل اليمن، بالمصير إلى مكة، وأن يأخذ إيتاخ بتعجيل الانصراف، فلما صار إلى مكة وافاه جعفر، فانصرف إلى العراق، ووجه إليه سعيد بن صالح الحاجب، فلقيه بالكوفة، فلما قرب من بغداد تلقاه إسحاق فأمره بنزع السواد والسيف والمنطقة وأدخله بغداد في قباء أبيض وعمامة بيضاء، حتى صار به إلى قصر خزيمة الذي على رأس الجسر، فحبسه وقيده، وقبضت ضياعه وأمواله، وبعث بسليمان بن وهب، وقدامة بن زياد كاتبيه، وبابنه منصور إلى بغداد، حتى جمع بينه وبينهم فبكتوه ووبخوه بما كان منه، وأمر ابنه منصور أن يبصق في وجهه، فأبى، وقال لأمير المؤمنين عبيد يأمرهم بما أحب. فأقام عدة أيام ثم مات، فطرح في دجلة. وقبض ما كان لهرثمة بن النصر عامل مصر لما تأدى إلى المتوكل من مكاتبته إيتاخ، ومطابقته إياه، وصير ما كان إلى إيتاخ من أعمال مصر إلى أبي إسحاق، ولما بلغ عنبسة بن إسحاق عامل إيتاخ على السند الخبر سار إلى العراق، فولى المتوكل مكانه هارون بن أبي خالد، ولم يعرض لعنبسة.
وتوفي الحسن بن سهل في هذه السنة، وكان قد لزم منزله قبل ذلك، فلم يكن يتصرف في شيء من أمور السلطان.
وكان محمد بن البعيث متغلباً على ناحية من آذربيجان يقال لها مرند فنافره حمدويه بن علي عامل آذربيجان، ثم... فحمله إلى باب السلطان، فلما قدم رفع على حمدويه بن علي، فضرب حمدويه وأخذ بأموال رفعت عليه، وخلى سبيل ابن البعيث، فأقام شهورا، وهرب من سر من رأى إلى مرند، وجمع إليه من كان بناحيته من الصعاليك، وأظهر المعصية والخلاف، فأخرج حمدويه بن علي من الحبس، وولى البلد، فسار إليه، فحاربه فقتله. وقوي أمر ابن البعيث، فوجه إليه زيرك التركي فحاربه، ثم وجه إليه عتاب بن عتاب، وكان البلد إلى بغا الصغير فأقام يحاربه شهوراً، ثم أعطاه الأمان، فلما صار إليه حمله إلى باب السلطان، فحبس في يد إسحاق، وذلك سنة 235، فأقام في الحبس قليلاً ومات، وحمل يحيى بن رواد أيضاً، فصير له اسم وقيادة.
وفي هذه السنة أمر المتوكل بلبس أهل الذمة الطيالسة العسلية وركوبهم البغال والحمير بركب الخشب والسروج التي فيها الأكر، وأن لا يركبوا الخيل والبراذين ويصيروا على أبوابهم خشباً فيها صورة الشياطين.
وبايع المتوكل بولاية العهد من بعده لابنه محمد ثم لابنيه أبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، وأحضر وجوه الناس من كل بلد إلى سر من رأى، فأعطاهم على البيعة الجوائز، وأعطى الجند لعشرة أشهر، ووجه الخطباء ليخطبوا بذلك.
وحج محمد المنتصر في هذه السنة، ومعه أم المتوكل، ووقف بالناس في الموسم، فكان محمود الأخلاق في طريقه... إلى كل واحد من ولاة العهد ناحية من الأرض، فصير إلى المنتصر مصر والمغرب، وكاتبه أحمد بن الخصيب، وصير إلى أبي عبد الله المعتز بالله خراسان والجبل، وكاتبه أحمد بن إسرائيل، وصير إلى إبراهيم المؤيد الشامات وأرمينية وآذربيجان وكاتبه محمد بن علي المعروف، وأمر المتوكل في هذا الوقت ألا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان، وأن تهدم الكنائس والبيع المحدثة، ومنعوا من العمارة، وكتب بذلك في الآفاق. وتوفي إسحاق بن إبراهيم، فصير إلى ابنه محمد ما كان إليه من أعمال خراج طساسيج السواد وأعمال مصر وكور دجلة وغير ذلك وزيادة أعمال... وفارس، وخلع عليه سبعة أيام في كل يوم سبع خلع، وعقد له ألوية كثيرة، وكان عنده بأفضل منزلة وأقر محمد عمال أبيه، وكان كاتبه على الخراج علي بن عيسى بن أزداد ترود، وعلى الرسائل ميمون بن إبراهيم، وعلى المظالم إسحاق ابن يزيد قرابة هارون بن جيغويه ووجه إلى فارس بالحسين بن إسماعيل مكان عمه محمد بن إبراهيم، وأمره أن يعذبه حتى يستخرج الأموال التي صارت إليه، فعذب حتى مات، وكان عبد الواحد بن يحيى، المعروف بحوط، قرابة الطاهر، على خراج مصر ومعاونها، فأقره محمد بن إسحاق على جنده.
وأقام محمد بعد أبيه سنة، ثم توفي، فصير مكانه عبد الله بن إسحاق على الشرط فقط، وأشخص كتاب محمد بن إسحاق الذين كانوا كتاب أبيه إلى باب المتوكل، فضرب عماله، وأشخص علي بن عيسى كاتب إسحاق بن إبراهيم على طساسيج السواد من سر من رأى، فولاه ديوان الخراج الأعظم، فأقام عليه شهرين، ثم صرفه وولى أحمد بن محمد بن مدبر مكانه، واستصفيت أموال الحسين وإسماعيل ابنيه، وأخذ أحمد بن محمد بن مدبر عماله على طساسيج السواد، فصالحهم على أموال عظيمة، وولى أحمد بن محمد بن مدبر سبعة دواوين ديوان الخراج، والضياع، والنفقات الخاصة، والعامة، والصدقات، والموالي، والغلمان، والجند، والشاكرية، فوفر أموالاً عظيمة.
وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصير إليه ما كان إلى إسحاق بن إبراهيم وصيرت أعمال مصر إلى عنبسة بن إسحاق الضبي من قبل المنتصر فلم يقم بمصر إلا شهوراً حتى أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركبا، فقتلوا خلقاً من المسلمين، وأحرقوا ألفاً وأربعمائة منزل، وكان رئيس القوم يقال له فطوتاريس وسبوا من المسلمات ألفاً وثمانمائة وعشرين امرأة، ومن نساء القبط ألف امرأة، ومن اليهود مائة امرأة، وأخذ السلاح الذي كان بدمياط والسقط، وتهارب الناس، فغرق في البحر نحو ألفين، وأقاموا يومين وليلتين، ثم انصرفوا.
وسخط المتوكل على محمد بن الفضل، كاتب ديوان التوقيع، لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ورفعه وأعلى مرتبته ومحله، وولاه، وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين، وكان ولاؤه في الأزد، وأمره أن يأمر كتاب الدواوين أن يؤرخوا الكتب باسمه، فاستعفاه من ذلك، غير أنه كان يولي عمال الخراج والضياع والبريد والمعاون والقضاة في جميع الدنيا، ولم يكن لأحد معه عمل، وكان مع ذلك محمودا عند الناس، وصير أباه على المظالم، ثم مات، فصير مكانه عمه عبد الرحمن.
وسخط المتوكل على محمد بن أحمد بن أبي دؤاد وعلى أبيه فولى يحيى ابن أكثم التميمي قضاء القضاة، وقبضت ضياع ابن أبي دؤاد وأمواله، وأحضر إلى بغداد، فلم يقم إلا قليلاً حتى مات... أكابر ولده، وأقام يحيى قليلاً، ثم ولى مكانه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي.
وخرج المتوكل إلى مدينة السلام سنة 238، فنزل الشماسية في المضارب، ثم دخل بغداد فشقها حتى خرج إلى المدائن للنزهة.
واضطرب أمر أرمينية، وتحرك بها جماعة من البطارقة وغيرهم، وتغلبوا على نواحيهم، فولى المتوكل أبا سعيد محمد بن يوسف، فخرج متوجها إلى البلد، ودعا بثيابه فلبسها، ودعا بفرد خفه فلبسه، وسقط ميتا من غير علة، فولى المتوكل ابنه يوسف، فخرج حتى صار إلى البلد، وكاتب البطارقة، فأجابه بعضهم، وخرج بقراط بن أشوط إليه على الأمان، فحمله إلى المتوكل و... فحاربه بنوان بن أليف فقتله، وفسد البلد فوجه المتوكل بغا الكبير، فلما صار بارزن أتاه موسى بن زرارة المتغلب علي بدليس في الأمان، فقيده وحمله إلى المتوكل ثم صار إلى موضع يقال له الباق، فيه أشوط بن حمزة فحاصره ثم آمنه، وحمله إلى سر من رأى، فضربت عنقه على باب العامة، وصلب.
وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل المتغلب بتفليس أن يقدم عليه، فكتب إليه أنه لم يخرج يداً من طاعة السلطان، فإن أراد الأموال أمده بها، وإن أراد الرجال أنفذهم إليه، وإن القدوم لا يمكنه، فزحف إليه فحاربه وظفر به، فضرب عنقه، وحمل رأسه إلى السلطان، وزحف إلى الصنارية، فحاربهم، فهزموه وفلوه، فانصرف عنهم منهزماً، وتتبع من كان أعطاه الأمان، فأخذهم، وهرب منهم جماعة، وكاتبوا صاحب الروم وصاحب الخزر وصاحب الصقالبة، واجتمعوا في خلق عظيم، وكتب بذلك إلى المتوكل فندب للبلد محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فلما قدم سكن المتحركون، وجدد لهم الأمان.
ووثب أهل حمص سنة 240، وأخرجوا عاملهم، وكان أبا المغيث موسى ابن إبراهيم، فخرج إلى حماة، فوجه المتوكل عتاب بن عتاب ومحمد بن عبدويه بن جبلة وصير محمداً عامل البلد، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور، ثم وثبوا فشغبوا عليه، فسكنهم ومكر بهم، فأخذ جماعة من وجوههم وأوثقهم في الحديد، فحملوا إلى باب المتوكل، ثم ردوا إليه، فضربهم بالسياط حتى ماتوا، وصلبهم على أبواب منازلهم، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم.
وولى المتوكل أحمد بن محمد خراج دمشق والأردن، وذلك أن كتاب الدواوين احتالوا عليه لخوفهم منه، وقالوا: إن البلد يحتاج أن يعدل، ولا يقوم بالتعديل إلا من ولي ديوان الخراج، فتوجه سنة 240 يعدل دمشق والأردن، وحمل كل أرض ما تستحقه.
وتوفي هارون بن أبي خالد عامل السند سنة 240، وكتب عمر بن عبد العزيز السامي المنتمي إلى سامة بن لؤي وهو صاحب البلد هنالك، يذكر أنه إن ولي البلد قام به وضبطه، فأجابه إلى ذلك، فأقام طول أيام المتوكل.
ووجه طاغية الروم برسل وهدايا، وكانت يسيرة، فبعث إليه بأضعافها، ووجه شنيفا الخادم وكان يقوم بإمنائه، فعقد له على الفداء، فقدم طرسوس سنة 241، وعامل الثغور أحمد بن يحيى الأرمني، وخرج إلى القنطرة اللامس، فنادى بالأسرى، وكان قد حمل من كل بلد من فيه من أسرى الروم، واشترى عبيد النصارى. وبنى المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها: الشاة، والعروس، والشبداز، والبديع، والغريب، والبرج، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار.
وكان انقضاض الكواكب ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة 241، ولم تزل تنقض من أول الليل إلى طلوع الفجر وكانت الزلازل بقومس ونيسابور وما والاها سنة 242، حتى مات بقومس خلق كثير، ونالتهم رجفة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان، فمات فيها زهاء مائتي ألف، وخسف بعده مدن بخراسان، ونال أهل فارس في هذا الشهر شعاع ساطع من ناحية الفلروم ورهج أخذ بإكظام الناس، فمات الناس والبهائم، واحترقت الأشجار، ونال أهل مصر زلزلة عمت حتى اضطربت سواري المسجد، وتهدمت البيوت والمساجد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة.
وعزم المتوكل على المسير إلى دمشق، ووصف له برد هوائها، وكان محرورا، فكتب إلى أحمد بن محمد بن مدبر يأمره باتخاذ القصور وإعداد المنازل، وكتب في إصلاح الطريق، وإقامة المنازل والمرافد، وسار من سر من رأى يوم الإثنين لعشر بقين من ذي القعدة سنة 243، ونزل دمشق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة 244، فنزل تلك القصور، فأقام ثمانية وثلاثين يوماً.
وبلغه عن بعض الموالي من الأتراك أمر كرهه، فشخص عن دمشق إلى العراق، ولم يسافر في ولايته غير هذه السفرة إلا في نزهة، ولم ير في سفرته هذه شيئاً، ولا نظر في مصلحة أحد. وأصابت الشام كله زلازل حتى ذهبت اللاذقية وجبلة، ومات عالم من الناس، حتى خرج الناس إلى الصحراء، وأسلموا منازلهم وما فيها، واتصل ذلك شهورا من سنة 245.
وانتقل المتوكل إلى موضع يقال له الماحوزة على ثلاثة فراسخ من قصر سر من رأى وبنى هناك مدينة سماها الجعفرية، وحفر فيها نهرا من القاطول، ونقل الكتاب والدواوين والناس كافة إليها، وبنى فيها قصرا لم يسمع بمثله، وذلك في المحرم سنة 246.
وسخط على نجاح بن سلمة الكاتب وكان أغلب كتابه عليه بعد عبيد الله بن يحيى، وكان لا يزال يتنضخ بأموال الناس، فسلمه إلى موسى بن عبد الملك بن هشام صاحب ديوان الخراج، وإلى الحسن بن مخلد بن الجراح صاحب ديوان الضياع، وكانا قد ضمناه بألفي ألف دينار، فعذبه موسى بن عبد الملك أياماً، فتوفي في يده، فقبضت ضياعه ودوره وأمواله، وكان ذلك في ذي القعدة سنة 246. وكان المتوكل قد جفا ابنه محمداً المنتصر فأغروه به، ودبروا على الوثوب عليه، فلما كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 دخل جماعة من الأتراك منهم: بغا الصغير وأوتامش صاحب المنتصر، وباغر وبغلو ويريد وواجن وسعلفة وكنداش وكان المتوكل في مجلس خلوة، فوثبوا عليه، فقتلوه بأسيافهم، وقتلوا الفتح بن خاقان معه.
وكانت خلافة المتوكل أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام، وسنة اثنتين وأربعين سنة، ودفن في قصره المعروف بالجعفري الذي كان سماه الماحوزة، وكان الغالب عليه الفتح بن خاقان، وعبيد الله بن يحيى الكاتب، وكان صاحب شرطة إسحاق بن إبراهيم، وبعده محمد بن إسحاق، وبعده محمد ابن عبد الله بن طاهر، وكان صاحب حرسه إسحاق بن يحيى بن معاذ، وبعده رجاء بن أيوب، ثم سليمان بن يحيى بن معاذ، وكان حجابه وصيفاً وبغا.
أيام محمد المنتصر وبويع محمد المنتصر بن جعفر المتوكل وأمه أم ولد يقال لها حبشية رومية في الليلة التي قتل فيها أبوه وهي ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة 247، وكانت الشمس يومئذ في العقرب خمس عشرة درجة واثنتين وخمسين دقيقة، والقمر في الميزان ستاً وعشرين درجة وأربع دقائق، وزحل في السنبلة إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الثور درجتين وخمسا وثلاثين دقيقة، والمريخ في القوس خمساً وعشرين درجة ودقيقتين، والزهرة في العقرب درجتين وخمساً وعشرين دقيقة، وعطارد في العقرب ثلاث درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وأحضر أخويه أبا عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد فأخذ عليهما البيعة وعلى جميع من حضر من الناس، وركب إلى دار العامة، وأعطى الجند رزق عشرة أشهر، وانصرف من الجعفري إلى سر من رأى، وأمر بتخريب تلك القصور، فنقل الناس عنها، وعطل تلك المدينة، فصارت خراباً، ورجع الناس إلى منازلهم بسر من رأى، وخلع أخويه المعتز والمؤيد وأشهد عليهما بخلعهما أنفسهما، ونقل أحمد بن محمد بن المدبر عن الشامات إلى مصر، وفرقت أعمال الشامات على جماعة.
وكان الغالب عليه أوتامش وأحمد بن الخصيب، وكانت خلافته ستة أشهر، وتوفي يوم السبت لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 248، وكانت سنة خمساً وعشرين سنة وستة أشهر.
؟
أيام أحمد المستعينوبويع أحمد بن محمد بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر وهو يوم السبت لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء خمس عشرة درجة وإحدى عشرة دقيقة، وزحل في السنبلة ست عشرة درجة وسبع دقائق، والمشتري في الجوزاء خمس عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء ثلاث درجات وسبعا وعشرين دقيقة، والزهرة في السرطان أربع عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة، وعطارد في السرطان أربع درجات واثنتين وعشرين دقيقة ولم يكن يؤهل للخلافة ولكنه لما توفي المنتصر استوحش الأتراك من ولد المتوكل وخشوا سوء العاقبة، فأشار عليهم أحمد بن الخصيب أن يبايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم فبايعوه وأنكر بعض القواد البيعة وجرى بين الأتراك والأبناء منازعات حتى تحاربوا ثلاثة أيام، ثم ضعف أمر الأبناء، وفرق المستعين في الناس أموالا كثيرة، واستقامت أموره، وغلب على أمره أوتامش التركي وشجاع بن القاسم كاتب أوتامش وأحمد بن الخصيب حتى لم يبق لأحد معهم أمر، ثم تحامل الأتراك على أحمد بن الخصيب فسخط المستعين عليه، ونفاه إلى المغرب بعد أربعة أشهر من ولايته فحمل في البحر إلى أقريطش ثم حمل إلى القيروان.
ولم يكن أصحاب المستعين لأحد أخوف منهم لصاحب خراسان وتوفي طاهر بن عبد الله بن طاهر في رجب سنة 248، وهو ابن أربع وأربعين سنة فأفرخ روعهم، ودبروا أن يخرجوا محمد بن عبد الله من العراق إلى خراسان فقال له المستعين أن ينفذ إلى خراسان فقال: إن أخي قد أوصى إلى ابنه ولا آمن أن يكون في خروجي فساد البلد. فكتب المستعين إلى محمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر بولاية خراسان مكان أبيه وخرج أبو العمود الشاري بديار ربيعة في هذه السنة، فوجه إليه المستعين بلكاجور الفرغاني، فواقعه، فقتله، وفرق جمعه. ولما توفي طاهر وولى محمد ابنه، وكان يوم ولي حدث السن، تحرك قوم بخراسان من الشراة وغيرهم، وكثر الشراة حتى كادوا أن يغلبوا على سجستان فقام يعقوب بن الليث، ويعرف بالصفار من أهل البأس والنجدة فسأل محمد بن طاهر أن يأذن له في الخروج إلى الشراة وجمع المطوعة، فأذن له في ذلك، فسار إلى سجستان فنفى من بها من الشراة ثم زحف إلى كرمان ففعل كذلك حتى نقى البلاد منهم، فعظم شأنه، فكتب المستعين إلى محمد أن يوليه كرمان فأقام بها وأحسن أثره في البلاد.
ووثب بالأردن رجل من لخم، فطلبه صاحب الأردن فصار إلى ناتليق وهرب، فقام مكانه رجل من عماله يعرف بالقطامي وكثف جمعه، فجبى الخراج وكسر جيشا بعد جيش أنفذهم إليه صاحب فلسطين فلم تزل هذه حاله حتى قدم مزاحم بن خاقان التركي في جمع من الأتراك وغيرهم ففرق جمعهم، ونفاهم عن البلاد.
ووثب أهل حمص بعاملهم كيدر بن عبد الله الأشروسني فخرج إليهم في جماعة من الجند فهزموهم، ولحق بحماة وقتلوا من الجند جماعة وصلبوهم، فولى المستعين عبد الرحمن بن حبيب الأزدي حمص فخرج متوجها إليها، فلما كان على أربع مراحل منها توفي، فولى الفضل بن قارن الطبري فقدم البلد، فتلقاه أهله بالسمع والطاعة وشكوا قبح ما كان يعاملهم به كيدر فدخل المدينة، فأقام أياماً، والبلد ساكن، ثم بلغه انهم يريدون الوثوب عليه، فأخذ جماعة منهم فضرب أعناقهم. ونفى المستعين عبيد الله بن يحيى إلى مكة ثم نفاه منها إلى برقة وكان ذلك في أول سنة 249. ووثب الجند بسر من رأى مرة بعد أخرى، وتحاربوا وتحاملوا على أوتامش وقالوا: أخذ أرزاقنا وأزال مراتبنا وخرجت عصبة من الأتراك والموالي إلى الكرخ فخرج إليهم أوتامش ليسكنهم، فقتلوه، وقتلوا كاتبه شجاع بن القاسم وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 249 ونهبت دورهما، فوقع ذلك بموافقة المستعين وكتب إلى الآفاق بلعنه.
ووجه المستعين جعفراً الخياط لغزو الصائفة سنة 249، ومعه عمر بن عبد الله الأقطع عامل ملطية فلما دخل إلى بلاد الروم استأذنه عمر أن يوغل، وكان في ثمانية آلاف، فأحاط به العدو، فأصيب هو ومن معه في رجب سنة 249.
وولى المستعين علي بن يحيى الأرمني أرمينية في هذه السنة، وكان أمرها قد اضطرب، فصار إلى ميافارقين وأغارت الروم وتوسطت بلاد المسلمين فاجتمع قوم من أهل ذلك البلد إلى علي بن يحيى فكلموه في لقاء الروم، ورفعوه فخرج معهم، فلقي عسكر الروم فقاتل قتالاً شديداً، فقتل، وأخذ الروم بدنه، وعدوه فتحاً عظيماً لما كان قد أشجاهم.
ووثب أهل حمص بالفضل بن قارن الطبري عاملهم في هذه السنة، واستجاشوا عليه بإحياء كلب، فتحصن منهم بقصر خالد بن يزيد بن معاوية وقد كان جدده فحاصروه وغاله من كان معه وأسلمه، فأخذوه وذبحوه وصلبوه على باب الرستن ولما قتلوه خافوا عامل دمشق فزحفوا إليه، وهو نوشرى بن طاجيل التركي فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم، فهزموهم، وانصرفوا إلى حمص.
ووجه المستعين موسى بن بغا الكبير في ستة آلاف من الموالي إلى حمص فلما بلغها خرج إليه رجل يقال له دابر العفار في خلق عظيم من كلب وغيرهم، فحاربه، فكانت عليهم، ودخل موسى حمص عنوة وأباحها ثلاثة أيام، فانتهبت، وطرحت النار في منازلها، فانتهبت أموال التجار وكان الواثب بحمص غطيف بن نعمة الكلبي.
ووثب أيضاً بالمعرة المعروف بالقصيص، وهو يوسف بن إبراهيم التنوخي فجمع جموعا من تنوخ، وصار إلى مدينة قنسرين فتحصن بها، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد، مولى أمير المؤمنين فاستماله واستمال غطيف بن نعمة وصار إليه، ثم وثب بغطيف بن نعمة فقتله وهرب القصيص فصار إلى جبل الأسود واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد فسار إليهم فواقعهم، فكانت عليهم، ثم وثبوا عليه، فهزموه، وقتلوا خلقاً عظيماً من أصحابه، وانصرف إلى حلب في فله، ورجع القصيص إلى قنسرين، وجرت بينه وبين كلب محاربة وعزل المولد وولي أبو الساج الأشروسني وكتب إلى القصيص يؤمنه وصير إليه الطريق والبذرقة ثم ولاه اللاذقية ونحوها.
وكان يحيى بن عمر بن أبي الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى فأتى بعض الولاة في حاجة، فلقيه بما لا يحب، فخرج إلى الكوفة واجتمع إليه الناس، فوثب بالكوفة وفتح الحبس، وأطلق من كان فيه، وأخرج عامل الكوفة وقوي أمره، وكثر أتباعه، فوجه المستعين رجلاً من الأتراك يقال له كلكاتكين ووجه محمد بن عبد الله بن طاهر بالحسين بن إسماعيل قرابته، وزحف يحيى بن عمر في خلق عظيم وجماعة كثيرة، فالتقوا بموضع يقال له شاهي، بين الكوفة وبغداد لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة 249، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم أصحاب يحيى عنه، وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فوضع بين يديه في ترس ودخل الناس يهنئونه، فقال له رجل من بني هاشم: إنك لتهنأ بما لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضرة لعزي به.
ووثب جند فارس في هذه السنة بعاملهم الحسين بن خالد فشغبوا عليه، ووثبوا على مال قد حمل فأخذوا أرزاقهم منه، وكان رئيسهم علي بن الحسين بن قريش البخاري وكانت فارس مضمومة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فلما بلغه الخبر ولى عبد الله بن إسحاق فشخص إليها في عدة وعدد فلما قدمها أعطاه الجند الطاعة وكان قصده ابن قريش فناله بالمكروه، ثم رضي عنه، وولاه محاربة قوم من الخوارج بناحية الفرش والروذان وهو الحد بين فارس وكرمان فصار ابن قريش إلى ناحية إصطخر وكاتب الجند وأعلمهم أنه على الوثوب بعبد الله بن إسحاق فأنجدوه على ذلك لسوء سيرة عبد الله فيهم، ومنعه إياهم أرزاقهم ورجع علي بن الحسين فوثب به، وأخرجه من منزله، وانتهب أمواله ومتاعه، وأمروا علي بن الحسين عليهم، وانصرف عبد الله إلى بغداد فوجه محمد بن عبد الله بن نصر بن حمزة الخزاعي فلما قدم تألف علي بن الحسين فلم يصلح، وأقام منافرا له في ناحية من كور فارس.
ووثب إسماعيل بن يوسف الطالبي بناحية المدينة لسبب كان بينه وبين الوالي بها، وتحامل عليه في وقف كان له، وجمع لفيفاً من الأعراب، ثم نفذ إلى ناحية الروحاء فأخذ مالاً للسلطان وكان حمل من بعض المواضع، ثم صار إلى مكة وجعفر بن الفضل، المعروف ببشاشات العامل بها، فواقعه، فهزم بشاشات ودخل مكة وأقام ثلاثا، ثم دفع إلى المزدلفة وصبح منى وقد تهارب الناس، ودخل من كان مع ابن يعقوب مكة فقدر أهلها انهم أصحاب إسماعيل فلقوهم بالسيوف فقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وأقبل إسماعيل إلى مكة فمنعه أهل مكة من الدخول، فوضع أصحابه السيوف فيهم، حتى دخل وطاف وسعى، ورجع وطاف، ثم صار إلى منى وكان بمكة رجل يقال له محمد بن حاتم على نفقات المصانع فقال ليعقوب: اقلع ما على دروندي البيت والعتبة من الذهب والفضة، وأعطه الناس. وحارب إسماعيل! فقلع ذلك الذهب، وأقام إسماعيل بمنى أيام منى، ثم انصرف.... وغلت الأسعار ببغداد وبسر من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحرب، وانقطعت الميرة، وقلت الأموال فجرت السفراء بينهم سنة 252، فدعا المستعين إلى الصلح على أن يخلع نفسه ويسلم الأمر إلى المعتز ويصير إلى بلد فيقيم فيه آمنا على نفسه وولده، على أن يدفع إليه مال معلوم وضياع تقيمه، فأجيب إلى ذلك، وخلع نفسه، وبايع محمد بن عبد الله وكتب المستعين كتاب الخلع على نفسه وأشهد بذلك، وصار إلى واسط بأمه وولده وسائر أهله ليجعلها دار مقامه.
أيام المعتز باللهوبويع أبو عبد الله المعتز بالله بن المتوكل، وأمه أم ولد يقال لها قبيحة، بسر من رأى، يوم الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 252 وكتب إلى جميع العمال يذكر ما تقدم من العقد لإبراهيم المؤيد ويأمرهم بالدعاء له بعده وبايع عمال البلاد للمعتز لما علموا مبايعة محمد بن عبد الله بن طاهر ومن ببغداد وتوقف ابن مجاهد صاحب شمشاط وعيسى بن شيخ في فلسطين ويزيد ابن عبد الله في مصر وعمران بن مهران بإصبهان. ووجه المعتز حاتم بن زريك إلى شمشاط فأوقع بابن مجاهد وأهلها، وأخذه وجماعة من وجوهها إلى آمد وضرب أعناقهم.
زحف نوشرى بن طاجيل التركي عامل دمشق إلى عيسى بن شيخ فزحف إليه عامل فلسطين عيسى فالتقيا بالأردن وكانت بينهما حروب صعبة قتل فيها ابن نوشرى، وانهزم الجند عن عيسى فتركوه وحده، فانهزم إلى فلسطين فحمل منها ما قدر عليه، وسار إلى مصر ودخل نوشرى الرملة.
ووجه المعتز برجل من الأتراك إلى مصر بالبيعة فاحتبسه يزيد بن عبد الله عامل مصر بالعريش أياماً، ثم أذن له في الدخول، وبايع هو ومن بحضرته وعيسى بن شيخ للمعتز.
ووجه المعتز برجل من الأتراك يقال له محمد بن المولد إلى فلسطين لما انتهى إليه خبر عيسى بن شيخ وما كان بينه وبين النوشري فلما صار محمد بن المولد بحمص وقد كان تغلب عليها غطيف الكلبي دعاه إلى الطاعة وأعطاه الأمان فأجابه، فلما صار في يده ضرب عنقه، فوثبت به كلب من كل جانب، فهزموه.
وصار محمد بن المولد إلى فلسطين فلما قدمها انصرف النوشري عنها. وصار عيسى بن شيخ من مصر مستعدا، فلما وافى فلسطين نزل قصرا كان بناه بين رملة ولد ولم يمكن ابن المولد فيه فرصة، وحذر كل واحد منهما من صاحبه، ثم انصرفا جميعاً إلى العراق.
ووجه مزاحم بن خاقان إلى ملطية وقد ظهر فيها الروم عدة مرار، ووثب بمصر رجل من كنانة يقال له جابر ويعرف بأبي حرملة... فوجهه إلى أسفل الأرض وقام هو موضعه، فكثف جمعه وجبى الخراج.
وكان صفوان العقيلي قد وثب بديار مضر في أيام المستعين على ما ذكرنا من أمره، ودعا للمعتز وحارب محمد بن داود المعروف بابن الصغير فلما استقامت الكلمة، وبايع من كان بالرافقة من العمال كتب محمد بن الأشعث الخزاعي صاحب البريد بديار مضر إلى المعتز يذكر سوء مذهب صفوان وأنه منطو على المعصية فوجه إليه المعتز بسيما الصعلوك ليحمله إلى بابه، وكان قد تحرك بحران في ذلك الوقت رجلاًن أحدهما من ولد أبي لهب والآخر أموي، ودعا كل واحد منهما إلى نفسه، فبدأ سيما بهما حتى أخذهما، ثم صار إلى الرافقة وقد وثب صفوان العقيلي على محمد بن الأشعث الخزاعي فقتله، فلقي سيما ابن عبدوس فكانت بينهما وقعات، ثم دعا ابن عبدوس إلى الصلح على أن يولي بلده، ويدفع إليه تسعمائة ألف درهم.
وأقام موسى بن بغا بهمذان ووجه خليفة له إلى ناحية الكوكبي بن الأرقط فكانت بينهما وقعات، وزحف موسى إلى عمران بن مهران المتغلب بإصبهان فحاربه، ثم انصرف، واستخلف على البلد، ورجع إلى همذان.
وتوفي محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد في ذي القعدة سنة 253 وكتب المعتز إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بولايته على ما كان أخوه يتولاه من الشرطة وسائر الأعمال وكانت سن محمد يوم مات أربعا وأربعين سنة، ثم وجه طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان سليمان بن عبد الله عمه، لما بلغه اضطراب الأحوال وغلبة وصيف وبغا وغيرهما من الأتراك على أمر الخلافة فيقال إن المعتز كتب إليه في ذلك فصار سليمان إلى بغداد في خلق كثير من جند خراسان ثم دخل إلى سر من رأى والناس لا يشكون في أنه سيغلب، فخلع عليه ودبر وصيف وبغا أن ينحياه، فأمر بالرجوع إلى بغداد فقدمها يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة 254.
وأغزى بغا عيسى بن شيخ إلى جند فلسطين ورصده الأتراك ليقتلوه بابن نوشرى الذي كان قتله بالأردن فخرج مستترا في يوم مطير في خيل جريدة حتى فاتهم وصار إلى فلسطين فوجد بها أموالا قد حملت من مصر فاحتبسها وفرض فروضا من العرب وجمع إليه خلقا من ربيعة، وصاهر إلى كلب، وابتنى خارج مدينة الرملة حصنا سماه الحسامي.
ولما كثر الاضطراب تأخرت أموال البلدان ونفد ما في بيوت الأموال فوثب الأتراك بكرخ سر من رأى فخرج إليهم وصيف ليسكنهم، فرموه فقتلوه وحزوا رأسه في سنة 253 وتفرد بغا بالتدبير، ثم تحرك صالح بن وصيف واجتمع إليه أصحاب أبيه فصار في منزلته وضعف أمر المعتز حتى لم يكن له أمر ولا نهي. وانتقضت الأطراف، وخرج بديار ربيعة رجل من الشراة يقال له مساور بن عبد الحميد، ويعرف بأبي صالح من بني شيبان، ثم صار إلى الموصل فطرد عاملها وسار حتى قرب من سر من رأى ونزل في المحمدية ثلاثة فراسخ من قصور الخليفة فدخل القصر وجلس على الفرش، ودخل الحمام وندب له المعتز قائدا وجيشا بعد قائد وجيش وهو يهزمهم، حتى كثف جمعه، واشتدت شوكته.
وتوفي مزاحم بن خاقان لخمس خلون من المحرم سنة 254 وصار مكانه ابن له يقال له أحمد فلم يقم إلا أياماً حتى اشتدت به العلة، وتوفي، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وتوفي في شهر ربيع الآخر وصار على البلد أرخوز ابن أولغ طرخان التركي.
وتوفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بسر من رأى يوم الأربعاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة 254 وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكل فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره فدفن فيها، وسنة أربعون سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: الحسن وجعفر.
وتنكر المعتز لبغا وآثر صالحا وبابكباك وصير إلى بابكباك أعمال المعاون بمصر فولاها بابكباك من قبله أحمد بن طولون فقدم أحمد بن طولون الفسطاط في شهر رمضان سنة 254.
وبلغ المعتز أن بغا قد عزم على الوثوب به، فدبر على قتله، فلما بلغه ذلك هرب فصار إلى ناحية الموصل وهو يقدر أن أكثر الأتراك وغيرهم يستلحقونه، فلم يلحقه أحد، فانصرف راجعا في زورق، فأخذه أصحاب المسالح وكوتب المعتز بخبره فأمر بضرب عنقه، فضربت عنقه، ونهبت داره، ونفى ابنه فارس إلى المغرب في سنة 254.
ولما خاف المعتز وثوب الأتراك أشخص من كان بسر من رأى من الهاشميين من أولاد الخلافة وغيرهم إلى بغداد لئلا يخلس الأتراك أحداً منهم.
وتلاحى أحمد بن طولون وأحمد بن المدبر وهو عامل الخراج بمصر وأفسد بينهما شقير الخادم المعروف بأبي صحبة فكان شقير يتولى البريد وضياعا من ضياع الأقطار، وما يستعمل للسلطان من المتاع وإليه ينسب الدبيقي الشقيري وكتب كل واحد منهما في صاحبه فنصر بابكباك أحمد بن طولون. وكان بابكباك الغالب على أمر الخليفة وأعانه الحسن بن مخلد بن الجراح وأبو نوح عيسى بن إبراهيم بن نوح فكتب بعزل بن المدبر وتولية رجل من أهل مصر يقال له محمد بن هلال فتولى الخراج وقبض ابن طولون على ابن المدبر فقيده، وألبسه جبة صوف، ووقفه في الشمس، فأقام بهذه الحال ثلاثة أشهر.
وقوى أمر يعقوب بن الليث الصفار فسار إلى فارس وبها علي بن الحسين ابن قريش متغلب، فهزم جيشه وأسره وتغلب على فارس.
ووثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن إسرائيل الكاتب وزير المعتز وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع وعلى عيسى بن إبراهيم بن نوح وعلي بن نوح فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذبهم بأنواع العذاب، وغلب على الأمر، فهم المعتز بجمع الأتراك ثم دخل إليه، فأزاله من مجلسه، وصير في بيت. وأخذ رقعته بخلع نفسه وتوفي بعد يومين، وصلى عليه المهتدي وكان ذلك في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 552 وكانت ولايته من يوم بويع إلى يوم خلع فيه نفسه أربع سنين وتسعة أشهر، ومنذ خلع المستعين وبايع له من ببغداد ثلاث سنين وسبعة أشهر، وكانت سنة اثنتين وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور ثلاثة: عبد الله ومحمدا والمهتدي.
أيام محمد المهتدي بن هارون الواثق باللهواجتمع القواد على أنه ليس في أولاد الخلفاء أفضل ولا أعقل من محمد بن الواثق وأمه أم ولد يقال لها قرب وكان ممن أشخص إلى بغداد في أيام المعتز فشخص، فلما قدم بايعوه فاجتمعت كلمتهم عليه، وكانت البيعة له يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 255 وجلس للناس يوم الخميس بعد أن بويع له، وذكر في الكتب خلع المعتز نفسه وسماه خالع نفسه وظهرت من المهتدي سيرة حسنة ومذاهب محمودة وجلس للمظالم بنفسه، وباشر الأمور بجسمه، ووقع في القصص بخطه وأبطل الملاهي وقدم أهل العلم وأقام يلبس اليوم الواحد لبسة، فتقيم عليه أياماً كثيرة لا يغيرها وكان صالح وبابكباك الغالبين عليه وأخرج صالح أحمد بن إسرائيل وعيسى ابن إبراهيم بن نوح من الحبس إلى باب العامة فضربا حتى ماتا، وأفلت الحسن ابن مخلد ورد أحمد بن المدبر إلى خراج مصر فأقام تسعين يوماً، ثم ورد كتاب بابكباك إلى أحمد بن طولون بإزالة ابن المدبر ورد النظر إلى محمد بن هلال ففعل ذلك.
ووثب أهل حمص بمحمد بن إسرائيل، فخرج هاربا، ولحقه ابن عكار فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار، ورجع ابن إسرائيل على البلد، وأخرج قبيحة أم المعتز، وأبا أحمد وإسماعيل ابني المتوكل، وعبد الله بن المعتز إلى مكة، ثم ردوا إلى العراق.
وكتب إلى جميع المتحركين والمتغلبين بالأمان، وكتب إلى عيسى بن شيخ الربعي بمثل ذلك، وأمره بحمل ما قبله من أموال مصر وغيرها فامتنع فكتب إلى ابن طولون بالمسير إليه، فسار إليه، فلما صار بالعريش ورد عليه الكتاب بالانصراف، فانصرف، ولم يلق حربا، ولقي ابن شيخ أماجور التركي، عامل دمشق، فهزمه أماجور وقتل ابنه منصوراً، ورجع ابن شيخ، فحمل عياله إلى صور وتحصن بها.
ووثب رجل من الطالبيين يقال له إبراهيم بن محمد من ولد عمر بن علي، ويعرف بالصوفي، بناحية صعيد مصر، ووثب أيضاً في تلك الناحية رجل يقول إنه عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فحارب السلطان، وقوي أمر صاحب البصرة، وصار إلى الأبلة فأخربها، ووقعت بين أهل البصرة العصبية، حتى أحرق بعضهم منازل بعض. وتنكر المهتدي للأتراك، وعزم على تقديم الأبناء فلما علموا بذلك استوحشوا منه، وأظهروا الطعن عليه، فأحضر جماعة منهم، فضرب أعناقهم، وفيهم بابكباك رئيسهم، فاجتمع الأتراك وشغبوا، فخرج إليهم المهتدي في السلاح معلقا في عنقه المصحف، واستنفر العامة، وأباحهم دماءهم وأموالهم، ونهب منازلهم، فتكاثر الأتراك عليه، وافترقت عنه العامة حتى بقي وحده وأصابته عدة جراح، ومر منصرفاً حتى دخل دار رجل من القواد يقال له أحمد بن جميل، ولحقوه، فأخذوه، فحملوه على دوابه وجراحاته تنطف دماً، فدعوه إلى أن يخلع نفسه فأبى ومات بعد يومين، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، وكانت خلافته سنة إلا أحد عشر يوماً.
أيام أحمد المعتمد على اللهوبويع أحمد المعتمد على الله بن جعفر بن المتوكل في اليوم الذي قتل فيه المهتدي، وهو يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، ومن شهور العجم في حزيران وكانت الشمس يومئذ في الأسد سبعا وعشرين درجة وثمانيا وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وزحل في القوس خمساً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعاً، والمريخ في الأسد ثلاث درجات وأربعين دقيقة والزهرة في الأسد درجة وأربعاً وأربعين دقيقة، وعطارد في الجوزاء تسع درجات وثلاثاً وثلاثين دقيقة.
وصير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيراً، وقلده أموره، وكتب بالبيعة إلى الآفاق، فبايع بخراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبكور الفرات مالك بن طوق التغلبي، وبديار مضر وديار ربيعة وجند قنسرين أبو الساج بن ديوداد الأسروشني وبمصر أحمد بن طولون التركي، وامتنع عيسى ابن شيخ بن الشليل الربعي من البيعة بفلسطين، فوجه برجل من الأتراك في سبعمائة تركي يقال له أماجور، فقدم أماجور دمشق، وزحف عيسى بن شيخ إليه من فلسطين، حتى أناخ بباب دمشق، فحاصره، ولما اشتد الحصار بدمشق خرج أماجور وأصحابه من المدينة واتبعه ابن لعيسى بن شيخ يقال له منصور، وخليفة له يقال له ظفر بن اليمان ويعرف بأبي الصهباء، فحمل عليهما أماجور وأصحابه، فقتل منصور بن عيسى بن شيخ، وأسر المعروف بأبي الصهباء، فضرب عنقه، وصلب، وانصرف عيسى بن شيخ إلى الرملة. وزحف الخارج بالبصرة المدعي إلى آل أبي طالب، واسمه علي بن محمد، إلى الأبلة، فنهبها وأخربها وأحرقها بالنار، وتوجه إليه سعيد بن صالح، فواقعه بنهر أبي الخصيب.
ووردت كتب المعتمد إلى أحمد بن طولون عامل مصر، يأمره برد أعمال الخراج إلى أحمد بن محمد بن المدبر، وكان محبوسا في يده، ومحمد بن هلال يتولى الخراج، فاخرج يوم السبت لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة 256، وتولى الخراج، وكان حبسه تسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وفي هذه السنة تنازع قوم من بني هلال وقوم من أهل مكة في الموقف بعرفات، فقتل قوم من هؤلاء وقوم من هؤلاء، وكان صاحب الموسم الحسين بن إسماعيل الطاهري، فأقام الحج للناس أحمد بن إسماعيل بن يعقوب الملقب كعب البقر.
وتوفي بابكباك التركي، فصير المعتمد ما كان إليه من أعمال مصر وغيرها إلى يارجوج التركي وكتب يارجوج التركي إلى أحمد بن طولون التركي، عامل مصر، بإقراره على ما كان يتولى. وولى المعتمد محمد بن هرثمة بن أعين برقة، فقدم الفسطاط في شهر ربيع الآخر سنة 257، ونفذ إلى برقة.
ووجه المعتمد بالحسين الخادم، المعروف بعرق الموت، إلى عيسى بن شيخ، وقد تغلب على فلسطين، بأمان على نفسه وماله وولده، والصفح عما كان منه، وتوليته أرمينية، ففعل ذلك وشخص من البلد في جمادى الآخرة سنة 257، وسلم ما كان في يده إلى أماجور التركي، ولم يرد من الأموال درهماً واحداً.
وكانت في السماء نار عظيمة أخذت من المشرق إلى المغرب ثم أجلت وتلتها هدة شديدة وزلزلة، وكان ذلك مع طلوع الفجر لثمان بقين من رجب، ومن شهور العجم في حزيران.
وحمل أحمد بن طولون ما كان حاصلا في بيت المال بمصر إلى أمير المؤمنين المعتمد، فكان مبلغه ألفي ألف ومائة ألف درهم، وقاد الخيل، وحمل الطراز والخيش والشمع، ووازنه بنفسه حتى يسلمه إلى أماجور التركي، وأشهد به عليه، وانصرف إلى الفسطاط.
وكتب المعتمد بالله إلى أحمد بن طولون بولاية الإسكندرية مكان إسحاق ابن دينار بن عبد الله، فشخص أحمد بن طولون إلى الإسكندرية في شهر رمضان سنة 257.
وولى أحمد المعتمد بالله أحمد بن محمد بن المدبر خراج الشامات، وصرفه عن خراج مصر، وولى خراج مصر أحمد بن محمد شجاع، المعروف بابن أخت الوزير، فقدم الفسطاط في شهر رمضان من هذه السنة، وعزل شقيرا الخادم، المعروف بأبي صحبة، عن البريد بمصر، وولى مكانه أحمد بن الحسين الأهوازي، فقدم في شوال من هذه السنة.
وفي هذه السنة وجه أحمد بن طولون رجلاً من الأتراك يقال له ماطعان في ألف فارس مع حاج مصر وأمره أن يدخل المدينة ومكة في السلاح والتعبية، ويفعل مثل ذلك بعرفات، وفعل ذلك ووافى عرفات بالأعلام والطبول والسلاح. وفي هذه السنة دخل المدعي البصرة ونهب وحرق المسجد الجامع، وتوجه إليه رجل من الأتراك يقال له محمد المولد، فلما بلغه الخبر انصرف، ولم يلقه. وفي هذه السنة بدا أمر المعروف بأبي عبد الرحمن العمري، وأظهر رأسه لمحاربة أصحاب السلطان، ولقي شعبة بن حركان صاحب أحمد بن طولون، فحاربه بأسوان.
وفي هذه السنة وقعت عصبية بفلسطين بين لخم وجذام، فتحاربوا حربا أخذت من الفريقين، وفيها حج بالناس الفضل بن العباس بن الحسن بن إسماعيل ابن العباس بن محمد. وخرج أحمد بن محمد بن المدبر من الفسطاط متوجها إلى الشامات في المحرم سنة 258، فقام بالشامات، وقصد مدينة دمياط وتولى أعمال الخراج.
وفي هذه السنة دخل محمد المولد التركي البصرة، وأخرج المدعي إلى آل أبي طالب وأصحابه عنها، ورجع قوم، فلم يجدوا منزلاً يسكن.
وفي هذه السنة وثب جند برقة بحمد بن هرثمة بن أعين عامل المعونة، فأخرجوه عنها فا... رو إلى الفسطاط، وفيها أخرج أحمد بن طولون الطالبيين من مصر إلى المدينة، ووجه معهم من ينفذهم، وكان خروجهم في جمادى الآخرة، وتخلف رجل من ولد العباس بن علي وأراد أن يتوجه إلى المغرب، فأخذه أحمد بن طولون، وضربه مائة وخمسين سوطا، وأطافه بالفسطاط.
وفيها وقع الوباء بالعراق، فمات خلق من الخلق، وكان الرجل يخرج من منزله، فيموت قبل أن ينصرف، فيقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان، وفيها زاد أبو أيوب أحمد بن محمد بن أخت الوزير، عامل خراج مصر، في المسجد الجامع بمصر في آخر المسجد.
وفيها توجه أبو أحمد بن المتوكل على الله إلى المدعي إلى آل أبي طالب، الخارج بالبصرة، في جمع كثيف، وكان العسكر والزاد والسلاح في السفن، فوقعت النار في السفن، فاحترقت وانصرف أبو أحمد راجعاً.
وفيها أخذ أحمد بن طولون على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه، ويوالوا من والاه، ويحاربوا من حاربه من الناس جميعاً.
وفيها غزا الصائفة محمد بن علي بن يحيى الأرمني، وقدم شنيف الخادم مولى المتوكل للفداء، فاجتمعوا بنهر اللامس، ففادوا وشرطوا للروم هدنة أربعة أشهر، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 258.
وفيها قتل يارجوج التركي بسر من رأى وبويع لأحمد بن الموفق بن المتوكل ولقب بالمعتضد، بولاية العهد، وصير إليه أعمال يارجوج، من مصر وغيرها، فدعى له على منابر مصر.
وحج بالناس الفضل بن العباس، ونال أهل البادية زلازل ورياح وظلمة... ممن كان حول المدينة من بني سليم وبني هلال وغيرهم من بطون قيس وسائر أهل البلد، فهربوا إلى المدينة وإلى مكة يستجيرون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالكعبة، وأحضروا متاعاً من متاع الحاج الذين قطعوا عليهم الطريق، وذكروا أنه هلك منهم خلق عظيم في البادية، وكان ذلك في سنة 259. وفيها تغير ماء نيل مصر حتى صار يضرب إلى الصفرة، وأقام على هذه الحال أياماً، ثم رجع إلى ما كان عليه.
وفي هذه السنة مات أبو صحبة شقير الخادم وابن مطهر الصنعاني صاحب بريد مصر.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5*
==========
واستعمل الرشيد على أرمينية العباس بن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، فلما صار إلى برذعة وثب به البيلقانية، فتحصن منهم في ربض برذعة، ووجه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري في ستة آلاف، والتقيا، وكانت بينهما وقعة، وقتل معدان الحمصي، فصار أبو مسلم الشاري إلى دبيل، فحصرها أربعة أشهر ثم انصرف، فصار إلى البيلقان فنزلها.
وقوي أمر أرمينية، ووجه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفاً، ويزيد ابن مزيد الشيباني في عشرة آلاف، وأمر يزيد بن مزيد أن يقصد أرمينية، وأمر الحرشي أن يأخذ على آذربيجان، وكان قد تغلب باذربيجان مهلهل التميمي، فلقيه الحرشي فقاتله، فهزمه، وأصلح البلاد، ثم صار إلى أرمينية ليجتمع ويزيد بن مزيد على محاربة أبي مسلم الشاري، فوافى البلد وقد مات، وقام من بعده السكن بن موسى البيلقاني مولى... وكان منزله البيلقان، فلما بلغه قدوم يحيى الحرشي وجه إليه الخليل بن السكن في خيار خيله، فلقي الحرشي، فأسره الحرشي، وزحف إلى البيلقان، فلما بلغ السكن الخبر خرج هاربا، فصار إلى قلعة الكلاب، وصار أهل البيلقان إلى الحرشي، فطلبوا الأمان، فأدخلوا المدينة، فامن أهلها، وهدم حصنها.
وسار السكن إلى يزيد بن مزيد في ثمانية آلاف مستأمناً منه، وحمله إلى الرشيد، ولما سكن البلد ولى الرشيد موسى بن عيسى الهاشمي، فأقام بأرمينية سنة، فعاد انتقاضها، فاضطربت نواحيها، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال الرشيد: ما أرى لها إلا الحرشي، فعزل موسى بن عيسى، ووجه الحرشي عاملا عليها، فوضع فيهم السيف حتى استقامت، ثم ولى الرشيد أحمد بن يزيد ابن أسيد السلمي، فلما قدم وثب به من كان في البلد من أهل خراسان ممن قدم مع الحرشي وقبل الحرشي، وقاتلوه، وتعصبوا عليه وقالوا: لا سمع لك ولا طاعة، فولى الرشيد سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فلما قدم البلد تلاءمت الناس شهوراً، ثم تعبث بالبطارقة، فخالف عليه أهل الباب والأبواب، ووثبوا بعاملة، وكان النجم بن هاشم صاحب الباب والأبواب، فقتله سعيد بن سلم، فوثب ابنه حيون بن النجم، فقتل عامل سعيد على الباب والأبواب، وكشف رأسه للمعصية، وكتب إلى خاقان ملك الخزر، فزحف إليه ملك الخزر في خلق عظيم، فأغار على المسلمين، فقتل وسبى خلقا عظيما، وسار حتى أتى جسر الكر، وسبى خلقاً من المسلمين، وقتل عالماً، وحرق البلاد، وقتل النساء والصبيان. فلما بلغ الرشيد خبره وجه بتحاب، وأمره أن يعرض على سعيد بن سلم، ويقيمه للناس فلما وافى البلد أعطاه سعيد مالاً، فمال التحاب إلى أخذ المال، فبلغ الرشيد ذلك فوجه نصر بن حبيب المهلبي عاملاً على البلد، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وولى علي بن عيسى بن ماهان، فلما قدم ساءت سيرته، ووثب به أهل شروان، واضطرب البلد، فولى الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، ورد علياً إلى خراسان، وجمعت ليزيد بن مزيد أرمينية وآذربيجان، فلما قدم تلاءمت الناس، وأصلح البلد، وساوى بين النزارية واليمانية، وكتب إلى أبناء الملوك والبطارقة يبسط آمالهم، فاستوى البلد.
ثم ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي، فأخذ البطارقة وأبناء الملوك، فضرب أعناقهم، وسار فيهم أسوأ سيرة، فانتقضت جرجان والصنارية، فأنفذ إليهم جيشاً، فقتلوه، فوجه إليهم سعيد بن الهيثم بن شعبة بن ظهير التميمي في جيش عظيم، فقاتل أهل جرجان والصنارية حتى أجلاهم عن البلد، وانصرف إلى تفليس، فأقام خزيمة بن خازم أقل من سنة، ثم عزله، وولى سليمان بن يزيد بن الأصم العامري، وكان شيخاً عفيفاً، مغفلاً، فضعف حتى لم يكن له أمر يجوز، حتى كاد أن يغلب على البلد. وولى الرشيد العباس بن زفر الهلالي، فانتقضت عليه الصنارية، فقاتلهم، وضعف عنهم، فوجه الرشيد محمد بن زهير بن المسيب الضبي، وكان آخر عمال الرشيد على أرمينية.
وخلع أهل حمص سنة 190، ووثبوا على واليهم، فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم ويسألون الإقالة، فعفا عنهم، ونفذ إلى بلاد الروم، فغزا الصائفة، وفتح هرقلة والمطامير.
وحجت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور في هذه السنة، وهي سنة 190، فنال الناس عطش شديد، وغارت زمزم حتى لم يوجد فيها من الماء إلا القليل، وحفرت زمزم، فنزل فيها عدة أذرع، فكان الماء زاد يسيراً، وكان مقدار رشاء زمزم ثماني عشرة ذراعاً، فحفر فيها تسع أذرع ليزيد، فكان أول ما حفر في زمزم.
واجتمع عند الرشيد عمه، وعم أبيه، وعم جدة، سليمان بن جعفر عمه، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جده، فقال عبد الصمد بن علي: أحمد الله، يا أمير المؤمنين، على نعمة عليك، فقد جمع لك ما لم يجمع لخليفه قبلك، ثم جمع لك عمك، وعم أبيك، وعم جدك.
وكان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك، وجعفر والفضل ابناه، صدراً من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي، فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة، ثم كان الفضل بن الربيع يغلب عليه، وإسماعيل بن صبيح، وعلى شرطة القاسم بن نصر بن مالك، ثم عزله وولى خزيمة بن خازم، ثم عزله وولى المسيب بن زهير الضبي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم عزله واستعمل علي بن الجراح الخزاعي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن خازم، وكان على حرسه جعفر بن محمد بن الأشعث، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم هرثمة بن أعين، وكان حاجبه الفضل ابن الربيع.
وخرج هارون إلى خراسان في شعبان سنة 192، فنزل قرماسين، فصار بها شهر رمضان وضحى بالري، فلما صار إلى جرجان كتب إلى عيسى بن جعفر بالخروج إليه، فخرج إليه عيسى، فلما صار في بعض الطريق توفي.
فحدثني شيخ من آل المهلب كان مع عيسى بن جعفر قال: دخلنا إليه يوماً، وقد اشتدت علته، فسمعناه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت والله نفسي! فقلنا له: إنك بحمد الله اليوم صالح. فقال: إني دققت ما يخرج من أذني، فوجدته رميما، حتى أغمي عليه، وسمع النساء بكاء الرجال، فغلبن الخدم، وخرجن فأفاق ورفع رأسه، فنظر إليهن وقال:
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم جئن برزن للنظار
ثم قضى من ساعته، فلما بلغ الرشيد خبر وفاته، اشتد جزعه عليه، فدخل على جارية، فقالت: يا أمير المؤمنين إن عيسى كان يريد بك ما صار إليه، فأحاقه الله به، وهذا مسرور وحسين يعلمان ذلك. فقالا: صدقت! فتسلى ودعا بالطعام، وصار هارون إلى طوس، فنزل قرية يقال لها سناباذ، وهو شديد العلة، وتوفي مستهل جمادى الأولى سنة 193، وهو ابن ست وأربعين سنة، وصلى عليه ابنه صالح بن هارون، وكان المأمون قد نفذ إلى مرو قبل ذلك بثلاثة وعشرين يوماً، وجاء نعيه من طوس إلى مدينة السلام يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا: عبد الله المأمون، ومحمداً الأمين، والقاسم، وأبا إسحاق المعتصم، وأبا عيسى، وأبا العباس، وعلياً، وصالحاً، وأبا يعقوب، وأبا علي، وأبا أحمد، وأبا أيوب، وكل مكنى من بني هاشم فاسمه محمد.
وأقام الحج في ولايته سنة 170 هارون الرشيد، سنة 171 عبد الصمد بن علي، سنة 172 يعقوب بن المنصور، سنة 173 الرشيد، سنة 174 وسنة 175 الرشيد، سنة 176، سليمان بن أبي جعفر، سنة 177 الرشيد، سنة 178 محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، سنة 179 الرشيد، وكان قد اعتمر فلم يزل معتمرا حتى حج، فانصرف إلى البصرة، سنة 180 موسى بن عيسى، وجهه هارون من الرقة، سنة 181 الرشيد، سنة 182 موسى بن عيسى، سنة 183 العباس بن موسى، سنة 184 إبراهيم بن المهدي، سنة 185 منصور بن المهدي، سنة 186 الرشيد، سنة 187 عبد الله بن العباس بن محمد، سنة 188 الرشيد، وهي آخر حجة حجها، ولم يحج بعده خليفة، سنة 189 العباس بن موسى بن عيسى، سنة 190 عيسى بن موسى الهادي، سنة 191 الفضل بن العباس بن محمد بن علي، سنة 192 العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر.
وغزا بالناس في أيامه سنة 171 يزيد بن عنبسة الحرشي، عاملا من قبل إسحاق بن سليمان، سنة 172 محمد بن إبراهيم، سنة 173 إبراهيم بن عثمان، سنة 174 سليمان بن أبي جعفر، سنة 175 عبد الملك بن صالح، وقيل إنه لم يدخل بلاد الروم، ولما صار إلى الدرب وجه الفضل بن صالح، سنة 176 هاشم بن الصلت، سنة 177 داود بن النعمان من قبل عبد الملك، سنة 178 يزيد ابن غزوان، سنة 179 الفضل بن محمد، سنة 180 إسماعيل بن القاسم سنة 181 هارون الرشيد، فافتتح حصن الصفصاف، سنة 182 إبراهيم بن القاسم من قبل عيسى بن جعفر، سنة 183 الفضل بن العباس، سنة 184 محمد بن إبراهيم، سنة 185 إبراهيم بن عثمان، سنة 186 إبراهيم بن عثمان أيضاً، سنة 187 القاسم ابن الرشيد، وعبد الملك بن صالح، وإبراهيم بن عثمان بن نهيك، وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان، سنة 189 الفضل بن العباس، سنة 190 الرشيد، فافتتح هرقلة والمطامير وأغزى حميد بن معيوف بالبحر، وكان أهل قبرس قد نقضوا الصلح، فغزاهم فقتل وسبى، سنة 191 خرج الرشيد يريد الغزو، فلما صار بالحدث أغزاهم مع هرثمة بن أعين، وأقام بالثغر حتى انصرف هرثمة. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمران بن إبراهيم، مالك بن أنس، إبراهيم بن محمد بن أبي الحسن الأسلمي، أبا البختري بن وهب القرشي، عبد الله بن جعفر المديني، إسماعيل بن جعفر أبا عقيل، أبا معشر السندي، سعيد بن عبد العزيز الجمحي، عبد العزيز بن أبي حازم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عبد الرحمن بن عبد الله العمري، سليمان بن فليح... عطاء ابن يزيد، سفيان بن عيينة، شريك بن عبد الله النخعي، سلمة الأحمر، أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، إبراهيم بن سعد الزهري، سفيان بن الحسن الحماني، جعفر بن عتاب بن أبي زائدة، علي بن مسهر، عبد الله بن إدريس الأودي، محمد بن مروان السدي، جرير بن عبد الحميد الكوفي، شعيب بن صفوان صاحب ابن شبرمة، جعفر بن سليمان، محمد بن الحسن، علي بن هاشم، عبد الله بن الأصلح الكندي، الطلب بن الحجاج، القاسم بن مالك المزني، علي بن ظبيان، أبا شهاب الكوفي، محمد بن مسروق القاضي، عدي بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكيع بن الجراح، يحيى بن البهائي، عمرو بن هشام، حماد بن زيد، أبا عوانة، يزيد بن زريع، عبيد الله بن الحسن، المعتمر بن سليمان، داود بن الزبرقان، عباد بن عباد المهلبي، حمزة بن نجيح، خالد بن يزيد، محمد بن راشد، عمران بن خالد صاحب عطاء، محمد بن يزيد الواسطي، عبد المنعم بن نعيم، عمر بن جميع، يوسف بن عطية، عبد العزيز بن عبد الصمد.
أيام محمد الأمينوبويع لمحمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، ولم يكن في الخلفاء هاشمي الأبوين غير علي بن أبي طالب، ومحمد، وكانت البيعة له بطوس، في اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الأحد مستهل جمادى الأولى سنة 193، وأخذ له الفضل بن الربيع بيعة من حضر من الهاشميين والقواد، وقدم رجاء الخادم إلى محمد ببغداد يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان ذلك من شهور العجم في آذار، وكانت الشمس يومئذ في الحمل ثلاث درجات وثلاثاً وخمسين دقيقة، وزحل في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعا، والمريخ في الدلو ستاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحوت سبع درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في السرطان اثنتين وعشرين درجة.
فبايع الناس في هذا اليوم ببغداد، وخرج إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، فصعد المنبر، فحمد الله وصلى على محمد، ثم قال: نحن أعظم الناس رزيئة وأحسن الناس بقية، رزئنا رسول الله، فلم يكن أحد أشد رزءا منا، وعوضنا خلفا ابنه، فمن ذا له مثل عوضنا؟ ثم نعاه إلى الناس، وذكرهم العهد، ثم نزل. فلما كان يوم الجمعة صعد محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، وذكر ما فضله الله به، ثم قال: وأفضت خلافة الله وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد، فعمل بالحق، وساس بالعدل، وحج بيت الله، وجاهد في سبيل الله، وبذل مهجته في طاعة الله، وباشر الجهاد طلبا لرضى الله جل وعز حتى أعز الله دينه، ثم دنياه، وأقام حقه، ووقم العدو، وآمن السبل، ونصح العباد، وعمر البلاد، وقد اختار الله له ما عنده، وأكرمه
بلقائه، فعند الله نحسبه، وإياه نسأل حسن الخلافة من بعده، والمعونة على ما حملني من أمركم، وارغب إليه في التسديد والتوفيق لما يرتضيه فيكم. ثم حض على الطاعة، وأمر بالمناصحة، ونزل.
وقدم الفضل بن الربيع الخزائن وبيوت الأموال ووصية الرشيد، مستهل جمادى الآخرة، وكان محمد بن هارون قد أمر بإظهار الحج فقال له الفضل ابن الربيع: إن أباك أمرني أن أقول لك إنه لن يحج بعدي أحد من خلفاء بني العباس فأقام، وحجت أمه أم جعفر معتمرة شهر رمضان، وقد كانت تقدمت في حفر عين المشاش في أيام الرشيد فقدمت مكة وقد فرغ منها، فبنت المصانع، وجعلت الحياض والسقايات ووجه محمد بعشرين ألف مثقال ذهبا، فجعلت صفائح على باب الكعبة ومسامير الباب والعتبة وأخرج عبد الملك بن صالح من الحبس، وولاه جميع ما كان إليه من الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور ورد عليه أمواله وضياعه ودفع إليه ابنه عبد الرحمن وكاتبه قمامة فحبس قمامة في حمام قد أحكم، وأوقد أشد وقود، وطرح معه سنانير، فلم يزل فيه حتى مات، وحبس ابنه فلم يزل محبوساً.
وقال عبد الملك حين أخرج من الحبس، وذكر ظلم الرشيد له: والله إن الملك لشيء ما نويته، ولا تمنيته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته، ولو أردته لكان أسرع إلي من السيل إلى الحدور ومن النار إلى يابس العرفج وإني لماخوذ بما لم أجن ومسؤول عما لا أعرف، ولكنه والله حين رآني للملك قمنا، وللخلافة خطرا، ورأى لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم اختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الوالدة، وتميل إلى ميل الهلوك، وخاف أن تنزع إلى أفضل منزع، وترغب في خير مرغب، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتفرد لها بجهده، وتهيأ لها بكل وسعه، فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت إليه فأحط نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا بأن أخرج له من الحكم، والعلم، والحزم والعزم فكما لا يستطيع المضيع أن يكون حافظا كذا لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً، وسواء عليه عاقبني على عقلي أم عاقبني على طاعة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولم يكن لما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل المجهود إلا القليل.
وأخرج علي بن عيسى بن ماهان من الحبس، ورد عليه أمواله، وولاه شرطته وقدمه وآثره. وولى أسد بن يزيد بن مزيد أرمينية فقدمها، وقد غلب على ناحية من البلد يحيى بن سعيد الملقب كوكب الصبح وإسماعيل بن شعيب مولى مروان ابن محمد بن مروان وكانا بناحية جرزان فاحتال لهما حتى أخذهما، ثم من عليهما، وخلى سبيلهما، وكان حسن السيرة سخياً ثم عزله محمد وولى أرمينية إسحاق بن سليمان الهاشمي فوجه إليها ابنه الفضل خليفة له، ولم يزل الفضل بها أيام المخلوع.
وولى محمد بن سعيد بن السرح الكناني اليمن وكان من أهل فلسطين، فأقام بها ثلاث سنين، ثم عزله وولى جرير بن يزيد البجلي فخرج سعيد بن السرح من اليمن بأموال عظام، حتى صار إلى فلسطين فاتخذ الدور والضياع، فلم يزل جرير بن يزيد على اليمن حتى بويع للمأمون.
وقد وجه الرشيد هرثمة بن أعين في جيش إلى رافع بن الليث إلى سمرقند وقد استكثف جمع رافع واستمال أهل الشاش وفرغانة، وأهل خجندة وأشروسنة والصغانيان وبخارى وخوارزم وختل وغيرها من كور بلخ وطخارستان والسغد وما وراء النهر والترك والخرلخي والتغزغز وجنود التبت وغيرهم، واستنصر بهم على قتال السلطان وقتل المسلمين وصار إلى مدينة سمرقند فتحصن بها، فلم يزل هرثمة محارباً له حتى قتل خلق من أصحابه.
ثم استعان رافع بجيغويه الخرلخي وكان جيغويه هذا قد أسلم على يد المهدي فجعل يخادع هرثمة ويوهمه أنه معه، ومعونته وهواه لرافع ثم أظهر المعصية، والخلع فقوى أمر رافع بمكانه، وأحرق السواد بالنار، وتبرأ من أهله، ودعا لغير بني هاشم وأخذ هرثمة بإكظامهم، حتى ضرع رافع إلى الأمان فأمنه، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله، وذلك في المحرم سنة 194، فكتب المأمون إلى محمد بالفتح، وأعلمهم ما كان من تدبيره واجتهاده، حتى فتح الله عليه.
فأفسد قوم قلب محمد على المأمون وأوقعوا بينهما الشر، وكان الذي يحرضه علي بن عيسى بن ماهان والفضل بن الربيع وزينا له أن يبايع لابنه بولاية العهد من بعده، ويخلع المأمون ففعل ذلك، وبايع لابنه موسى وكان ذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة 194، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما فحرقها، وجرت الوحشة بينهما، وكتب محمد إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه في جميع القواد فكتب إليه يعلمه أنه لا سمع عليه في هذا ولا طاعة فكتب إلى من بخراسان من القواد فأجابوه بمثل ذلك، وقالوا: إنما يلزمنا لك الوفاء إذا وفيت لأخيك، وأنت قد نقضت العهود وأحدثت الأحداث، واستخففت بالأيمان والمواثيق.
ووجه محمد إلى أم عيسى بنت موسى الهادي امرأة المأمون يطلب منها جوهراً كان عندها للمأمون فمنعته، وقالت: ما عندي شيء أملكه، فوجه من هجم منزلها، فانتهب كل ما فيه، وأخذ ذلك الجوهر، فلما انتهى ذلك إلى المأمون جمع القواد الذين قبله، فقال لهم: قد علمتم ما كان أبي شرط علي وعلى محمد وقد نكث ونقض العهود وأوجد السبيل إلى خلعه بنكثه ونقضه وتعرضه لأموالي وأسبابي وأعمالي، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه، واستخفافه بحق الله فيما نكث من ذلك، واشتغاله بالخصيان، فاتفق رأيهم على مراسلته، فإن رجع، وإلا خلعوه.
وبلغ محمداً ذلك، فجمع قواده وذكر لهم خلع المأمون إياه وندبهم إلى الخروج إليه، فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السبيعي فسير معه جيشاً كثيفاً، فخرج حتى صار إلى حد خراسان ثم وقف وكتب إليه يحركه على المسير فامتنع، فقال: أخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان وأخذت عليك ألا تدخلها، ولا ترسل أحداً إليها، فإن جاءني إنسان من قبل المأمون إلى هاهنا قاتلته، وإلا لم أجز الحد فوجه محمد علي بن عيسى بن ماهان واليا على خراسان، وأمره بإشخاص المأمون ومن معه، وضم إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق وحملت إليه الأموال ودفع إليه قيد فضة، وقال: إذا قدمت خراسان قيد بهذا القيد المأمون واحمله إلى ما قبلي، فلما أتى المأمون الخبر ندب طاهر بن الحسين بن مصعب البوشنجي للخروج، وقبل ذلك كان قد ولاه كورة بوشنج وأزاح علته بالكراع والأموال، ونفذ، فلقي علي بن عيسى بالري في سنة 195، وعلي بن عيسى في خلق عظيم، وطاهر بن الحسين في خمسة آلاف، فخرج علي بن عيسى في نفر يسير يدور حول العسكر وبصر به طاهر بن الحسين فأسرع إليه في جماعة من أصحابه، فلاقى علياً وهو على برذون أصفر، وعليه طيلسان كحلي طويل، فدافع عنه من كان معه حتى قتل جماعة وركض، فاتبعه طاهر وحده، فضربه بسيفه حتى أثخنه، وسقط إلى الأرض، فنزل واحتز رأسه، ورجع إلى معسكره ونصب الرأس على رمح ونادى في عسكر علي بن عيسى: قتل الأمير! وبلغ أصحابه به خبره، فانهزموا وأسلموا الخزائن والكراع فلم يبت طاهر حتى حوى جميع ما كان في عسكره فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
وكتب طاهر بالفتح إلى المأمون إلى مرو، ووجه بالرأس إليه مع رجل من أصحابه، فلما دخل على ذي الرئاستين سأله عن الخبر، فذهل، وانقطع كلامه فلم يقدر على إجابته، فهال ذلك الفضل ففتح الخريطة، وقرأ الكتب ثم قال: أين الرأس؟ فطلب ما معه، فلم يوجد، وسئل عنه فلم يتكلم، فوجه في طلبه فوجده قد سقط على مقدار ميلين، فحمل وأدخل إلى مرو.
وقرئ الفتح على الناس وبويع للمأمون بالخلافة وخلع محمداً فأعطى جميع أهل خراسان الطاعة
للمأمون فحدثني أحمد بن عبد الرحمن الكلبي قال: سلم على المأمون بالخلافة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: أيها الناس إني جعلت لله على نفسي أن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمداً لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالاً، ولا أثاثاً، ولا نحلة تحرم على، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي إلا ما كان في الله له، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكداً، وميثاقاً مشدداً، إني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمي، ورهبة من مسألتي إياي عن حقه وخلفه، فإن غيرت، أو بدلت، كنت للعبر مستأهلا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه وارغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته ولما بلغ محمداً قتل علي بن عيسى بن ماهان وانهزام عسكره ومصيرهم إلى حلوان وخلع أهل خراسان له واجتماع كلمتهم على المأمون وأن طاهرا قد قوي بما صار في يده من الأموال والسلاح والكراع وكتب إليه المأمون ألا يعرج دون بغداد وأن يقصدها وجه عبد الرحمن بن جبلة إليه وأمره أن يضم إليه من بحلوان من القواد والجند الذين كانوا مع علي بن عيسى فلقي طاهرا بهمذان في ذي القعدة سنة 195، فقتله طاهر واستباح كل ما في عسكره فوجه محمد عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي فرجع من حلوان.
ووثب بالشام رجل يقال له علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية يدعو إلى نفسه، فوجه إليه محمد بالحسين بن علي بن ماهان فلما صار الحسين إلى الرقة أقام ولم ينفذ إليه، وتوفي داود بن يزيد المهلبي عامل السند فاستخلف ابنه ووثب مالك بن لبيد اليشكري بالسواد فدعا للمأمون. وبلغ محمد بن أبي خالد القائد وكان شيخ قواد الحربية والمطاع فيهم أن محمداً قد عزم على قتله والفتك به، فجمع إليه أهل الحربية والأبناء، ثم وثبوا بمحمد فوجه إليهم محمد... فتحاربوا بموضع ببغداد يقال له باب الشام فكانت تلك الحرب أول حرب وقعت ببغداد في تلك السنة. وكان عامل محمد بمصر حاتم بن هرثمة بن أعين، فعزله وولى جابر بن الأشعث الخزاعي سنة 195، فلما قدم جابر بن الأشعث لم يدع للمأمون على المنابر كما كان يدعى بعد محمد، فشغب الجند، وقالوا: لا طاعة! فأعطاهم عطاءين.
وقدم يحيى بن محمد المديني بكتاب المأمون، فامتنع جابر بن الأشعث من البيعة له، وأقام على طاعة محمد، فوثب السري بن الحكم البلخي، وكان أحد قواد مصر، وجماعة معه، ودعوا الجند إلى البيعة للمأمون، ووعدوهم رزق سنتين، فأجابوا إلى ذلك، وأخرجوا جابر بن الأشعث من دار الإمارة، وصيروا مكانه عباد بن محمد، وكان عباد خليفة هرثمة بن أعين في البلد، فدعا للمأمون بالخلافة في رجب سنة 196... قوم، فوجه إليهم عبد بن حكيم بن كون، ومحمد بن صعير، فكانت بينهم وقعة، ثم سلموا وبايعوا، وكتب محمد إلى رجل يقال له ربيعة بن قيس الحرشي، بولاية مصر، فجمع إليه أهل الحوف وغيرهم، وقاتل عباد بن محمد، وزحف إليه حتى صار إلى قرب الفسطاط، فكانت بينهم وقعات وغلب عباداً على البلد، إلى أن وجه المأمون بالمطلب بن عبد الله الخزاعي عاملاً على مصر.
وتوفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة، وهي سنة 196، وكان عامل محمد بن هارون على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور واضطرب البلد بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين: حزب يظاهر بمحمد وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون لا سلطان يمنعهم ولا يدفعهم، وأخذ طاهر من ناحية الجبل إلى الأهواز، وقتل محمد بن يزيد بن حاتم عامل محمد وجيلويه الكردي.
وتوجه زهير بن المسيب الضبي إلى فارس، فأخذها وبايع بها، وصار طاهر إلى واسط لثلاث خلون من رجب بعد أن بايع أهل البصرة للمأمون على يد منصور بن المهدي، وبالكوفة على يد الفضل بن موسى بن عيسى، وبالموصل على يد المطلب بن عبد الله، وبمصر على يد عباد بن محمد، وبالرقة على يد الحسين بن علي بن ماهان، فأخرجه من كان بها من الزواقيل وغيرهم، فقدم بغداد لثمان خلون من رجب سنة 196، فأنكر مذهب محمد، وبلغه عنه ما يكره، فدعا الجند ببغداد إلى بيعة المأمون، فأجابوه، فوثب على محمد، فحبسه وأمه وولده، فلما حبسهم طالبه الجند بأرزاقهم، فاعتل عليهم، فقبضوا عليه، وأخرجوا محمداً وأمه وولده من الحبس، وبايعوه، وضربوا عنق الحسين ابن علي، فسألوا محمداً في أرزاقهم، فأعطاهم خمسمائة خمسمائة، وقارورة غالية، وعقد أربعمائة لواء لقواد شتى، واستعمل عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة، وهرثمة يومئذ معسكر بالنهروان، فالتقوا في شهر رمضان، فهزمهم وأسر علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وبعث به إلى المأمون.
وزحف بجيشه حتى صار بموضع يقال له نهريين، من بغداد على فرسخ أو فرسخين وصار طاهر بنهر صرصر على أربعة فراسخ من بغداد، وكان طاهر في الجانب الغربي وهرثمة في الجانب الشرقي، وحرب بغداد قائمة في الجانبين جميعاً، إلا أن الأسواق قائمة، والتجار على حالهم لا يهاجون، وتجتمع على التاجر الواحد جماعة من أصحاب المأمون وجماعة من أصحاب محمد، فلا يكون بينهم تنازع، ووثب الأبناء والحربية بمحمد، ودعوا للمأمون، وكاتبوا طاهرا، وأعطوه الرهائن، فدخل طاهر بغداد، فاشتق الجانب الغربي إلى باب الأنبار.
وكان محمد قد حبس سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي لأمر بلغه، فلما صار هرثمة على باب بغداد أخرجهما من الحبس، ووجه بهما مع جماعة من بني هاشم إلى هرثمة يدعونه إلى طاعته ويجعل له ما أراد من الأموال والقطائع، فقال لهم هرثمة: لو لا أن لا تقتل الرسل لضربت أعناقكم، فانصرفا إلى محمد! وخلى سبيلهما.
ووثب أهل شرقي بغداد بمحمد، ودعوا للمأمون، وأجلوا خزيمة بن خازم التميمي، فصار إلى الجسر، فقطعه.
ودخل زهير بن المسيب من كلواذى في السفن، وفيها المنجنيقات والعرادات، فصار محمد إلى قصره المعروف بالخلد في غربي بغداد، فتحصن به، فرماه زهير بالمنجنيق.
ودخل هرثمة من باب خراسان من عسكر المهدي، وهو الجانب الشرقي من بغداد، ودخل طاهر من معسكره إلى مدينة أبي جعفر، وأحدقوا بالخلد، فخرج محمد من باب خراسان، حتى أتى دجلة يريد هرثمة، فبلغ أصحاب طاهر ذلك، فوثبوا بهرثمة، وهو في حراقة له حتى غرقوه، وأخرجوه بعد ساعة، وخرج محمد في غلالة وسراويل، حتى جلس على الشط، والعسكر يمر به ولا يعرفه، حتى مر به مولى لشكله، فعرفه، فحمله إلى منزله.
ثم أتى طاهر بن الحسين بخبره، فوقعت بين طاهر وبين هرثمة وزهير منازعة، فأمر طاهر قريشاً الدنداني مولاه، فضرب عنقه، ونصب رأسه على رمح، ومضى به إلى معسكره بالبستان، ثم بعث به إلى المأمون. فكان مقتله يوم الأحد من المحرم سنة 198، وسمعت من يقول: لخمس خلون من صفر، وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً بخطه: أما بعد، فإن المخلوع، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لمفارقته عصمة الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عز وجل، فيما قص علينا من نبإ نوح يا نوح، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة، إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع، وأسلمه بغدره ونكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين حقه، الكائد له فيمن خان عهده ونقض عقده، حتى رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، فأحيا به أعلام الدين بعد دثور سرائرها.
ثم كتب كتاباً بالفتح يشرح فيه خبره منذ يوم شخص من خراسان، وما عمل في بلد بلد ويوم يوم جعلناه في كتاب مفرد.
وكانت خلافته منذ يوم توفي الرشيد إلى أن قتل أربع سنين وسبعة أشهر وواحداً وعشرين يوماً، ومنذ مات هارون إلى أن خلع ثلاث سنين، وكانت سنة يوم قتل سبعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وقيل ثمانياً وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: موسى وعبد الله، وكان الغالب عليه إسماعيل ابن صبيح الحراني، والفضل بن الربيع، وعلى شرطة محمد بن المسيب، ثم عزله وولاه أرمينية، وصير مكانه محمد بن حمزة بن مالك، ثم عزله وصير مكانه عبد الله بن خازم التميمي، وكان على حرسه عصمة بن أبي عصمة، وحجابته إلى الفضل بن الربيع يقوم بها ولد الفضل.
وأقام الحج للناس في ولايته سنة 193 داود بن عيسى بن موسى، سنة 194 علي بن هارون الرشيد، سنة 195 داود بن عيسى، سنة 196 العباس بن موسى ابن عيسى، وهو على مكة، سنة 197 العباس، وغزا بالناس في سنة 194 الحسن بن مصعب من قبل ثابت بن نصر، سنة 195 ثابت بن نصر الخزاعي، سنة 196 ثابت بن نصر، سنة 197 ثابت بن نصر.
وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمر بن واقد، يحيى بن سليمان الطائفي، أبا معاوية محمد بن حازم المكفوف، أسباط مولى قريش، عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عبد الرحمن بن مسهر، محمد بن كثير الكوفي صاحب التفسير، سفيان بن عيينة، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير يزيد بن إسحاق، إسماعيل بن علية، عبد الوهاب الثقفي، يحيى بن سعيد القطان، يزيد بن مالك، الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي، إسحاق الأزرق، زيد بن هارون، علي بن عاصم، حماد بن عمرو، سلم بن سالم التميمي.
أيام المأمونوبويع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها مراجل الباذغيسية، في سنة 195، على ما ذكرنا في أيام محمد من أمره وأمر محمد، وبايع له عامة أهل البلدان سنة 196، فلما كان في المحرم سنة 198، وقتل محمد، اجتمع عليه أهل البلدان، ولم يبق أحد إلا أعطي طاعته، وادعى كل ممتنع في بلد أنه إنما كان في طاعة المأمون وعلى الميل إليه.
وكانت الشمس يومئذ في الميزان درجة وثلاثاً وخمسين دقيقة، والقمر في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والمشتري في الحمل ثماني عشرة درجة وعشر دقائق راجعاً، والمريخ في الأسد أربع درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الأسد أربعاً وعشرين درجة، وعطارد في السنبلة ثلاثاً وعشرين درجة وعشر دقائق، والرأس في الحمل أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة. ووجه المأمون المطلب بن عبد الله الخزاعي إلى مصر عاملاً عليها سنة 198، فأقام سبعة أشهر، ثم ولى العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي مصر سنة 199، فوجه بابنه عبد الله بن العباس، فحبس المطلب بن عبد الله، واستخلف إبراهيم ابن تميم على الخراج، وصير شرطته إلى عبد العزيز بن الوزير الجروي.
وساءت سيرة عبد الله بن العباس، فوثب السري بن الحكم، واستمال الجند، ثم حارب عبد الله حتى أخرجه من البلد، وأخرج المطلب من الحبس، فبايع له، ونزل دار الإمارة، وبيت عبد الله بن العباس، وأخذ كل ما كان معه من الأموال، ومضى عبد العزيز الجروي إلى تنيس، فأقام متغلبا عليها، وعلى ما والاها من كور أسفل الأرض، وغلب السري بن الحكم على قصبة الفسطاط والصعيد، وتغلب العباس بن موسى بن عيسى على الحوف في قيس، فخذلته، فأقام ببلبيس خمسة وثلاثين يوماً.
وفي سنة 198 وجه المأمون الحسن بن سهل إلى العراق عاملا عليها وعلى غيرها من البلد، وقد كان وثب الأصفر المعروف بأبي السرايا، واسمه السري ابن منصور الشيباني بالكوفة، ومعه محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا، ثم توفي محمد بن إبراهيم، فأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن زيد، فأخذ البصرة العباس بن محمد بن موسى الجعفري.
وقدم زيد بن موسى بن جعفر بن محمد من الكوفة، وقد كان خلع بها، فصار إلى البصرة مع العباس بن محمد الجعفري، وأخذ واسط محمد بن الحسن المعروف بالسلق، وأخذ اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وأخذ الحجاز محمد ابن جعفر، وتغلب على نصيبين وما والاها أحمد بن
عمر بن الخطاب الربعي، وبالموصل السيد بن أنس، وبميافارقين موسى بن المبارك اليشكري، وبأرمينية عبد الملك بن الجحاف السلمي ومحمد بن عتاب، وباذربيجان محمد بن الرواد الأزدي، ويزيد بن بلال اليمنى، ومحمد بن حميد الهمداني، وعثمان بن أفكل، وعلي بن مر الطائي، وبالجبل أبو دلف العجلي، ومرة بن أبي الرديني، وعلي ابن البهلول، ومحمد بن زهرة، وسنان وزيد بن... وبالسلسله وحن حساس وناحيتها بسطام بن السلس الربعي، وبكفر توثا ورأس عين حبيب بن الجهم، وبكيسوم وما والاها من ديار مضر نصر بن شبث النصري، وكان أصعب القوم شوكة وأشدهم امتناعاً، وبقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قنسرين عثمان بن ثمامة العبسي، وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي.
وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فلم يبق منهم أحد، وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قنسرين، وخرب يعقوب الحاضر حتى ألصقه بالأرض، وكان فيه عشرون ألف مقاتل، فهو خراب إلى اليوم. وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن حنطان التنوخي، وبحماة وما والاها حراق البهراني، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وبالمصيصة وأذنة وما والاها من الثغور الشامية ثابت ابن نصر الخزاعي، وكان عاملا للأمين، فلما كان من أمره ما كان تغلب على البلد، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من سائر القبائل، وبمصر السري بقصبة الفسطاط والصعيد، وبأسفل الأرض عبد العزيز الجروي، وبالحوفين القيسية واليمانية.
وغلبت لخم وبنو مدلج على الإسكندرية، ورئيس لخم رجل يقال له أحمد بن رحيم اللخمي، ثم غلب الأندلسيون، وكان ابتداء أمر الأندلسيين انهم قدموا من الأندلس في أربعة آلاف مركب، فأرسوا في ميناء الإسكندرية في الرمل، وكانوا زهاء ثلاثة آلاف رجل، فأقاموا على ساحل البحر، وما... ثم وثب بعض أعوان السلطان على رجل منهم، فوقعت عصبية، فوثب الأندلسيون على الفضل بن عبد الله أخي المطلب بن عبد الله، وقتلوا صاحب شرطته، وصاروا إلى الحصن وحاربوا أهل الإسكندرية، حتى أجلوهم عن منازلهم، فخلوا الديار والأموال، ورأسوا عليهم رجلاً يقال له أبو عبد الله الصوفي يسفك الدماء ويقتل المسلمين، ثم عزلوه وصيروا عليهم رجلاً يقال له الكناني، وأجلوا بني مدلج ولخما عن البلد، فصار البلد كله لهم، وكان ببرقة مسلم بن نصر الأعور الأنباري.
فلما ولى المأمون الحسن بن سهل العراق وجه خليفته ذا العلمين علي بن أبي سعيد، وكتب المأمون إلى طاهر بن الحسين أن يمضي إلى الجزيرة فيحارب نصر بن شبث، فلما قدم ذو العلمين العراق غلظ ذلك على طاهر، وقال ما أنصفني أمير المؤمنين! ثم نفذ إلى الجزيرة، فحارب نصراً.
وقدم الحسن بن سهل العراق، فنزل النهروان، وتوجه هرثمة إلى أبي السرايا، والتقوا بناحية الكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199، فكانت بينهم وقائع، فانصرف هرثمة، وزحف زهير بن المسيب الضبي إليه، فهزمه أبو السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجه إليه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد في جيش عظيم، فلقي أبا السرايا بموضع يقال له الجامع، بين بغداد والكوفة، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب من هذه السنة، فقتله أبو السرايا، وأسر أخاه هارون بن محمد بن أبي خالد وجماعة من أصحابه.
وبلغ زهيراً الخبر، فانصرف من قصر ابن هبيرة إلى بغداد، فرجع هرثمة في جيوش عظيمة، فلقي أبا السرايا، فلم يزل هرثمة حتى صار إلى الكوفة، فقاتله قتالاً شديداً، حتى قتل عامة أصحاب أبي السرايا، ودخل هرثمة الكوفة، وخرج أبو السرايا منهزماً، حتى صار إلى واسط، ثم إلى الأهواز، فلقيه الحسن ابن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فهزمه.
وانصرف أبو السرايا راجعاً منهزماً إلى روستقباذ، وهو عليل شديد العلة من بطن به، وبلغ
حماداً الخادم المعروف بالكندغوش مكانه، فهجم عليه، فأخذه وأخذ معه محمد بن محمد العلوي وأبا الشوك مولاه، فصار بهم إلى الحسن ابن سهل وهو بالنهروان، فلما أدخل عليه قال له أبو السرايا: استبقني، أصلح الله الأمير. قال: لا أبقى الله على أن أبقيت عليك فأمر به فضربت عنقه، وقطع بنصفين، وصلب على جسري بغداد. وأتي بمحمد بن محمد العلوي، فقربه وأدناه وبره، وقال له: لا خوف عليك، لعن الله من غرك وولى خالد بن يزيد بن مزيد الكوفة.
وصار الحسن بن سهل إلى المدائن، ووجه إلى محمد بن الحسن السلق عبد الله بن سعيد الحرشي، فالتقوا بواسط في شرقي دجلة، فهزم السلق، وفض جمعه.
ووجه عيسى بن يزيد الجلودي إلى محمد بن جعفر العلوي، وقد تغلب بمكة، وأخرج داود بن عيسى الهاشمي، فلما قدم الجلودي مكة لم يحاربه واستأمن إليه، فأخذه الجلودي، وخرج به بنفسه إلى المأمون وهو بمرو، وخلف ابنه بمكة، فلما صار بجرجان توفي محمد بن جعفر، وورد كتاب المأمون على الجلودي يأمره بالرجوع إلى الحجاز، فرجع.
ووجه حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان إلى اليمن، وإبراهيم بن موسى ابن جعفر العلوي متغلب بها، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن، وكانت وقعات منكرة تأخذ من الفريقين، وكان حمدويه قد استخلف على مكة يزيد ابن محمد بن حنظلة المخزومي، فخرج إبراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة، وبلغ يزيد بن محمد، فخندق عليه مكة، وأرسل إلى الحجبة، فأخذ الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان وصنم ملك التبت، وضربه دنانير ودراهم، وقرض قرضا من الأعراب، ودفع إليهم المال.
وصار إبراهيم إلى مكة، فوافقه يزيد في أصحابه، وبعث إبراهيم بن موسى بعض أصحابه، فدخل من الجبل، فانهزم يزيد ولحقه بعض أصحابه فقتله، ودخل إبراهيم إلى مكة، فغلب عليها، وأقام بها حمدويه في ناحية من اليمن.
وأشخص المأمون الرضا علي بن موسى بن جعفر من المدينة إلى خراسان، وكان رسوله إليه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل، فقدم بغداد، ثم أخذ به على طريق ماه البصرة حتى صار إلى مرو، وبايع له المأمون بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الإثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذت البيعة للرضى، ودعي له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه، ولم يبق أحد إلا لبس الخضرة إلا إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، فإنه كان عاملاً للمأمون على البصرة، فامتنع من لبس الخضرة، وقال: هذا نقض لله وله، وأظهر الخلع، فوجه إليه المأمون عيسى بن يزيد الجلودي فلما أشرف على البصرة هرب إسماعيل من غير حرب ولا قتال، ودخل الجلودي البصرة، فأقام بها، وصار إسماعيل إلى الحسن بن سهل، فحبسه، وكتب في أمره إلى المأمون وكتب بحمله إلى مرو، فحمل، فلما صار بالقرب من مرو أمر المأمون أن يرد إلى جرجان فيحبس بها، فأقام بجرجان محبوساً ممنوعاً منه، ثم رضي عنه بعد حين، ووجه ببيعة الرضا مع عيسى الجلودي إلى مكة، وإبراهيم ابن موسى بن جعفر بها مقيم، وقد استقامت له غير أنه يدعو إلى المأمون، فقدم الجلودي ومعه الخضرة وبيعة الرضا، فخرج إبراهيم فتلقاه، وبايع الناس للرضى بمكة، ولبسوا الأخضر.
وكان حمدويه بن علي بن عيسى، لما خرج إبراهيم إلى مكة، استمال جماعة من أهل اليمن، ثم خلع، فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولاية اليمن، وأمر الجلودي بالخروج معه ومعونته على محاربة حمدويه، فخرج إبراهيم حتى صار إلى اليمن، فلم يخرج الجلودي معه، فلحقه ابن لحمدويه، فحاربه، فقتل من أصحابه خلقاً، وانهزم ابن حمدويه، وصار إبراهيم إلى صنعاء، فخرج حمدويه، فحاربه محاربة شديدة، فقتل من أصحاب إبراهيم خلقاً عظيماً، وانهزم إبراهيم، فلم يرد وجهه شيء دون مكة، وانصرف الجلودي إلى البصرة، وقد تغلب عليها زيد بن موسى، ونهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس، وكان معه جماعة من القيسية وغيرهم، فلما قرب الجلودي حاربوه يومهم ذاك، ثم انهزموا، وانهزم زيد، فأخذه عيسى، وحمله إلى المأمون، فمن عليه، وأطلق سبيله.
وشخص هرثمة من العراق إلى مرو سنة 201، وقيل إنه انصرف بغير إذن من المأمون، فلما دخل على المأمون... قال: من نقرس، ولا يمكنني أمشي في محفة، وكلم المأمون بكلام غليظ، ودخل معه يحيى بن عامر بن إسماعيل الحارثي، فقال: السلام عليك يا أمير الكافرين! فأخذته السيوف في مجلس المأمون حتى قتل، فقال هرثمة: قدمت هذه المجوس على أوليائك وأنصارك؟ فأمر المأمون بسحب رجل هرثمة وحبسه، فأقام في محبسه ثلاثة أيام، ومات.
وخرج بخراسان منصور بن عبد الله بن يوسف البرم، فوجه إليه المأمون وبادر منصور بن عبد الله، فقتله.
ووثب محمد بن أبي خالد وأهل الحربية بالحسن بن سهل، حتى أخرجوه من بغداد، وأسروا زهير بن المسيب الضبي، وذلك أنه كان مع محمد بن أبي خالد... وأتوا محمد بن صالح بن المنصور، فقالوا: نحن أنصار دولتكم، وقد خشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس، وقد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضا، فهلم نبايعك، فإنا نخاف أن يخرج هذا الأمر عنكم. فقال لهم: قد بايعت للمأمون، وكان محمد بن صالح أول هاشمي بايع المأمون ببغداد، ولست لكم بصاحب وصار الحسن بن سهل إلى واسط فاتبعه محمد بن أبي خالد والحربية والأبناء، فالتقوا بقرية أبي قريش دون واسط فكانت بينهم وقعة منكرة، وأصاب محمد بن أبي خالد سهم فأثخنه، فحمل إلى جبل وأقام أياماً وتوفي، فحمل إلى بغداد.
وقام عيسى بن أبي خالد بالعسكر وقد كان محمد بن أبي خالد أسر زهير بن المسيب الضبي فلما أدخل محمد بن أبي خالد إلى بغداد ميتاً، وثب الأبناء على زهير بن المسيب وهو محبوس، فقتلوه، وشدوا في رجله حبلا، وجروه في طرق بغداد ومثلوا به، فاجتمع قواد الحربية فبايعوا لإبراهيم ابن المهدي، المعروف بابن شكلة لخمس ليال خلون من المحرم سنة 202، ودعي له بالخلافة وسمي بالمرضي ونزل الرصافة وصلى بالناس ببغداد في مسجد المدينة وعسكر بكلواذي ومعه الفضل بن الربيع وعيسى بن محمد بن أبي خالد وسعيد بن الساجور وأبو البط، وكتب بالولايات وعقد الألوية واستقامت له الأمور، وأطاعه الأبناء وأهل الحربية وما والاها، إلا من كان في طاعة المأمون فإنهم كانوا يحاربون مع حميد بن عبد الحميد الطائي الطوسي ويصيحون: يا عنقود، يا مغني! وكان إبراهيم أسود شديد السواد، وبنصف وجهه شامة، سمج المنظر، وكانوا يدعونه عنقوداً لذلك، ثم وثب أسد الحربي وكان من أصحاب إبراهيم في جماعة من الحربية فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون وأخذ عيسى بن أبي خالد أسداً الحربي وابنا له، فقتلهما وصلبهما.
وكان حميد بن عبد الحميد نازلا بموضع يقال له خان الحكم بنهر صرصر فراسل عيسى بن أبي خالد ليجتمعا، ثم صار حميد إلى بغداد فصلى خلف ابن أبي رجاء القاضي صلاة الجمعة، وانصرف إلى معسكره.
وخرج مهدي بن علوان الشاري بناحية عكبراً فخرج إليه المطلب ابن عبد الله فواقعه وقعة بعد وقعة، ثم هزمه مهدي فانصرف المطلب منهزما إلى بغداد وخرج إليه أبو إسحاق بن الرشيد فواقعه، وهزم مهدي ولم يزل يتبعه حتى أسره فمن عليه المأمون وألزمه بابه، وألبسه السواد فلم يزل على باب المأمون حتى مات.
وخرج المأمون من مرو متوجها إلى العراق سنة 202، ومعه الرضا وهو ولى عهده وذو الرئاستين الفضل بن سهل وزيره، وقد كتب للفضل الكتاب الذي سماه كتاب الشرط والحباء يصف فيه طاعته، ونصيحته، وعظته، وعنايته، وذهابه بنفسه عن الدنيا، وارتفاعه عما بذل من الأموال والقطائع والجوهر والعقد ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب، لا يدفعه، ولا يمنعه، ووقع فيه المأمون بخطه، وأشهد على نفسه، فلما صار المأمون بقومس قتل الفضل بن سهل وهو في الحمام، دخل عليه غالب الرومي وسراج الخادم بالسيوف فقتلهما المأمون جميعاً، وقتل قوماً معهما، وقتل ذا العلمين علي بن أبي سعيد وكان ابن خالة الفضل بن سهل وقال إنه الذي دس في قتله، ووجه برأسه إلى الحسن بن سهل إلى العراق وقتل خلف بن عمر البصري المعروف بالحف وموسى البصري وعبد العزيز بن عمران الطائي وغالباً الرومي وسراجاً الخادم وأقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد جزع، ولم يوجد للفضل مال ولا ضيعة، ولا فرس، ولا آنية، إلا خمسة أعبد وفرساً وبرذوناً.
قال غسان بن عباد قلت للفضل يوماً: أيها الأمير لو أمرت أن يتخذ لك ضياع وعقد، فقال: ولم؟ ويحك إن دام ما أنا فيه فالدنيا كلها ضيعتي وعقدي، وإن زال فما أنا فيه لا يزول إلا باصطلام. قال أبو سمير: وكنت أسمع الفضل بن سهل في أيام المأمون كثيراً ما يقول:
لئن نجوت أو نجت ركائبي ... من غالب ومن لفيف غالب
إني لنجاء من الكرائب
وهو لا يدري من غالب ولا يذهب إلا إلى قريش، حتى دخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون فقتله، فقال الفضل: لك مائة ألف دينار. فقال: ليس بأوان تملق ولا رشوة وقتله.
وكان المأمون كلما مر ببلد أقام فيه، حتى يصلح حاله، وينظر في مصالح أهله، واستخلف على خراسان عند خروجه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الحسن بن سهل وكانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها جميعاً الطاعة وأسلم ملك التبت وقدم على المأمون إلى... بصنم له من ذهب على سرير من ذهب، مرصع بالجوهر، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرف الناس هداية الله لملك التبت ولم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها، فلما فصل المأمون عن خراسان قلت مداراة رجاء بن أبي الضحاك وضعف في تدبيره، ولم يكن بالحازم في أموره فخاف المأمون أن يضطرب خراسان فعزله، وولى غسان ابن عباد فأحسن السيرة واستمال ملوك النواحي.
وفاة الرضا عليولما صار إلى طوس توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بقرية يقال لها النوقان أول سنة 302 ولم تكن علته غير ثلاثة أيام، فقيل إن علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم، وأظهر المأمون عليه جزعا شديدا. فحدثني أبو الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتى النعش يقول: إلى من أروح بعدك، يا أبا الحسن! وأقام عند قبره ثلاثة أيام يؤتى في كل يوم برغيف وملح، فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكانت سن الرضا أربعا وأربعين سنة. وقال أبو الحسن بن أبي عباد سمعت الرضا يقول: إن مشي الرجال مع الرجل فتنة للمتبوع ومذلة للتابع وسمعته يقول: إن في صحف إبراهيم: أيها الملك المغرور! إني لم أبعثك لتبني البنى، ولا لتجمع الدنيا، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من كافر.
وقال للمأمون: ما التقت فئتان قط إلا نصر الله أعظمهما عفواً.
وقال: إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن، فيتعظ، فأما صاحب سيف وسوط فلا! إن من تعرض لسلطان جائر فأصابته منه بلية، لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر فيها.
وقدم المأمون مدينة السلام في شهر ربيع الأول سنة 204، ولباسه ولباس قواده وجنده والناس كلهم الخضرة، فأقام جمعة، ثم نزعها، وأعاد لباس السواد.
وتغيب إبراهيم بن المهدي فلم يدر أين هو، وخرج من منزله، ومعه عبد الله بن صاعد كاتبه وامرأة من أهله، فلما صار في الطريق قال لعبد الله ابن صاعد: ارجع إلى أمي فسلها أن تدفع الجوهر الذي عندها! فرجع عبد الله ومضى هو، فخفي موضعه، وهرب الفضل بن الربيع إلى البصرة فاستتر عند يزيد بن المنجاب المهلبي وأمر المأمون أن يقبض ضياعه وأمواله وعقاراته، ثم صار إلى باب المأمون طالبا للأمان وقد كان بلغ المأمون أنه مات، وشهد عنده بذلك جماعة، فلما قيل للمأمون: هذا الفضل بن الربيع! قال: إن كان بعث من الآخرة فقد بعث الرشيد معه. ثم أدخله، فأعطاه الأمان ومن عليه وأحضره ليلة فقال: هبك تعتذر في محمد بأنه كانت له في عنقك بيعة من الرشيد فما عذرك في ابن شكلة وإنما محله محل المغنين والسفهاء، إذ قويت عزمه على ما خرج إليه من خلعي بعد أن صارت بيعتي في عنقك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما أجد قلبي مكانه، وقد عظم جرمي عن الاعتذار، وجل ذنبي عن الإقالة، وما أرجو الحياة إلا من سعة عفوك فهب دمي لحرمتي بآبائك! فأمسك عنه ورد عليه ضيعة من ضياعه مبلغ مالها ثلاثمائة ألف درهم وستون ألفاً، قدرها لقوته وقوت عياله.
وأنزل المأمون محمد بن صالح بن المنصور دار الفضل بن الربيع وزوجه بخديجة ابنة الرشيد وأمر له بألفي ألف درهم مكافأة على ما كان من مسارعته إلى بيعته وطاعته والامتناع من بيعة إبراهيم وأعفاه من الركوب إلى بابه وإلى دار العامة فكان يركب مكانه كاتبه جعفر بن وهب وزوج محمد بن الرضا ابنته أم الفضل وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله وعلي بن أبي طالب فلم تلد منه، وولى صالح ابن الرشيد البصرة فاستخلف أبا الرازي محمد بن عبد الحميد وولى أبا عيسى ابن الرشيد الكوفة فاستخلف محمد بن الليث وكان طاهر بن الحسين بالجزيرة في محاربة نصر بن شبث فوجه إليه بعهده على الجزيرة والشام ومصر وولى دينار بن عبد الله الجبال وقد كان الحسن بن سهل ولى الجبل بأمر المأمون الحسن بن عمرو الرستمي فخلع أيضاً، وأظهر المعصية، فلما قدم دينار حاربه، فأسره وأسر علي بن البهلول ووجه المأمون بنصر بن حمزة ابن مالك الخزاعي إلى الثغور وقد ولى الرشيد إياها ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وخيف معصيته فتسلمها منه نصر بن حمزة وتولى الثغور ولم يلبث ثابت بن نصر إلا أقل من جمعة حتى مات، فقيل إن نصر بن حمزة ابن مالك سقاه السم.
ووجه المأمون بعيسى بن يزيد الجلودي عاملا على اليمن وبها حمدويه بن علي بن عيسى متغلب قد أظهر المعصية بعد خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي فلما صار إلى مكة أشخص إبراهيم بن موسى إلى بغداد وولى مكانه عبيد الله بن الحسن العلوي بعهد من المأمون ونفذ الجلودي إلى اليمن وزحف إليه حمدويه فالتقوا لخمس خلون من جمادى الأولى سنة 205، فدعاه إلى الطاعة فامتنع، وشبت الحرب بينهم، فقتل من أصحاب حمدويه خلق عظيم، وانهزم حمدويه حتى دخل مدينة صنعاء فاتبعه الجلودي حتى صار إلى الدار التي كان ينزلها، فأخذه الجلودي وهو في ثوب جارية من جواريه، فقال له: سوءة لك قائد ابن قائد يقاتل الخليفة ويفر من الموت هذا الفرار؟ قد آمنك الله على دمك، حتى تصير إلى أمير المؤمنين فيحكم فيك برأيه. وأشخصه إلى المأمون.
ووثب الجند بطاهر بن الحسين وهو بالرقة يحارب نصر بن شبث فانصرف إلى بغداد وولى مكانه يحيى بن معاذ فأقام بالرقة حتى توفي، وولى المأمون طاهرا الشرط فأقام سنة، ثم شكا إلى أحمد بن أبي خالد الأحول كاتب المأمون ببرمه بالمقام بالباب ومحبته الخروج من بغداد وكان بينهما مودة وخلة، وجعل له ثلاثة آلاف ألف درهم، فاحتال أحمد بن أبي خالد أن كتب عن غسان بن عباد عامل خراسان كتاباً إلى المأمون فيه أن تعفني من خراسان فقال المأمون: والله ما أعرف في المملكة إلا خراسان وما أدري ما حمل هذا الجاهل على الاستعفاء إلا أن يكون ما رأى نفسه لها أهلاً. فقال له أحمد بن أبي خالد فولها طاهراً! فولى طاهر بن الحسين خراسان في أول سنة 206 مكان غسان بن عباد فقدمها طاهر وقد خرج حمزة الشاري بها، فوجه إليه بجيش بعد جيش ثم توفي حمزة فقام بعده ابنه إبراهيم بن النصر التميمي فلم يزل أيام طاهر وقدم غسان بن عباد من خراسان فحجبه المأمون عنه شهراً، ثم كتب الحسن بن سهل فيه، فأذن له فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك ما ذنبي؟ قال: تستعفيني من خراسان وهي المملكة بأسرها... فحلف له على ذلك، ووقف على تدبير أحمد بن أبي خالد.
وولى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة والشام ومصر والمغرب وصير إليه جميع أعمالها، وأمره بمحاربة المتغلبين بها، فنفذ عبد الله في سنة 206 بعد نفوذ أبيه إلى خراسان بشهرين، فصار إلى الرقة، فواقع نصر بن شبث النصري المتغلب بكيسوم وما والاها من ناحية الجزيرة، وكتب إلى سائر المتغلبين في النواحي من الجزيرة والشامات، وأنفذ إليهم الرسل في المعاون، فكتب القوم جميعاً انهم في الطاعة، وسألوه أن يكتب لهم الأمانات، فقبل ذلك منهم.
ووجه المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني إلى مصر، ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش، وأمرهما أن يتكاتفا على النظر، فإذا فتحا البلاد نظر عمر بن فرج الرخجي في أمر الخراج، وكان إلى خالد المعاون والصلاة، فسارا من العراق، وأخذا طريق البرية حتى صارا بفلسطين، ثم قدما إلى مصر، وعلي ابن عبد العزيز الجروي متغلب بأسفل الأرض، فلما قربا منه كتب إليهما أنه في السمع والطاعة، وأنه لم يزل هو وأبوه على ذلك، وأن كتبهما لم تزل بهذا، فصار خالد بن يزيد وعمر بن فرج إلى ناحية أسفل الأرض، فأقاما عدة شهور يكاتبان عبيد الله بن السري، ثم زحف إليه خالد، فأقام عمر بموضعه وخرج عبيد الله من الفسطاط لمحاربة خالد، فلما التقيا خذل خالدا أصحابه الذين كان الجروي أنفذهم معه، فحارب خالد ساعة في مواليه وعشيرته، وكاثره عبيد الله، وأسره، فأقام عنده مكرما في أحسن حال وأجملها، ثم حمله في البحر، وزوده، وأجازه إلى العراق وكان خالد يقول: ما شكرت أحداً شكري لعبيد الله بن السري، لقد أحسن إلي كل إحسان لو لا أنه حملني في البحر وأقام عمر بن الفرج بأسفل الأرض إلى أن حضر وقت الحج، فبذرقة ابن الجروي إلى مكة.
وكتب صاحب الخبر بخراسان يذكر أن طاهر بن الحسين صعد المنبر في يوم الجمعة، فخطب الناس، ولم يدع لأمير المؤمنين، فدعا المأمون بأحمد ابن أبي خالد ليلاً، فقال له: بعتني بثلاثة آلاف ألف درهم أخذتها من طاهر؟ فقال: أنا أخرج إليه، فأكفيك أمره، فأمره أن يتجهز، ثم ورد كتاب طاهر على أحمد بن أبي خالد يسأله أن يوجه إليه محمد بن فرخ العمركي، وكان أحب الناس إلى طاهر، وأوثقهم في نفسه، فقال أحمد بن أبي خالد للمأمون: يا أمير المؤمنين! إن محمد بن فرخ يقوم بما كنت أقوم به، فأقطع عدة قطائع، ووصل بمال عظيم، ونفذ إلى خراسان، فأقام عنده شهراً حتى توفي، فيقال إن ابن أخي العمركي سقاه سما فقتله.
وتوفي طاهر بن الحسين بخراسان في سنة 207، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، فولى المأمون ابنه طلحة بن طاهر خراسان، وأنفذ أحمد بن أبي خالد في الجيش الذي كان ضمه إليه، فنفذ إلى خراسان، وأقدم معه الأفشين حيدر بن كاوس الأشروسني وجملة من أبناء ملوك خراسان.
وبلغ المأمون أن بشر بن داود المهلبي عامل السند قد خالف، فوجه حاجب ابن صالح عاملاً مكانه، فلما صار بمكران ألفي أخا لبشر بن داود، فقال له: سلم العمل، إن سبيل كتاب العمل أن يقرأه بشر ليكتب بالتسليم، وقال: إنما أنا من قبل بشر، وبشر بالمنصورة، وبينك وبينه يومان، فإذا اجتمعت معه وكتب إلي بالتسليم سلمت إليك. فوقعت بينهما المنازعة، وكتب إلى المأمون يخبره أن بشرا قد خلع، وأنه على محاربته، فأحضر المأمون محمد بن عباد المهلبي، وكان سيد أهل البصرة في زمانه، فقال: قد خالف بشر! فقال: معاذ الله! قال: فاخرج مع غسان بن عباد! فوجه مع غسان بجماعة من القواد وبموسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وأمره أن يولي موسى البلد، فلما صار غسان إلى بلاد السند خرج إليه بشر، وأعطاه الطاعة من غير حرب ولا منازعة، فأشخصه، وولى البلد موسى بن يحيى، فلم يزل موسى في البلد حتى مات، فصار ابنه عمران بن موسى مكانه، ولما قدم بشر بن داود العراق ومن كان معه من آل المهلب أطلقهم المأمون جميعاً، وأحسن إليهم.
وظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي بن شكلة في أول سنة 208، ظفر به ليلاً، فجلس في تلك الليلة جلوسا عاما، وحبسه عند أحمد بن أبي خالد بغير وثاق، وأمره بالإحسان إليه، ثم كتب إبراهيم من حبسه، وهو لا يشك أنه يقتله، كتابا إلى المأمون قال فيه: ولى الثأر، يا أمير المؤمنين، محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، من تناوله الاغترار بما مد له من الرخاء أمر عادية الدهر على نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذي ذنب دوني، فإن عفوت
فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع المأمون في رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة بينهما عفو الله، وهو من أكثر ما نسأله. وخلى سبيله، وعفا عنه، وقال: إني شاورت جميع أصحابي في أمرك حتى شاورت أخي أبا إسحاق وابني العباس، فكلهم أشار علي بقتلك، فأبيت إلا العفو عنك. فقال: إما أن يكونوا قد نصحوك في عظم الخلافة وتدبير الملك، فقد فعلوا، ولكنك أبيت أن تستجلب نصر الله من حيث دعوك. وكان المأمون شاور فيه أصحابه جميعاً، فكل أشار بقتله، فقال لهم: إن قتلته كنت متبعا للملوك قبلي فيما فعلته بمن ناواها ونازعها، وإن عفوت كنت أمه وحدي.
ووثب ابن عائشة، وهو إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، في جماعة معه منهم: مالك بن شاهي النفري من أهل السواد، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، فدونوا الدواوين، وأثبتوا أسماء الرجال، وسموا العمال، فظفر به المأمون، فحبسه في المطبق، فاستمال إبراهيم بن عائشة أهل المطبق، حتى حملهم على الوثوب، وأن يشغبوا، وتنصروا، وشدوا الزنانير في أوساطهم والصلب في أعناقهم، ورفع محمد بن عمران صاحب البريد خبرهم، فركب المأمون إلى المطبق ليلاً، لما صح عنده الخبر، وأحضر جماعة من قواده، ودعا بإبراهيم، فضرب عنقه وقتل الذين كانوا معه، وهم: الإفريقي، وفرج البغوارى، وصلب ابن عائشة ببغداد ثلاثة أيام، ثم أنزله، وكان ذلك في سنة 210.
وشخص المأمون من بغداد إلى فم الصلح، وهو منزل الحسن بن سهل فتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، فعرس بها هناك، فكان عرسا لم ير مثله، فأنفق الحسن بن سهل على المأمون وجميع من معه من أهل بيته وكتابه وأصحابه وجميع من حوى عسكره من الاتباع، أيام مقام المأمون، ونثر عليهم الضياع والقرى والجواري والوصفاء والخيل والدواب، فكانت تكتب أسماء هذه الأنواع في رقاع صغار، وتجعل في بنادق المسك، وتنثر على الناس، فكلما أخذ إنسان بندقة نظر إلى الرقعة فيها، ثم قبضها من الوكلاء، ثم نثر على الناس الدراهم والدنانير وفار المسك وقطع العنبر، وأقام المأمون أربعين يوماً ثم انصرف.
وفتح عبد الله بن طاهر كيسوم، فظفر بنصر بن شبث في هذه السنة، وهي سنة 210، وحمله إلى المأمون.
فحكى ابن منصور بن زياد، وكان على بريد عبد الله بن طاهر، وكتب بخبره إلى المأمون: أن عبد الله بن طاهر يخرج في كل ليلة من عسكره، ويخرج إليه نصر بن شبث، فيجتمعان ويتحدثان، فدعا المأمون بعمرو بن مسعدة، فأمره أن يظهر علة يحتاج أن يقيم لها في منزله، وأن يخرج على خمس عشرة دابة من دواب البريد، ولا يعلم أحداً حتى يصير إلى عبد الله بن طاهر، ويقول له: يا ابن ألفاًعلة، لقد هم أمير المؤمنين أن يؤمر عبدا أسود، ثم يوجهه مكانك، ويجعلك سائساً له، وأمر عمراً أن لا يسلم عليه، ولا يسمع له جواباً، فخرج عمرو، فلما اجتمع مع عبد الله لم يسلم عليه حتى بلغه الرسالة على رؤوس الناس، ثم انصرف، ولم يسمع منه جواباً، فلما كان يوم الأربعين من مصير عمرو وافى نصر بن شبث، وسار عبد الله يستقري الشام بلداً بلداً لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل، وهدم الحصون وحيطان المدن وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر، وضمهم جميعاً، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا خالع إلا خرج من قلعته وحصنه.
وسار عبد الله بالقوم جميعاً إلى مصر، فلقيه علي بن عبد العزيز الجروي المتغلب بأسفل الأرض، فأعلمه أنه لم يزل هو وأبوه في الطاعة، فقبل قوله، وسيره معه حتى نزل ببلبيس، فواقع عبيد الله بن السري وقعات، وجعل أصحاب عبيد الله يستأمنون شيئاً بعد شيء، حتى لم يبق معه ممن كان يعتمد عليه أحد، فلما رأى ذلك طلب الأمان، على أن يسوغ ما أخذ، ويطلق له جباية الصعيد شهرين، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه الأمان، وقال: لو شرط أن أضع له خدي في الأرض يطأ عليه لفعلت، وكان ذلك قليلاً عندي في جنب ما أؤثره من حقن الدماء، فخرج إليه لعشر بقين من صفر سنة 211.
ودخل عبد الله بن طاهر الفسطاط، وكتب بالفتح، وأقر عبد الله بن طاهر عبيد الله بن السري على الصعيد شهرين، ثم سيره إلى العراق، ثم ولى العباس ابن هاشم بن باتيجور البلد.
وكان قوم من الأندلس قد تغلبوا بالإسكندرية، فزحف إليهم عبد الله، فحاصرهم حصارا شديدا، ثم آمنهم، وفتح الإسكندرية سنة 212، وولاها إلياس ابن أسد الخراساني، وانصرف إلى الفسطاط، ثم صار إلى العراق، وحمل معه الجروي وجماعة من أهل مصر والشام واستخلف على مصر عيسى بن يزيد الجلودي.
وكان أحمد بن محمد العمري، من ولد عمر بن الخطاب، قد وثب باليمن، وأخرج محمد بن نافع، واحتوى على بيت المال، فولى المأمون أبا الرازي محمد بن عبد الحميد اليمن، فلما قدم ضرع العمري إلى الأمان، فأعطاه إياه، ثم مكر به أبو الرازي، فأخذه وجماعة من أهل بيته وولده، فأوثقهم في الحديد، وحملهم إلى باب المأمون وأخذ أهل اليمن بأداء خراجين جباهما ابن العمري، ووجه إلى إبراهيم بن أبي جعفر الحميري المعروف بالمناخي، وكان في جبل له منيع، يأمره بالمصير إليه، فلم يصر إليه، فزحف إليه يريده، فلما صار إلى الجبل سلك طريقاً ضيقاً، وخرج ابن أبي جعفر، فقتله وقتل خلقاً من أصحابه، وأسر خلقاً، فقطع أيديهم وأرجلهم، وخلى سبيلهم، وغلب إبراهيم بن أبي جعفر على اليمن، وخرب مدينة السلطان وكان ذلك في سنة 212.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن مالك الخزاعي في ذي الحجة، وفيها كثر الحريق في الكرخ. وكان المأمون قد ولى طاهر بن محمد الصنعاني أرمينية وآذربيجان، وقيل بل وجهه هرثمة بن أعين من همذان، وهو متوجه إلى العراق، فصار إلى ورثان، من عمل آذربيجان، وكاتب قواد أرمينية ووجوه جندها، فبايعوا للمأمون، وكان العامل عليها من قبل المخلوع إسحاق بن سليمان، فكان معه عمر، والحزون، ونرسى، وعبد الرحمن صار بطريق الران وجماعة من البطارقة، وأقبل يريد برذعة ليوقع بأهلها لإخراجهم ابنه، فوجه إليهم طاهر عامل المأمون زهير بن سنان التميمي في خلق عظيم، فالتقوا، فاقتتلوا عامة يومهم، ثم انهزم إسحاق بن سليمان وأصحابه وأسر ابنه جعفر بن إسحاق بن سليمان فوجهه ومن معه من الأسارى إلى المأمون.
ولم يقم طاهر الصنعاني إلا أياماً حتى خرج عليه عبد الملك بن الجحاف السلمي خالعا، ووثب في أهل البيلقان فحصروا طاهراً في مدينة برذعة، فأقام محصوراً عدة أشهر، وبلغ المأمون، فولى سليمان بن أحمد بن سليمان الهاشمي، فقدم البلد، وطاهر محصور، فأخرجه وصرفه، وأعطى عبد الملك الأمان، واستقامت البلاد، ثم ولى حاتم بن هرثمة بن أعين أرمينية، فقدم البلد، وقد وقعت بين المعتزلة والجماعة العصبية، فبعضهم يقتل بعضاً، حتى كادوا يتفانون ثم اصطلحوا، ولم يقم حاتم بن هرثمة في البلد إلا أياماً قلائل حتى أتاه خبر موت أبيه هرثمة والحال التي مات عليها، فخرج من برذعة، حتى نزل كسال، فبنى بها حصناً، وعمل على أن يخلع، وكاتب البطارقة ووجوه أهل أرمينية، وكاتب بابك والخرمية، وهون أمر المسلمين عندهم فتحرك بابك والخرمية، وغلب بابك في عمل آذربيجان.
وبلغ المأمون الخبر، فولى يحيى بن معاذ بن مسلم مولى بني ذهل أرمينية... ففعل ذلك، وواقع يحيى بن معاذ وقعات لم يظهر عليه في وقعة منها، وكان المأمون قد أمر عيسى بن محمد بن أبي خالد القائد المحارب، كان في أيام المخلوع، فلما لم يحمد أثر يحيى، ولى عيسى أرمينية وآذربيجان، وأمره أن يجهزهم ويعطيهم الأرزاق من ماله، فجهزهم عيسى بن محمد من ماله، وهم الذين كانت ناحيتهم بمدينة السلام، وخرج، فلم يبق ببغداد أحد من الجند الحربية الذين كانوا في الفتنة فلما صار في البلد أتاه محمد بن الرواد... أن يمشي وجميع رؤساء تلك البلاد، فاحتشد لقتال بابك، وأخذ في مضيق، فلقيه بابك فيه، فهزمه، فمر عيسى مولياً لا يقف على شيء، فصاح به بعض شطار الحربية: إلى أين يا أبا موسى؟ فقال: ليس لنا في قتال هؤلاء بخت، إنما نخشى في قتال المسلمين.
وانصرف من آذربيجان إلى أرمينية، وقد عصى سوادة بن عبد الحميد الجحافي، فعرض عليه عيسى أن يوليه أرمينية، فأبى إلا محاربته، فحاربه فهزمه بعد جهد، واستقامت لعيسى بن محمد أرمينية، واستعظم أمر بابك بالبذ، فولى المأمون زريق بن علي بن صدقة الأزدي، فلم يصنع شيئاً، فولى محمد ابن حميد الطوسي، فلما بلغ زريقاً خبر صرفه خلع، وأظهر المعصية.
وقدم محمد بن حميد البلد، فحاربه زريق، فقتل محمد أصحابه، ثم طلب الأمان، فأمنه، وحمله إلى المأمون، وأقام محمد بن حميد حتى نقى البلاد ممن كان يخاف ناحيته، فلما أمكنه محاربة بابك عبا لقتاله، وزحف إليه، فحاربه محاربة شديدة له في كل ذلك الظفر، ثم صار إلى موضع ضيق فيه حزونة، فترجل ابن حميد وجماعة معه، فحمل عليهم أصحاب بابك، فقتل محمد وجماعة من وجوه أصحابه، وانهزم العسكر، وأقام على الجيش مهدي بن أصرم قرابة لابن حميد، وكان ذلك في أول سنة 214.
ولما قتل محمد بن حميد ولى المأمون عبد الله بن طاهر، وعقد له على كور الجبال وأرمينية وآذربيجان، وكتب إلى القضاة وعمال الخراج بالانتهاء إلى أمره، فخرج عبد الله، وأقام بالدينور، وكتب إلى مهدي بن أصرم، ومحمد بن يوسف، وعبد الرحمن بن حبيب، القواد الذين كانوا مع محمد بن حميد، أن يقيموا بمواضعهم.
وتوفي طلحة بن طاهر بخراسان، فولى المأمون مكانه عبد الله، ووجه إليه بعهده وعقده مع إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن أكثم، قاضي القضاة، فنفذ عبد الله إلى خراسان في هذه السنة، فولى المأمون آذربيجان ومحاربة بابك علي بن هشام، وولى عبد الأعلى بن أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، فقدم البلد، وقد تغلب على جرزان محمد بن عتاب، وانضمت إليه الصنارية، فحاربه فهزمه ابن عتاب، ولم يكن له ضبط ولا معرفة بالحرب، فولى المأمون خالد بن يزيد بن مزيد، فأخرج من كان في الحبس بالعراق من عشيرته، وشخص إلى الجزيرة، فانضم إليه خلق عظيم من ربيعة، ثم صار إلى البلد، فلما قدم خلاط أتاه سوادة بن عبد الحميد الجحافي فأمنه، ثم صار إلى النشوي، وقد كان تغلب بها يزيد بن حصن مولى بني محارب، فهرب منه يزيد بن حصن، وأتى كسال، فأقام بها، وبعث إلى محمد بن عتاب، وأتاه في الأمان مظهراً للطاعة، فأمنه خالد، ثم قال: الصنارية في طاعتك! فقال له محمد بن عتاب: ما هم لي في طاعة! فزحف إليهم خالد، فواقعهم بجرزان، فهزمهم، وأخذ مواشيهم، ثم دعا إلى الصلح، وصالحهم على ثلاثة آلاف رمكة وعشرين ألف شاة فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى وثبوا ووثب معهم القيسية، وشغبوا على خالد، وكان في القوم علي بن يحيى الأرمني، فأسره خالد، وأسر جماعة، ووجه بهم إلى المأمون، فصيرهم في ناحية أبي إسحاق المعتصم، وضمهم إليه، وفرض لهم. ثم ولى المأمون عبد الله بن مصاد الأسدي مكان خالد، وأشخص خالداً إليه، فخاف خالد أن يكون قد سعى عنده، فلما قدم ضمه إلى أخيه المعتصم، وقدم عبد الله بن مصاد الأسدي البلد، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، واستخلف ابنه علياً، فاضطرب البلد، وولى المأمون الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني، فقدم والبلد مضطرب، فقاتل أهل قلعة ليايقين، ففتحها، وانصرف إلى دبيل، فأقام بها، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل بن شعيب التفليسي في حمل الأموال، فدافعه إسحاق ورد رسله، فزحف إلى تفليس، فلما قرب منه خرج إليه، فأعطاه مالاً، فانصرف عنه.
وعقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على مصر والمغرب، ولابنه العباس على الجزيرة سنة 214، فقدم العباس الجزيرة، وقد وثب بلال الشاري، فاجتمع هو وأبو إسحاق وجماعة من معهما من القواد عليه، فظفروا به، فقتلوه.
ووثب القيسية واليمانية بمصر بناحية الحوف، فحاربهم عيسى بن يزيد الجلودي، فهزموه غير مرة، فوجه أبو إسحاق بعمير بن الوليد عاملاً على مصر مكان الجلودي، فحاربهم وأكثر فيهم النكاية، ثم قتل، فأمر المأمون أبا إسحاق أن ينفذ إليهم، فسار إليهم من الرقة، فدعاهم إلى الأمان، فأبوا عليه، فقاتلهم، فظفر بهم، وأسر عبد الله بن جليس الهلالي رئيس القيسية، وعبد السلام الجذامي رئيس اليمانية، فضرب أعناقهما وصلبهما على جسر مصر، وأسر منهم خلقاً عظيماً حملهم إلى بغداد.
ووشي يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم، وأن يكون مقيما حتى يوافيه، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة.
وخرج المأمون متوجها إلى أرض الروم في المحرم سنة 215، فغزا الصائفة، وافتتح أنقرة نصفا بالصلح ونصفا بالسيف، وأخربها، وهرب منويل البطريق منها، وفتح حصن شمال، ثم انصرف، فنزل دمشق ثم أتاه الخبر أن أهل البشرود من كور مصر قد ثاروا، فأمر أخاه أبا إسحاق أن يوجه الأفشين حيدر ابن كاوس، فوجه به وكف عاديتهم، ونفذ إلى برقة، وقد خالف أهلها فافتتحها، وأسر مسلم بن نصر بن الأعور، وانصرف إلى مصر سنة 216، وقد عاود أهل الحوف وأهل البشرود المعصية، فحاربهم.
وغزا المأمون أرض الروم سنة 216، ففتح اثني عشر حصناً، وعدة مطامير، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف، فوجه العباس ابنه، فلقيه، فهزمه، وفتح الله على المسلمين، ووجه إليه توفيل ملك الروم بالأسقف صاحبه، وكتب إليه كتابا بدأ فيه باسمه، فقال المأمون: لا أقرأ له كتابا يبدأ فيه باسمه ورده وكتب إليه توفيل بن ميخائيل: لعبد الله غاية الناس في الشرف، ملك العرب، من توفيل بن ميخائيل ملك الروم من قبل... وسأل أن يقبل منه مائة ألف دينار والأسرى الذين عنده، وهم سبعة آلاف أسير، وأن يدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم، ويكف عنهم الحرب خمس سنين، فلم يجبه إلى ذلك، وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة من ديار مضر. وتوفيت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور يوم الإثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة 216، وفي هذا اليوم ورد نعي عمرو بن مسعدة مات بإذنه وفي هذه السنة توفي طوق بن مالك الربعي في شهر رمضان.
واشتدت شوكة من كان يحارب الأفشين بمصر من أهل الحوف والبيما والبشرود، وهي من كور أسفل الأرض، فخرج المأمون إلى كور مصر، وقدم الأفشين في محاربة أهل الحوف، فزحف إليهم بنفسه، فقتلهم وسبى البيما، وهم قبط البشرود، واستفتى في ذلك فقيها بمصر يقال له الحارث بن مسكين مالكي، فقال: إن كانوا خرجوا لظلم نالهم، فلا تحل دماؤهم وأموالهم، فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، هؤلاء كفار لهم ذمة، إذا ظلموا تظلموا إلى الإمام، وليس لهم أن يستنصروا با... ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم. وأخرج المأمون رؤساءهم، فحملهم إلى بغداد.
ووشي محمد بن أبي العباس الطوسي، وأحمد بن أبي داود يحيى بن أكثم إلى المأمون تقربا إلى أبي إسحاق، فسخط عليه المأمون، وأمر بنفيه من عسكره، ونزع السواد عنه، وأخرجه إلى بغداد، وأمره أن لا يخرج من منزله، فأخرج من مصر، وأرسل موكلين به، وسخط أيضاً على عيسى بن منصور القائد الرافقي، وأخرجه من عسكره، وكان السخط عليهما في يوم واحد.
وكان مقام المأمون بمصر سبعة وأربعين يوماً، قدم لعشر خلون من المحرم، وخرج لثلاث بقين من صفر سنة 217، وقدم دمشق منصرفاً من مصر، فأقام أياماً، ثم شخص إلى الثغر، فنزل أذنة معسكرا بها، وقد كان أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي، وعبد الرحمن بن حبيب، وغيرهما من أصحاب محمد بن حميد الطوسي، الذين كانوا باذربيجان، صاروا إلى باب المأمون، فرقوا على علي بن هشام، ونسبوه إلى الخلاف والمعصية، وكتب العباس بن سعيد الجوهري صاحب بريد علي بن هشام بمثل ذلك، فوجه المأمون بعجيف بن عنبسة، وكان من أجل قواده وأحمد بن هشام، وأشخص عجيف علياً إلى أذنة، فأمر المأمون بضرب عنقه وعنق أخيه الحسين بن هشام، وكان المتولي لذلك منهما بيده ابن أختهما أحمد بن الخليل بن هشام، ونصب رأس علي بن هشام على قناة أياماً، ثم وجه به إلى برقة، فجعل في المنجنيق، ثم رمى به في البحر.
وغزا المأمون بلاد الروم في هذه السنة، وهي سنة 217، وصار إلى حصن من حصون الروم يقال له لؤلؤة، فأقام عليه حينا لم يفتحه، فبنى عليه حصنين أنزل فيهما أبا إسحاق والرجال، ثم قفل متوجها إلى قرية يقال لها سلغوس، وخلف على حصنه أحمد بن بسطام، وخلف أبو إسحاق على حصنه محمد بن الفرج بن أبي الليث بن الفضل، وصير عندهم زاد سنة، وخلف المأمون على جميع الناس عجيف بن عنبسة، فمكرت الروم أصحاب لؤلؤة بعجيف، فأسروه، فمكث في أيديهم شهراً، وكاتبوا ملكهم، فسار نحوهم، فهزمه الله بغير قتال، وظفر من كان في الحصنين من المسلمين بعسكره، فحووا كل ما كان فيه. فلما رأى ذلك أهل لؤلؤة، وأضر بهم الحصار، طلب رئيسهم الحيلة، فقال لعجيف: أخلي سبيلك على أن تطلب لي الأمان من المأمون، فضمن له ذلك، فقال: أريد رهينة. فقال: أنا أحضرك ابني، فوجه إلى خليفته أن يوجه إليه بفراشين نصرانيين، ويخوسان ويجملان، فوجه معهما بجماعة من غلمان نصارى في زي المسلمين ففعل ذلك، فدفعهم عجيف إليهم، وخرج، فلما صار إلى المعسكر كتب إليهم: أن الذين في أيديكم نصارى، وأنتم مخيرون فيهم، فكتب إليه رئيسهم: أن الوفاء حسن وهو من دينكم أحسن. فأخذ لهم عجيف الأمان وفتحها وأسكنها المسلمين.
وصار المأمون إلى دمشق سنة 218، وامتحن الناس في العدل والتوحيد، وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها، فامتحنهم في خلق القرآن، وأكفر من امتنع أن يقول القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته فقال كل بذلك، إلا نفراً يسيراً.
وكتب المأمون على عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكان أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء، وكبر بعد كل صلاة، فبقي ذلك سنة، وحول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة، وقال: هذه سنة أحدثها معاوية.
وكان بشر بن الوليد الكندي، قاضي المأمون ببغداد، قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر، وأطافه على جمل، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء، فقال: إني قد نظرت في قضيتك، يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثم أقبل على الفقهاء، فقال: أ فيكم من وقف على هذا؟ قالوا: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بشر بم أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم أبي بكر وعمر. قال: حضرك خصومه قال: لا قال فوكلوك؟ قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم؟ قال: لا! قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته، فيبطل الحد؟ قال: لا! قال: فأمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل كافرتان. قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة؟ قال: لا! قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق، أفيشهد عندك شاهداً عدل؟ قال: قد زكي أحدهما. قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين؟ قال: لا! قال: ثم أقمت الحد في رمضان، فالحدود تقام في شهر رمضان؟ قال: لا! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود يقام؟ قال: لا! ثم شبحته بين العقابين، فالمحدود يشبح؟ قال: لا! قال: ثم جلدته عرياناً، فالمحدود يعرى؟ قال: لا! قال: ثم حملته على جمل، فأطفته، فالمحدود يطاف به قال لا قال ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد، فالمحدود يحبس بعد الحد؟ قال: لا! قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك، خذوا عنه ثيابه، وأحضروا المحدود ليأخذ حقه منه. فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملا بحقوقه، عارفا بأحكامه، تقول الحق، وتعمل به، وتأمر بالعدل، وتؤدب من رغب عنه، إن هذا، يا أمير المؤمنين، حاكم أجد برأيه فأخطأ، فلا تفضح به الحكام، وتهتك به القضاء. فأمر به، فحبس في داره حتى مات.
ورفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك كان وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهوداً، فأحضرت علياً والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن... رووا أن فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وإن أبا بكر لم يجز شهادتهم. فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: إن علياً والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما أجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة، وكتب بذلك وسلمت إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وغزا المأمون بلاد الروم سنة 218، وقد استعد لحصار عمورية، وقال: أوجه إلى العرب، فأتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها، حتى أضرب إلى القسطنطينية، فأتاه رسول ملك الروم يدعوه إلى الصلح والمهادنة ودفع الأسرى الذين قبله، فلم يقبل، فلما قرب من لؤلؤة أقبل، فأقام أياماً وتوفي بموضع يقال له البدندون، بين لؤلؤة وطرسوس، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218، وسنة ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم، وكانت خلافته منذ يوم سلم عليه بالخلافة في حياة المخلوع إلى أن مات اثنتين وعشرين سنة، ومنذ قتل المخلوع عشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين، ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطة العباس بن المسيب ابن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين، ثم عبد الله بن طاهر، فاستخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه طاهر بن إبراهيم خليفة له على شرطه، وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين، ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلازي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام، ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد ابن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى.
وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا، وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر، وهو ابن معللة، وتوفي في حياته، ومحمد الأصغر، وعبيد الله، أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أيام المعتصم باللهوولي أبو إسحاق محمد بن الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها ماردة، وبايع له القواد والجند الذين كانوا مع المأمون، وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218.
وكانت الشمس يومئذ في الأسد ثلاث عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في الميزان خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في القوس درجة وعشر دقائق، والمريخ في القوس أربع درجات وخمساً وثلاثين دقيقة، وعطارد في الأسد ستاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعاً، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وعشرين دقيقة راجعاً، والرأس في الحمل عشر دقائق.
وامتنع بعض القواد من البيعة لمكان العباس من المأمون، فخرج إليهم العباس من مضربه، فكلمهم بكلام استحمقوه فيه، فشتموه، وبايعوا لأبي إسحاق، وانصرف المعتصم من الثغر يريد العراق، فلما صار بالرقة ولي غسان بن عباد الجزيرة وقنسرين والعواصم، ونفذ إلى بغداد، فقدمها يوم السبت مستهل شهر رمضان، وعلى جنده الديباج المذهب، وأقر عمال المأمون على أعمالهم ثلاثة أشهر، ثم استبدل بهم.
وخرجت المحمرة بالجبل، فقتلوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، وعرضوا لحاج خراسان، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، فوجه المعتصم هاشم بن باتيجور فكانت بينه وبينهم وقعة فهزموا هاشما، فوجه المعتصم إسحاق بن إبراهيم في جيش، واستخلف إسحاق على الشرط أخاه طاهراً، ونفذ فواقعهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأقام حتى أصلح البلد بعد أن نالته منهم شدة. وتحرك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بالطالقان، واتبعه جماعة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فلما لحقه هرب محمد بن القاسم من الطالقان إلى نيسابور، وذكر أن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأخذه عبد الله بن طاهر، فحمله إلى المعتصم، فحبسه في قصره فهرب منه ليلة الفطر سنة 219، فطلبوه، فلم يقدروا عليه.
ووثب الزط بالبطائح بين البصرة وواسط، فقطعوا الطريق، فوجه إليهم المعتصم أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فهزموه، فعقد المعتصم لعجيف في جمادى الأولى سنة 219، فطلبوا الأمان وخرجوا إليه على حكم المعتصم، فأدخلهم بغداد، فأجاز المعتصم لهم الأمان، وأسكنهم خانقين.
وسخط المعتصم على الفضل بن مروان وزيره، وبطش بجماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم، ووجه الفضل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمر بطلب أموالهم، فركب به إلى داره، وأخرج منها مالا عظيما، ثم نفى، فقال فيه راشد بن إسحاق:
يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني، يا أمير المؤمنين مناظرته فقال شأنك به فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال قال بل علمته من الرجال. قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟ قال: علمته شيئاً بعد شيء. قال فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال: بقي علي. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين. قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله. وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة 220، فاختط موضع المدينة التي بناها، وأقطع الناس المقاطع، وجد في البناء حتى بنى الناس القصور والدور، وقامت الأسواق، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة، وهناك دير للنصارى، فاشترى من أهل الدير الأرض، واختط فيه، وصار إلى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة، فبنى هناك عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وكان ابتداء ذلك في سنة 221، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.
واشتدت شوكة بابك، وكان محمد بن البعيث قد شايعه، وعصمة الكردي صاحب مرند في طاعته، فوجه المعتصم طاهر بن إبراهيم أخا إسحاق بن إبراهيم، عامل البلد، وأمره بمحاربة القوم، فلما قدم البلد كتب ابن البعيث إلى المعتصم يعلمه أنه في الطاعة، وأنه في التدبير على بابك وأصحابه، ثم مكر بعصمة الكردي صاحب مرند، فتزوج ابنته، وصار إليه إلى مرند، ثم دعاه إلى منزله فحمل عليه وعلى من معه في الشرب، فلما سكروا حملهم في الليل إلى قلعته التي يقال لها شاهي، ثم أنفذهم إلى المعتصم، فأجازه المعتصم، وحباه، وأعطاه، وذلك لأنه أخبر طاهر بن إبراهيم بما كان منه، وسأله أن يبعث إليه الحديد والبغال يحملهم إليه، ففعل ذلك طاهر، فحملهم إلى المعتصم، وكتب إليه بخبرهم، فغلظ المعتصم على إسحاق، وقال: ما أرى عند أخيك شيئاً ولا أرى الرجلة إلا عند ابن البعيث.
ووجه الأفشين حيدر بن كاوس الأسروشني، وعقد له على جميع ما اجتاز به من الأعمال، وحملت معه الأموال وخزائن السلاح، فلما صار الأفشين إلى الجبل أخذ من كان به من الصعاليك والوجوه، فنفذ، فكانت بينه وبين بابك وقائع، وكان عسكره بموضع يقال له برزند، فصار بموضع يقال له سادراسب فأقام في محاربته حولا حتى كثرت الثلوج، ثم رجع إلى برزند، ثم وجه بخليفته إلى سادراست، وزحف وصير في كل ناحية... وصار يد روذالروذ، فخندق خندقاً، وبنى سوراً، وكمن الكمناء، وزحف إلى البذ يوم الخميس لتسع خلون من شهر رمضان سنة 222، فأرسل إليه بابك يسأله أن يكلمه، فوافقه، وبينهما نهر، فعرض عليه الأفشين الأمان، فسأله أن يؤخره يومه ذلك، فقال له: إنما تريد أن تحصن مدينتك، فإن أردت الأمان، فاقطع الوادي. فانصرف واشتدت الحرب، ودخل المسلمون مدينة البذ، وهرب بابك وستة من أصحابه، وأخرج من كان بالبذ من أسارى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة.
ومضى بابك على بغلة، وقد لبس ثياب الصوف، وكتب الأفشين إلى البطارقة بأرمينية وآذربيجان في طلبه، وضمن لمن جاء به ألف ألف درهم والصفح عن بلادهم، فصار بابك إلى رجل من البطارقة يقال له سهل بن سنباط، فأخذه، وكتب إلى الأفشين بخبره، فأنفذ، فأخذه، وكتب بالفتح وبما كان من تدبيره، فقريء الفتح، وكتب به إلى الآفاق في... حتى أصلح البلاد، وسار واستخلف منكجور الفرغاني خال ولده.
وقدم على المعتصم، وهو بسر من رأى، فتلقاه القواد والناس على مراحل، ودخلها لليلتين خلتا من صفر سنة 223، وبابك بين يديه على الفيل، حتى دخل إلى المعتصم، فأمر بقطع يدي بابك، ورجليه، ثم قتله وصلبه بسر من رأى، ووجه بأخيه عبد الله إلى بغداد، فقتله إسحاق بن إبراهيم، وصلبه على رأس الجسر في الجانب الشرقي من بغداد.
وكان الأفشين لما قدم آذربيجان ولي أرمينية محمد بن سليمان الأزدي السمرقندي، فقدمها، وقد خالف سهل بن سنباط بالران، وتغلب عليها، فدخل بلاده، فبايته سهل، فهزمه ووثب محمد بن عبيد الله الورثاني بورثان، فوجه إليه الأفشين منكجور ليحاربه، وتكلم في أمره علي بن يحيى الأرمني، فأمنه المعتصم، فقدم به علي بن يحيى، ثم ولى الأفشين أرمينية محمد بن خالد بخاراخذاه، فلما قدم حارب الصنارية، وصار إلى تفليس، فبره إسحاق بن إسماعيل، ووصله، ثم ولى أرمينية علي بن الحسين بن سباع القيسي، فاستضعفه أهل البلد، حتى كان يسمى اليتيم لضعفه ومهانته، فولى المعتصم خالد بن يزيد أرمينية وناحية من ديار ربيعة، فلما بلغ خبره أرمينية تحصن كل رئيس فيها، واشتد خوفهم منه، وعملوا على العصيان، فكتب منصور بن عيسى السبيعي، صاحب بريد أرمينية، إلى المعتصم بذلك، فرد خالداً، وأمر بإقرار علي بن الحسين، فلم يلبث إلا أياماً حتى شغب الجند عليه ببرذعة، وطلبوا أرزاقهم فقال: ليس لي شيء، والأموال عند أهل البلد، وطالب أهل البلد، فامتنعوا عليه، وتحصنوا في حصونهم ثم تراسلوا، واجتمعوا، فحاصروه ببرذعة، فوجه المعتصم حمدويه بن علي بن الفضل إلى البلد، فصار إلى النشوي، فخرج إليه يزيد بن حصن في الأمان... فكان لا يهيجهم خوفاً من أن يعلوا عليه. ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها، وأخرجوهم، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً، حتى جلس على الأرض، وندب الناس للخروج، ووضع الإعطاء، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة، وقدم أشناس التركي على مقدمته، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223، ودخل أرض الروم، فقصد أرض عمورية، وكانت من أعظم مدائنهم، وأكثرها عدة ورجالاً، فحاصرها حصاراً شديداً.
وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم فلما دنا وجه المعتصم بالأفشين في جيش عظيم، فلقي الطاغية، وأوقع به وهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، فأوفد طاغية الروم من قبله وفدا إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدوا أمري، وأنا أبنيها بمالي ورجالي، وأرد من أخذ من أهلها، وأخلي جملة من في بلد الروم من الأسارى، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة.
وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223، فقتل وسبى جميع من فيها وأخذ ياطس خال ملك الروم، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم، وانصرف، فلما صار بإذنه حبس العباس ابن المأمون لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار، فأمر أن تفرق على الجند، ويؤمروا أن يلعنوه، فأحصوا، فوجدوا ثمانين ألف مرتزق، فدفع إليهم دينارين دينارين، وتمم ذلك المعتصم من عنده، ودفع العباس إلى الأفشين مقيدا ليسيره، فلما صار بحند رأس توفي، وقيل إن الأفشين أطعمه طعاما كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء، فحمل إلى منبج، فدفن بها، وسخط المعتصم على عجيف بن عنبسة لأنه كان سبب معصيته، وحمله من أذنة في الحديد الثقيل، في فيه لبود قد خيطت عليه، وفي عنقه غل عظيم، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا، على مرحلة من نصيبين، مات، ودفن بها، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه، وأن يدعي صالحا المعتصمي، ولعنه، وبرئ منه.
وكان المازيار، وهو محمد بن قارن بن بنداد هرمز أصبهبذ طبرستان قد قدم على المأمون، بعد وفاة أبيه وتصيير مملكة طبرستان إلى عمه، فملكه المأمون على مدينتين من مدن طبرستان، وكتب إلى عمه في تسليمهما إليه، وخرج متوجها، فلما بلغ عمه ذلك أغاظه وبلغ منه، فخرج كأنه يتلقاه، وكان مع المازيار مولى لأبيه له دراية، فقال إن عمك لم يخرج في هذه الهيئة إلا ليفتك بك، فإذا قربت منه، وانفردت عن أصحابك، فإني أدفع إليك الحربة، فضعها في صدره، ففعل ذلك، فقتل عمه، واجتمعت عليه المملكة، وضبط البلد، وكتب إلى المأمون بأن عمه كان مخالفاً لملكه على البلد.
فلما عظم أمره كتب من جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار خرشاد محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين، ثم ذهب بنفسه أن يقول: موالي أمير المؤمنين، ثم تفاقم أمره حتى أظهر المعصية، وخلع، ويقال إن الأفشين كاتبه، وحمله على الخلع، فوجه المعتصم محمد بن إبراهيم لمحاربته في جيش، فنفذ وكتب إلى عبد الله بن طاهر أن يمده بالجيوش، فحاربه، وألح عليه عبد الله بالبعثة إليه بالجيوش، فحاربه، فقطعوا الأودية والحزونة، وخرج ليلاً، فوضع يده في يد قرابة لعبد الله، وقدم به سنة 226، فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك.
فحدثني محمد بن عيسى قال: قدم بالمازيار، وقد حبس الأفشين في ذلك الوقت، فجمع ابن داود بينه وبين المازيار، وقال له: هذا الأفشين الذي زعمت أنه حملك على المعصية. فقال له الأفشين: والله إن الكذب بالسوقة لقبيح، فكيف بالملوك؟ والله ما ينجيك كذبك من القتل، فلا تجعل الكذب خاتمة أمرك. فقال المازيار: والله ما كتب إلي، ولا راسلني، إلا أن أبا الحارث وكيلي أخبرني أنه لما قدم عليه بره وأكرمه، فرد الأفشين إلى الحبس، فضرب المازيار حتى قتل.
وكان أول سبب حبس الأفشين أن منكجور الفرغاني خال ولد الأفشين وخليفته باذربيجان، خلع هناك، وجمع إليه أصحاب بابك، وسار إلى ورثان، فقتل محمد بن عبيد الله الورثاني وجماعة من أولياء السلطان، فقال المعتصم للأفشين: أحضر منكجور! فوجه إليه الأفشين بأبي الساج، المعروف بديوداد، في جيش عظيم، ثم بلغ المعتصم أن منكجور إنما خلع بأمر الأفشين، وأنه إنما وجه إليه بأبي الساج مدداً له، فوجه محمد بن حماد على البريد، ووجه ببغا التركي، فحارب منكجور، فلما صدقه القتال ضرع منكجور إلى طلب الأمان، فأعطاه الأمان، وقدم به إلى سر من رأى، وقد حبس الأفشين، وكان حبسه في سنة 226، ثم توفي في الحبس، وصلب على باب العامة بسر من رأى عرياناً، ساعة من نهار، ثم أنزل فأحرق بالنار.
وكان الغالب على المعتصم أحمد بن أبي دواد الأيادي قاضي القضاة، والفضل ابن مروان الكاتب، ثم غضب على الفضل، فنفاه واستصفى ماله، فغلب عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه عجيف بن عنبسة، ثم الأفشين، ثم إسحاق بن يحيى بن معاذ وحجبه جماعة من الأتراك منهم: وصيف، وسيما الدمشقي، وسيما الشرابي، ومحمد بن حماد بن دنفيس، وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن في قصره المعروف بالجوسق، وكانت سنة 49 سنة وكانت ولايته ثماني سنين، وخلف من الولد الذكور ستة: هارون الواثق، وجعفر المتوكل، ومحمداً، وأحمد، وعلياً، والعباس.
أيام هارون الواثق باللهوولى هارون الواثق بالله بن أبي إسحاق، وأمه أم ولد، يقال لها قراطيس، يوم توفي المعتصم، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227، وكان ذلك من شهور العجم في كانون الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجدي خمس عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة.
وتوجه إسحاق بن إبراهيم ساعة بايع إلى بغداد، فسار ليلته أجمع، ووافى بغداد قبل أن يطلع الفجر، فوكل بالأطراف والسجون، وأحضر القواد والوجوه، فأخذ عليهم البيعة، ووثب عوام الجند والغوغاء بشعيب بن سهل قاضي الجانب الشرقي ببغداد، فانتهبوا داره، فوجه إسحاق جعفر معيشة، وإبراهيم الديرج، وجماعة معهما، فأخرجوا شعيب بن سهل، حتى صاروا به إلى دار إسحاق.
وأراد الواثق الحج في هذه السنة، وصحت عزيمته، فتأخر حجه، وأذن لأمه، فخرجت، ومعها جعفر بن المعتصم، فلما صارت بالكوفة توفيت، وأذن الواثق لأخيه جعفر في النفوذ، فنفذ وأقام الحج بالناس وكان أول من عقد له الواثق من قواده أشناس التركي ولاه من بابه إلى آخر عمل المغرب، فوجه عماله، وكتب إلى محمد بن إبراهيم الأغلب بولاية المغرب من قبله، وكان المدبر له أحمد بن الخصيب.
وولى الواثق خراسان إيتاخ التركي، والسند وكور دجلة، وكانت السند قد اضطربت، وقتل عمران بن موسى بن يحيى بن خالد عامل السند، فوجه إيتاخ إلى السند عنبسة بن إسحاق الضبي، فقدم البلد، وقد تغلب عليه عدة ملوك، فلما قدمها عنبسة سمعوا وأطاعوا وخرجوا إليه جميعاً خلا عثمان... فسار إليه عنبسة... فأقام على البلد تسع سنين.
ووثب ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، ووثب بفلسطين رجل يقال له تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب، ويلقب بالمبرقع، في لخم وجذام وعاملة وبلقين، وصار إلى كورة الأردن، وخلع قوم من البربر ببرقة، ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص، ووثبوا بعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة، فوجه الواثق رجاء بن أيوب الحضاري، فبدأ بدمشق، فأوقع بابن بيهس، فأسره، وسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره وحمله إلى سر من رأى، فوقف بباب العامة، ونودي عليه، وصار رجاء إلى مصر سنة 228، فنزل الجيزة، ثم توجه إلى برقة، فهرب من كان فيها، وظفر بجماعة منهم، فحملهم، ثم انصرف.
وتوفي عبد الله بن طاهر بخراسان سنة 230، وهو ابن سبع وأربعين سنة، ومنزله منها نيسابور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة، وولى الواثق طاهر بن عبد الله، وكان عبد الله بن طاهر قد ضبط خراسان ضبطا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة. وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز، وقطعوا الطريق، حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، فوجه الواثق بغا الكبير سنة 230، وأمره أن يقتل كل من وجده من الأعراب، فشخص قبل أوان الحج، فاجتمعت قيس من كل ناحية، وأكثرهم بنو سليم ورئيسهم عزيزة، فلقيهم، فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم عالماً حبسهم في دار يزيد بن معاوية بالمدينة، فنقبوا وخرجوا على أهل المدينة، فوثب عليهم أهل المدينة، فقتلوا عامتهم، وحمل بغا الباقين في الأغلال، ووافى إسحاق بن إبراهيم الموسم في تلك السنة.
وسخط الواثق على إبراهيم بن رباح، وكان إبراهيم مقدماً عنده بمكانه منه، أيام إمرته، فولاه ديوان الضياع، فتشاغل باللهو، وفوض أمره إلى نجاح بن سلمة كاتبه، وإلى يمان بن... النصراني، وتجافيا للناس عن أموال كثيرة، فكثروا عليه عند الواثق، فأمر بقبض ضياعه وأمواله، وصير ما كان إليه إلى عمر بن فرج الرخجي.
وكان أحمد بن الخصيب كاتب أشناس التركي، وهو يلي أعمال الجزيرة، والشامات، ومصر، والمغرب، والمدبر لذلك أحمد، فرفع إلى الواثق أنه قد حاز أموالا عظيمة، فسخط عليه، وقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم، وعذبا، وعذبت أمهما.
وتوفي أشناس في هذه السنة، فصيرت مرتبته وأكثر أعماله إلى إيتاخ التركي، وتركت ضياعه وأمواله بحالها لولده، ورد القيام بها إلى عبد الله بن صاعد، فلم يزل يقوم بها إلى أن توفي. وانتقضت أرمينية، وتحرك بها قوم من العرب والبطارقة والمتغلبين، وتغلب ملوك الجبال والباب والأبواب على ما يليهم، وضعف أمر السلطان، فولى الواثق خالد بن يزيد بن مزيد، وأمره بالنفوذ، وضم إليه كورا من كور ديار ربيعة، فسار في جيش عظيم، فلما بلغ المتغلبين بتلك البلاد خبره هابوه، وكتب أكثرهم يذكر أنه لم يزل في الطاعة، ووجهوا بالهدايا، فقال: لا أقبل إلا هدية من جاءني، فزاد ذلك في وحشتهم، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل يأمره أن يقدم عليه، فلم يفعل، فزحف إليه، فكاد أن يعطي إسحاق بيده.
واعتل خالد، فأقام أياماً، ثم مات، فحمل في تابوت إلى دبيل، فدفن فيها، وتفرق أصحابه، فعاد البلد إلى أقبح أحواله، فولى الواثق محمد بن خالد مكان أبيه، فكتب محمد يذكر انصراف أصحاب أبيه وسأل ردهم إليه، فوجه أحمد بن بسطام إلى نصيبين، فضرب، وحبس، وحرق الدور، فاجتمع إلى محمد أصحاب أبيه ومواليه، فحارب الصنارية وإسحاق، حتى أخرجه، وهزمهم، ولم يزل ضابطا للبلد.
وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً.
وكتب طاغية الروم يذكر كثرة من بيده من أسارى المسلمين ويدعو إلى الفداء فأجابه الواثق إلى ذلك، ووجه بخاقان الخادم... المعروف بأبي رملة والآخر جعفر بن أحمد الحذاء، وكان صاحب الجيش، وولى الثغر أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، فصاروا إلى موضع يقال له نهر اللامس على مرحلتين من طرسوس، وحضر ذلك الفداء سبعون ألف رامح سوى من ليس معه رمح، وكان أبو رملة وجعفر الحذاء واقفين على قنطرة النهر، فكلما مر رجل من الأسرى امتحنوه في القرآن، فمن قال إنه مخلوق فودي به، ودفع إليه ديناران وثوبان، فبلغ عدة من فودي به خمسمائة رجل وسبعمائة امرأة، وكان هذا في المحرم سنة 231.
وصار أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي إلى ابن أبي دؤاد في بعض أموره، فرده، فانصرف ذاما له، فجعل يبسط عليه لسانه ويشهد عليه بالكفر، فمال إليه قوم منهم، وهم لا يشكون أن ذلك غضب للدين، فاشرأبت قلوبهم للمعصية لسبب القرآن، وخرج قوم، فضربوا بطبل، وصاروا إلى ناحية صحراء أبي السري، فأخذوا، وأقروا عليه، فكتب الواثق إلى إسحاق في إشخاصه، فأشخصه إليه، فكلمه بكلام غليظ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات، وامتحنه في القرآن، فأبى أن يقول إنه مخلوق، وشتمه الواثق، فرد عليه، فضرب عنقه وصلبه بسر من رأى، ووجه برأسه، فنصب ببغداد في الجانب الشرقي.
وخرج محمد بن عمرو الشيباني الخارجي بديار ربيعة وأبو سعيد محمد ابن يوسف بها فخرج إليه مع الجند ومحمد بن عمرو في ثلاثمائة، أو أربعمائة من الخوارج فصار إلى سنجار، ثم انهزم إلى ناحية الموصل، فتبعه أبو سعيد، فأسره وأدخله نصيبين على بقرة، وحمله... إلى الواثق، فكتب إليه: ما ينبغي أن يقتل، فإنه لن يخرج خارجي ما دام حياً، فلم يزل محبوساً أيام الواثق.
وفرق الواثق أموالا جمة بمكة والمدينة وسائر البلدان على الهاشميين وسائر قريش والناس كافة، وقسم في أهل بغداد قسماً كثيرة مرة بعد أخرى على أهل البيوتات وعلى عامة الناس، وكثر الحريق ببغداد، وفرق على قوم من التجار أموالا جمة، وبنى لقوم وأسقط ما كان يؤخذ ممن يرد في بحر الصين من العشر.
وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك، وعمر بن فرج الرخجي، وكان على شرطة إسحاق بن إبراهيم، وعلى حرسه إسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ.
واعتل الواثق، واشتدت علته حتى حفر له في الأرض حفير كالتنور ثم سخن بحطب الطرفاء، وصير فيه مراراً، وكان يقول في علته: لوددت أني أقلت العثرة، وأني حمال أحمل على رأسي. وقيل له في البيعة لابنه، فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً.
وكان قد انتقل من قصور المعتصم، وبنى له قصرا على شط دجلة يقال له الهاروني، وجعل له دكتين: دكة غربية ودكة شرقية، وكان من أحسن القصور، وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وسنة يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الولد الذكور ستة: محمداً، وعلياً، وعبد الله، وإبراهيم، وأحمد، ومحمداً الأصغر.
أيام جعفر المتوكلوبويع جعفر بن المعتصم، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وكان أول من بايعه سيما التركي، المعروف بالدمشقي، ووصيف التركي، وركب إلى دار العامة من ساعته وأمر بإعطاء الجند لثمانية أشهر، وسلم عليه أولاد سبعة خلفاء مجتمعين: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأحمد بن الرشيد وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون وإخوته، وأبو أحمد بن المعتصم وإخوته، ومحمد بن الواثق، وأقر الأمور على ما كانت عليه أربعين صباحاً، ثم سخط على محمد بن عبد الملك واصطفى أمواله وعذبه حتى مات، وكان يعتد عليه بأمور كثيرة.
وكان محمد رجلاً شديد القسوة، قليل الرحمة، جباها للناس، كثير الاستخفاف بهم، لا يعرف له إحسان إلى أحد، ولا معروف عنده، وكان يقول: الحياء خنث، والرحمة ضعف، والسخاء حمق فلما نكب لم ير إلا شامت به وفرح بنكبته.
وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى ابن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى. ونهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن، وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاهم جميعاً، وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهى عن المناظرة والجدال فأمسك الناس.
وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك، فوجه كتابا في حمله، وقبضت أموالهما، وكان ذلك في سنة 233، وكان عمر محبوساً ببغداد ومحمد محبوساً بسر من رأى فأقاما سنتين.
واعتل أحمد بن أبي دؤاد من فالج، فولى المتوكل ابنه محمداً، المعروف بأبي الوليد، مكانه، وفي ذلك الوقت... قال أبو العيناء: قد حبس لأنه بطل لسانه، فكان لا يتكلم.
وسخط المتوكل على الفضل بن مروان، وقبض ضياعه وأمواله، ونفاه، ثم رضي عنه فرده. وسخط على أحمد بن خالد، المعروف بأبي الوزير، فاستصفى أمواله في سنة 234، ثم رضي عنه.
ولما سخط المتوكل على الكتاب قال لإسحاق بن إبراهيم: انظر لي رجلين أحدهما لديوان الخراج والآخر لديوان الضياع، فقال: هما عندي يحيى بن خاقان، وموسى بن عبد الملك بن هشام، وكان يحيى محبوساً قبل إسحاق بأموال كان يطلب بها من ولايته فارس، وموسى محبوس أيضاً، فأحضرهما فولى يحيى بن خاقان ديوان الخراج، وموسى ديوان الضياع وأمر المتوكل أن يسلم على ابنه محمد بالإمرة، ويدعى له على المنابر، فكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في ذي القعدة سنة 234.
واستأذن إيتاخ التركي في الحج في هذه السنة، فأذن له، فخرج في أحسن زي، واتصل بالمتوكل إنه كان على إيقاع الحيلة به، فلما لم يمكنه ذلك طلب الحج، فكتب إلى جعفر بن دينار، المعروف بالخياط، وكان عامل اليمن، بالمصير إلى مكة، وأن يأخذ إيتاخ بتعجيل الانصراف، فلما صار إلى مكة وافاه جعفر، فانصرف إلى العراق، ووجه إليه سعيد بن صالح الحاجب، فلقيه بالكوفة، فلما قرب من بغداد تلقاه إسحاق فأمره بنزع السواد والسيف والمنطقة وأدخله بغداد في قباء أبيض وعمامة بيضاء، حتى صار به إلى قصر خزيمة الذي على رأس الجسر، فحبسه وقيده، وقبضت ضياعه وأمواله، وبعث بسليمان بن وهب، وقدامة بن زياد كاتبيه، وبابنه منصور إلى بغداد، حتى جمع بينه وبينهم فبكتوه ووبخوه بما كان منه، وأمر ابنه منصور أن يبصق في وجهه، فأبى، وقال لأمير المؤمنين عبيد يأمرهم بما أحب. فأقام عدة أيام ثم مات، فطرح في دجلة. وقبض ما كان لهرثمة بن النصر عامل مصر لما تأدى إلى المتوكل من مكاتبته إيتاخ، ومطابقته إياه، وصير ما كان إلى إيتاخ من أعمال مصر إلى أبي إسحاق، ولما بلغ عنبسة بن إسحاق عامل إيتاخ على السند الخبر سار إلى العراق، فولى المتوكل مكانه هارون بن أبي خالد، ولم يعرض لعنبسة.
وتوفي الحسن بن سهل في هذه السنة، وكان قد لزم منزله قبل ذلك، فلم يكن يتصرف في شيء من أمور السلطان.
وكان محمد بن البعيث متغلباً على ناحية من آذربيجان يقال لها مرند فنافره حمدويه بن علي عامل آذربيجان، ثم... فحمله إلى باب السلطان، فلما قدم رفع على حمدويه بن علي، فضرب حمدويه وأخذ بأموال رفعت عليه، وخلى سبيل ابن البعيث، فأقام شهورا، وهرب من سر من رأى إلى مرند، وجمع إليه من كان بناحيته من الصعاليك، وأظهر المعصية والخلاف، فأخرج حمدويه بن علي من الحبس، وولى البلد، فسار إليه، فحاربه فقتله. وقوي أمر ابن البعيث، فوجه إليه زيرك التركي فحاربه، ثم وجه إليه عتاب بن عتاب، وكان البلد إلى بغا الصغير فأقام يحاربه شهوراً، ثم أعطاه الأمان، فلما صار إليه حمله إلى باب السلطان، فحبس في يد إسحاق، وذلك سنة 235، فأقام في الحبس قليلاً ومات، وحمل يحيى بن رواد أيضاً، فصير له اسم وقيادة.
وفي هذه السنة أمر المتوكل بلبس أهل الذمة الطيالسة العسلية وركوبهم البغال والحمير بركب الخشب والسروج التي فيها الأكر، وأن لا يركبوا الخيل والبراذين ويصيروا على أبوابهم خشباً فيها صورة الشياطين.
وبايع المتوكل بولاية العهد من بعده لابنه محمد ثم لابنيه أبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، وأحضر وجوه الناس من كل بلد إلى سر من رأى، فأعطاهم على البيعة الجوائز، وأعطى الجند لعشرة أشهر، ووجه الخطباء ليخطبوا بذلك.
وحج محمد المنتصر في هذه السنة، ومعه أم المتوكل، ووقف بالناس في الموسم، فكان محمود الأخلاق في طريقه... إلى كل واحد من ولاة العهد ناحية من الأرض، فصير إلى المنتصر مصر والمغرب، وكاتبه أحمد بن الخصيب، وصير إلى أبي عبد الله المعتز بالله خراسان والجبل، وكاتبه أحمد بن إسرائيل، وصير إلى إبراهيم المؤيد الشامات وأرمينية وآذربيجان وكاتبه محمد بن علي المعروف، وأمر المتوكل في هذا الوقت ألا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان، وأن تهدم الكنائس والبيع المحدثة، ومنعوا من العمارة، وكتب بذلك في الآفاق. وتوفي إسحاق بن إبراهيم، فصير إلى ابنه محمد ما كان إليه من أعمال خراج طساسيج السواد وأعمال مصر وكور دجلة وغير ذلك وزيادة أعمال... وفارس، وخلع عليه سبعة أيام في كل يوم سبع خلع، وعقد له ألوية كثيرة، وكان عنده بأفضل منزلة وأقر محمد عمال أبيه، وكان كاتبه على الخراج علي بن عيسى بن أزداد ترود، وعلى الرسائل ميمون بن إبراهيم، وعلى المظالم إسحاق ابن يزيد قرابة هارون بن جيغويه ووجه إلى فارس بالحسين بن إسماعيل مكان عمه محمد بن إبراهيم، وأمره أن يعذبه حتى يستخرج الأموال التي صارت إليه، فعذب حتى مات، وكان عبد الواحد بن يحيى، المعروف بحوط، قرابة الطاهر، على خراج مصر ومعاونها، فأقره محمد بن إسحاق على جنده.
وأقام محمد بعد أبيه سنة، ثم توفي، فصير مكانه عبد الله بن إسحاق على الشرط فقط، وأشخص كتاب محمد بن إسحاق الذين كانوا كتاب أبيه إلى باب المتوكل، فضرب عماله، وأشخص علي بن عيسى كاتب إسحاق بن إبراهيم على طساسيج السواد من سر من رأى، فولاه ديوان الخراج الأعظم، فأقام عليه شهرين، ثم صرفه وولى أحمد بن محمد بن مدبر مكانه، واستصفيت أموال الحسين وإسماعيل ابنيه، وأخذ أحمد بن محمد بن مدبر عماله على طساسيج السواد، فصالحهم على أموال عظيمة، وولى أحمد بن محمد بن مدبر سبعة دواوين ديوان الخراج، والضياع، والنفقات الخاصة، والعامة، والصدقات، والموالي، والغلمان، والجند، والشاكرية، فوفر أموالاً عظيمة.
وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصير إليه ما كان إلى إسحاق بن إبراهيم وصيرت أعمال مصر إلى عنبسة بن إسحاق الضبي من قبل المنتصر فلم يقم بمصر إلا شهوراً حتى أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركبا، فقتلوا خلقاً من المسلمين، وأحرقوا ألفاً وأربعمائة منزل، وكان رئيس القوم يقال له فطوتاريس وسبوا من المسلمات ألفاً وثمانمائة وعشرين امرأة، ومن نساء القبط ألف امرأة، ومن اليهود مائة امرأة، وأخذ السلاح الذي كان بدمياط والسقط، وتهارب الناس، فغرق في البحر نحو ألفين، وأقاموا يومين وليلتين، ثم انصرفوا.
وسخط المتوكل على محمد بن الفضل، كاتب ديوان التوقيع، لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ورفعه وأعلى مرتبته ومحله، وولاه، وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين، وكان ولاؤه في الأزد، وأمره أن يأمر كتاب الدواوين أن يؤرخوا الكتب باسمه، فاستعفاه من ذلك، غير أنه كان يولي عمال الخراج والضياع والبريد والمعاون والقضاة في جميع الدنيا، ولم يكن لأحد معه عمل، وكان مع ذلك محمودا عند الناس، وصير أباه على المظالم، ثم مات، فصير مكانه عمه عبد الرحمن.
وسخط المتوكل على محمد بن أحمد بن أبي دؤاد وعلى أبيه فولى يحيى ابن أكثم التميمي قضاء القضاة، وقبضت ضياع ابن أبي دؤاد وأمواله، وأحضر إلى بغداد، فلم يقم إلا قليلاً حتى مات... أكابر ولده، وأقام يحيى قليلاً، ثم ولى مكانه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي.
وخرج المتوكل إلى مدينة السلام سنة 238، فنزل الشماسية في المضارب، ثم دخل بغداد فشقها حتى خرج إلى المدائن للنزهة.
واضطرب أمر أرمينية، وتحرك بها جماعة من البطارقة وغيرهم، وتغلبوا على نواحيهم، فولى المتوكل أبا سعيد محمد بن يوسف، فخرج متوجها إلى البلد، ودعا بثيابه فلبسها، ودعا بفرد خفه فلبسه، وسقط ميتا من غير علة، فولى المتوكل ابنه يوسف، فخرج حتى صار إلى البلد، وكاتب البطارقة، فأجابه بعضهم، وخرج بقراط بن أشوط إليه على الأمان، فحمله إلى المتوكل و... فحاربه بنوان بن أليف فقتله، وفسد البلد فوجه المتوكل بغا الكبير، فلما صار بارزن أتاه موسى بن زرارة المتغلب علي بدليس في الأمان، فقيده وحمله إلى المتوكل ثم صار إلى موضع يقال له الباق، فيه أشوط بن حمزة فحاصره ثم آمنه، وحمله إلى سر من رأى، فضربت عنقه على باب العامة، وصلب.
وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل المتغلب بتفليس أن يقدم عليه، فكتب إليه أنه لم يخرج يداً من طاعة السلطان، فإن أراد الأموال أمده بها، وإن أراد الرجال أنفذهم إليه، وإن القدوم لا يمكنه، فزحف إليه فحاربه وظفر به، فضرب عنقه، وحمل رأسه إلى السلطان، وزحف إلى الصنارية، فحاربهم، فهزموه وفلوه، فانصرف عنهم منهزماً، وتتبع من كان أعطاه الأمان، فأخذهم، وهرب منهم جماعة، وكاتبوا صاحب الروم وصاحب الخزر وصاحب الصقالبة، واجتمعوا في خلق عظيم، وكتب بذلك إلى المتوكل فندب للبلد محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فلما قدم سكن المتحركون، وجدد لهم الأمان.
ووثب أهل حمص سنة 240، وأخرجوا عاملهم، وكان أبا المغيث موسى ابن إبراهيم، فخرج إلى حماة، فوجه المتوكل عتاب بن عتاب ومحمد بن عبدويه بن جبلة وصير محمداً عامل البلد، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور، ثم وثبوا فشغبوا عليه، فسكنهم ومكر بهم، فأخذ جماعة من وجوههم وأوثقهم في الحديد، فحملوا إلى باب المتوكل، ثم ردوا إليه، فضربهم بالسياط حتى ماتوا، وصلبهم على أبواب منازلهم، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم.
وولى المتوكل أحمد بن محمد خراج دمشق والأردن، وذلك أن كتاب الدواوين احتالوا عليه لخوفهم منه، وقالوا: إن البلد يحتاج أن يعدل، ولا يقوم بالتعديل إلا من ولي ديوان الخراج، فتوجه سنة 240 يعدل دمشق والأردن، وحمل كل أرض ما تستحقه.
وتوفي هارون بن أبي خالد عامل السند سنة 240، وكتب عمر بن عبد العزيز السامي المنتمي إلى سامة بن لؤي وهو صاحب البلد هنالك، يذكر أنه إن ولي البلد قام به وضبطه، فأجابه إلى ذلك، فأقام طول أيام المتوكل.
ووجه طاغية الروم برسل وهدايا، وكانت يسيرة، فبعث إليه بأضعافها، ووجه شنيفا الخادم وكان يقوم بإمنائه، فعقد له على الفداء، فقدم طرسوس سنة 241، وعامل الثغور أحمد بن يحيى الأرمني، وخرج إلى القنطرة اللامس، فنادى بالأسرى، وكان قد حمل من كل بلد من فيه من أسرى الروم، واشترى عبيد النصارى. وبنى المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها: الشاة، والعروس، والشبداز، والبديع، والغريب، والبرج، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار.
وكان انقضاض الكواكب ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة 241، ولم تزل تنقض من أول الليل إلى طلوع الفجر وكانت الزلازل بقومس ونيسابور وما والاها سنة 242، حتى مات بقومس خلق كثير، ونالتهم رجفة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان، فمات فيها زهاء مائتي ألف، وخسف بعده مدن بخراسان، ونال أهل فارس في هذا الشهر شعاع ساطع من ناحية الفلروم ورهج أخذ بإكظام الناس، فمات الناس والبهائم، واحترقت الأشجار، ونال أهل مصر زلزلة عمت حتى اضطربت سواري المسجد، وتهدمت البيوت والمساجد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة.
وعزم المتوكل على المسير إلى دمشق، ووصف له برد هوائها، وكان محرورا، فكتب إلى أحمد بن محمد بن مدبر يأمره باتخاذ القصور وإعداد المنازل، وكتب في إصلاح الطريق، وإقامة المنازل والمرافد، وسار من سر من رأى يوم الإثنين لعشر بقين من ذي القعدة سنة 243، ونزل دمشق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة 244، فنزل تلك القصور، فأقام ثمانية وثلاثين يوماً.
وبلغه عن بعض الموالي من الأتراك أمر كرهه، فشخص عن دمشق إلى العراق، ولم يسافر في ولايته غير هذه السفرة إلا في نزهة، ولم ير في سفرته هذه شيئاً، ولا نظر في مصلحة أحد. وأصابت الشام كله زلازل حتى ذهبت اللاذقية وجبلة، ومات عالم من الناس، حتى خرج الناس إلى الصحراء، وأسلموا منازلهم وما فيها، واتصل ذلك شهورا من سنة 245.
وانتقل المتوكل إلى موضع يقال له الماحوزة على ثلاثة فراسخ من قصر سر من رأى وبنى هناك مدينة سماها الجعفرية، وحفر فيها نهرا من القاطول، ونقل الكتاب والدواوين والناس كافة إليها، وبنى فيها قصرا لم يسمع بمثله، وذلك في المحرم سنة 246.
وسخط على نجاح بن سلمة الكاتب وكان أغلب كتابه عليه بعد عبيد الله بن يحيى، وكان لا يزال يتنضخ بأموال الناس، فسلمه إلى موسى بن عبد الملك بن هشام صاحب ديوان الخراج، وإلى الحسن بن مخلد بن الجراح صاحب ديوان الضياع، وكانا قد ضمناه بألفي ألف دينار، فعذبه موسى بن عبد الملك أياماً، فتوفي في يده، فقبضت ضياعه ودوره وأمواله، وكان ذلك في ذي القعدة سنة 246. وكان المتوكل قد جفا ابنه محمداً المنتصر فأغروه به، ودبروا على الوثوب عليه، فلما كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 دخل جماعة من الأتراك منهم: بغا الصغير وأوتامش صاحب المنتصر، وباغر وبغلو ويريد وواجن وسعلفة وكنداش وكان المتوكل في مجلس خلوة، فوثبوا عليه، فقتلوه بأسيافهم، وقتلوا الفتح بن خاقان معه.
وكانت خلافة المتوكل أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام، وسنة اثنتين وأربعين سنة، ودفن في قصره المعروف بالجعفري الذي كان سماه الماحوزة، وكان الغالب عليه الفتح بن خاقان، وعبيد الله بن يحيى الكاتب، وكان صاحب شرطة إسحاق بن إبراهيم، وبعده محمد بن إسحاق، وبعده محمد ابن عبد الله بن طاهر، وكان صاحب حرسه إسحاق بن يحيى بن معاذ، وبعده رجاء بن أيوب، ثم سليمان بن يحيى بن معاذ، وكان حجابه وصيفاً وبغا.
أيام محمد المنتصر وبويع محمد المنتصر بن جعفر المتوكل وأمه أم ولد يقال لها حبشية رومية في الليلة التي قتل فيها أبوه وهي ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة 247، وكانت الشمس يومئذ في العقرب خمس عشرة درجة واثنتين وخمسين دقيقة، والقمر في الميزان ستاً وعشرين درجة وأربع دقائق، وزحل في السنبلة إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الثور درجتين وخمسا وثلاثين دقيقة، والمريخ في القوس خمساً وعشرين درجة ودقيقتين، والزهرة في العقرب درجتين وخمساً وعشرين دقيقة، وعطارد في العقرب ثلاث درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وأحضر أخويه أبا عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد فأخذ عليهما البيعة وعلى جميع من حضر من الناس، وركب إلى دار العامة، وأعطى الجند رزق عشرة أشهر، وانصرف من الجعفري إلى سر من رأى، وأمر بتخريب تلك القصور، فنقل الناس عنها، وعطل تلك المدينة، فصارت خراباً، ورجع الناس إلى منازلهم بسر من رأى، وخلع أخويه المعتز والمؤيد وأشهد عليهما بخلعهما أنفسهما، ونقل أحمد بن محمد بن المدبر عن الشامات إلى مصر، وفرقت أعمال الشامات على جماعة.
وكان الغالب عليه أوتامش وأحمد بن الخصيب، وكانت خلافته ستة أشهر، وتوفي يوم السبت لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 248، وكانت سنة خمساً وعشرين سنة وستة أشهر.
؟
أيام أحمد المستعينوبويع أحمد بن محمد بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر وهو يوم السبت لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء خمس عشرة درجة وإحدى عشرة دقيقة، وزحل في السنبلة ست عشرة درجة وسبع دقائق، والمشتري في الجوزاء خمس عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء ثلاث درجات وسبعا وعشرين دقيقة، والزهرة في السرطان أربع عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة، وعطارد في السرطان أربع درجات واثنتين وعشرين دقيقة ولم يكن يؤهل للخلافة ولكنه لما توفي المنتصر استوحش الأتراك من ولد المتوكل وخشوا سوء العاقبة، فأشار عليهم أحمد بن الخصيب أن يبايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم فبايعوه وأنكر بعض القواد البيعة وجرى بين الأتراك والأبناء منازعات حتى تحاربوا ثلاثة أيام، ثم ضعف أمر الأبناء، وفرق المستعين في الناس أموالا كثيرة، واستقامت أموره، وغلب على أمره أوتامش التركي وشجاع بن القاسم كاتب أوتامش وأحمد بن الخصيب حتى لم يبق لأحد معهم أمر، ثم تحامل الأتراك على أحمد بن الخصيب فسخط المستعين عليه، ونفاه إلى المغرب بعد أربعة أشهر من ولايته فحمل في البحر إلى أقريطش ثم حمل إلى القيروان.
ولم يكن أصحاب المستعين لأحد أخوف منهم لصاحب خراسان وتوفي طاهر بن عبد الله بن طاهر في رجب سنة 248، وهو ابن أربع وأربعين سنة فأفرخ روعهم، ودبروا أن يخرجوا محمد بن عبد الله من العراق إلى خراسان فقال له المستعين أن ينفذ إلى خراسان فقال: إن أخي قد أوصى إلى ابنه ولا آمن أن يكون في خروجي فساد البلد. فكتب المستعين إلى محمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر بولاية خراسان مكان أبيه وخرج أبو العمود الشاري بديار ربيعة في هذه السنة، فوجه إليه المستعين بلكاجور الفرغاني، فواقعه، فقتله، وفرق جمعه. ولما توفي طاهر وولى محمد ابنه، وكان يوم ولي حدث السن، تحرك قوم بخراسان من الشراة وغيرهم، وكثر الشراة حتى كادوا أن يغلبوا على سجستان فقام يعقوب بن الليث، ويعرف بالصفار من أهل البأس والنجدة فسأل محمد بن طاهر أن يأذن له في الخروج إلى الشراة وجمع المطوعة، فأذن له في ذلك، فسار إلى سجستان فنفى من بها من الشراة ثم زحف إلى كرمان ففعل كذلك حتى نقى البلاد منهم، فعظم شأنه، فكتب المستعين إلى محمد أن يوليه كرمان فأقام بها وأحسن أثره في البلاد.
ووثب بالأردن رجل من لخم، فطلبه صاحب الأردن فصار إلى ناتليق وهرب، فقام مكانه رجل من عماله يعرف بالقطامي وكثف جمعه، فجبى الخراج وكسر جيشا بعد جيش أنفذهم إليه صاحب فلسطين فلم تزل هذه حاله حتى قدم مزاحم بن خاقان التركي في جمع من الأتراك وغيرهم ففرق جمعهم، ونفاهم عن البلاد.
ووثب أهل حمص بعاملهم كيدر بن عبد الله الأشروسني فخرج إليهم في جماعة من الجند فهزموهم، ولحق بحماة وقتلوا من الجند جماعة وصلبوهم، فولى المستعين عبد الرحمن بن حبيب الأزدي حمص فخرج متوجها إليها، فلما كان على أربع مراحل منها توفي، فولى الفضل بن قارن الطبري فقدم البلد، فتلقاه أهله بالسمع والطاعة وشكوا قبح ما كان يعاملهم به كيدر فدخل المدينة، فأقام أياماً، والبلد ساكن، ثم بلغه انهم يريدون الوثوب عليه، فأخذ جماعة منهم فضرب أعناقهم. ونفى المستعين عبيد الله بن يحيى إلى مكة ثم نفاه منها إلى برقة وكان ذلك في أول سنة 249. ووثب الجند بسر من رأى مرة بعد أخرى، وتحاربوا وتحاملوا على أوتامش وقالوا: أخذ أرزاقنا وأزال مراتبنا وخرجت عصبة من الأتراك والموالي إلى الكرخ فخرج إليهم أوتامش ليسكنهم، فقتلوه، وقتلوا كاتبه شجاع بن القاسم وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 249 ونهبت دورهما، فوقع ذلك بموافقة المستعين وكتب إلى الآفاق بلعنه.
ووجه المستعين جعفراً الخياط لغزو الصائفة سنة 249، ومعه عمر بن عبد الله الأقطع عامل ملطية فلما دخل إلى بلاد الروم استأذنه عمر أن يوغل، وكان في ثمانية آلاف، فأحاط به العدو، فأصيب هو ومن معه في رجب سنة 249.
وولى المستعين علي بن يحيى الأرمني أرمينية في هذه السنة، وكان أمرها قد اضطرب، فصار إلى ميافارقين وأغارت الروم وتوسطت بلاد المسلمين فاجتمع قوم من أهل ذلك البلد إلى علي بن يحيى فكلموه في لقاء الروم، ورفعوه فخرج معهم، فلقي عسكر الروم فقاتل قتالاً شديداً، فقتل، وأخذ الروم بدنه، وعدوه فتحاً عظيماً لما كان قد أشجاهم.
ووثب أهل حمص بالفضل بن قارن الطبري عاملهم في هذه السنة، واستجاشوا عليه بإحياء كلب، فتحصن منهم بقصر خالد بن يزيد بن معاوية وقد كان جدده فحاصروه وغاله من كان معه وأسلمه، فأخذوه وذبحوه وصلبوه على باب الرستن ولما قتلوه خافوا عامل دمشق فزحفوا إليه، وهو نوشرى بن طاجيل التركي فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم، فهزموهم، وانصرفوا إلى حمص.
ووجه المستعين موسى بن بغا الكبير في ستة آلاف من الموالي إلى حمص فلما بلغها خرج إليه رجل يقال له دابر العفار في خلق عظيم من كلب وغيرهم، فحاربه، فكانت عليهم، ودخل موسى حمص عنوة وأباحها ثلاثة أيام، فانتهبت، وطرحت النار في منازلها، فانتهبت أموال التجار وكان الواثب بحمص غطيف بن نعمة الكلبي.
ووثب أيضاً بالمعرة المعروف بالقصيص، وهو يوسف بن إبراهيم التنوخي فجمع جموعا من تنوخ، وصار إلى مدينة قنسرين فتحصن بها، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد، مولى أمير المؤمنين فاستماله واستمال غطيف بن نعمة وصار إليه، ثم وثب بغطيف بن نعمة فقتله وهرب القصيص فصار إلى جبل الأسود واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد فسار إليهم فواقعهم، فكانت عليهم، ثم وثبوا عليه، فهزموه، وقتلوا خلقاً عظيماً من أصحابه، وانصرف إلى حلب في فله، ورجع القصيص إلى قنسرين، وجرت بينه وبين كلب محاربة وعزل المولد وولي أبو الساج الأشروسني وكتب إلى القصيص يؤمنه وصير إليه الطريق والبذرقة ثم ولاه اللاذقية ونحوها.
وكان يحيى بن عمر بن أبي الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى فأتى بعض الولاة في حاجة، فلقيه بما لا يحب، فخرج إلى الكوفة واجتمع إليه الناس، فوثب بالكوفة وفتح الحبس، وأطلق من كان فيه، وأخرج عامل الكوفة وقوي أمره، وكثر أتباعه، فوجه المستعين رجلاً من الأتراك يقال له كلكاتكين ووجه محمد بن عبد الله بن طاهر بالحسين بن إسماعيل قرابته، وزحف يحيى بن عمر في خلق عظيم وجماعة كثيرة، فالتقوا بموضع يقال له شاهي، بين الكوفة وبغداد لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة 249، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم أصحاب يحيى عنه، وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فوضع بين يديه في ترس ودخل الناس يهنئونه، فقال له رجل من بني هاشم: إنك لتهنأ بما لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضرة لعزي به.
ووثب جند فارس في هذه السنة بعاملهم الحسين بن خالد فشغبوا عليه، ووثبوا على مال قد حمل فأخذوا أرزاقهم منه، وكان رئيسهم علي بن الحسين بن قريش البخاري وكانت فارس مضمومة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فلما بلغه الخبر ولى عبد الله بن إسحاق فشخص إليها في عدة وعدد فلما قدمها أعطاه الجند الطاعة وكان قصده ابن قريش فناله بالمكروه، ثم رضي عنه، وولاه محاربة قوم من الخوارج بناحية الفرش والروذان وهو الحد بين فارس وكرمان فصار ابن قريش إلى ناحية إصطخر وكاتب الجند وأعلمهم أنه على الوثوب بعبد الله بن إسحاق فأنجدوه على ذلك لسوء سيرة عبد الله فيهم، ومنعه إياهم أرزاقهم ورجع علي بن الحسين فوثب به، وأخرجه من منزله، وانتهب أمواله ومتاعه، وأمروا علي بن الحسين عليهم، وانصرف عبد الله إلى بغداد فوجه محمد بن عبد الله بن نصر بن حمزة الخزاعي فلما قدم تألف علي بن الحسين فلم يصلح، وأقام منافرا له في ناحية من كور فارس.
ووثب إسماعيل بن يوسف الطالبي بناحية المدينة لسبب كان بينه وبين الوالي بها، وتحامل عليه في وقف كان له، وجمع لفيفاً من الأعراب، ثم نفذ إلى ناحية الروحاء فأخذ مالاً للسلطان وكان حمل من بعض المواضع، ثم صار إلى مكة وجعفر بن الفضل، المعروف ببشاشات العامل بها، فواقعه، فهزم بشاشات ودخل مكة وأقام ثلاثا، ثم دفع إلى المزدلفة وصبح منى وقد تهارب الناس، ودخل من كان مع ابن يعقوب مكة فقدر أهلها انهم أصحاب إسماعيل فلقوهم بالسيوف فقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وأقبل إسماعيل إلى مكة فمنعه أهل مكة من الدخول، فوضع أصحابه السيوف فيهم، حتى دخل وطاف وسعى، ورجع وطاف، ثم صار إلى منى وكان بمكة رجل يقال له محمد بن حاتم على نفقات المصانع فقال ليعقوب: اقلع ما على دروندي البيت والعتبة من الذهب والفضة، وأعطه الناس. وحارب إسماعيل! فقلع ذلك الذهب، وأقام إسماعيل بمنى أيام منى، ثم انصرف.... وغلت الأسعار ببغداد وبسر من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحرب، وانقطعت الميرة، وقلت الأموال فجرت السفراء بينهم سنة 252، فدعا المستعين إلى الصلح على أن يخلع نفسه ويسلم الأمر إلى المعتز ويصير إلى بلد فيقيم فيه آمنا على نفسه وولده، على أن يدفع إليه مال معلوم وضياع تقيمه، فأجيب إلى ذلك، وخلع نفسه، وبايع محمد بن عبد الله وكتب المستعين كتاب الخلع على نفسه وأشهد بذلك، وصار إلى واسط بأمه وولده وسائر أهله ليجعلها دار مقامه.
أيام المعتز باللهوبويع أبو عبد الله المعتز بالله بن المتوكل، وأمه أم ولد يقال لها قبيحة، بسر من رأى، يوم الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 252 وكتب إلى جميع العمال يذكر ما تقدم من العقد لإبراهيم المؤيد ويأمرهم بالدعاء له بعده وبايع عمال البلاد للمعتز لما علموا مبايعة محمد بن عبد الله بن طاهر ومن ببغداد وتوقف ابن مجاهد صاحب شمشاط وعيسى بن شيخ في فلسطين ويزيد ابن عبد الله في مصر وعمران بن مهران بإصبهان. ووجه المعتز حاتم بن زريك إلى شمشاط فأوقع بابن مجاهد وأهلها، وأخذه وجماعة من وجوهها إلى آمد وضرب أعناقهم.
زحف نوشرى بن طاجيل التركي عامل دمشق إلى عيسى بن شيخ فزحف إليه عامل فلسطين عيسى فالتقيا بالأردن وكانت بينهما حروب صعبة قتل فيها ابن نوشرى، وانهزم الجند عن عيسى فتركوه وحده، فانهزم إلى فلسطين فحمل منها ما قدر عليه، وسار إلى مصر ودخل نوشرى الرملة.
ووجه المعتز برجل من الأتراك إلى مصر بالبيعة فاحتبسه يزيد بن عبد الله عامل مصر بالعريش أياماً، ثم أذن له في الدخول، وبايع هو ومن بحضرته وعيسى بن شيخ للمعتز.
ووجه المعتز برجل من الأتراك يقال له محمد بن المولد إلى فلسطين لما انتهى إليه خبر عيسى بن شيخ وما كان بينه وبين النوشري فلما صار محمد بن المولد بحمص وقد كان تغلب عليها غطيف الكلبي دعاه إلى الطاعة وأعطاه الأمان فأجابه، فلما صار في يده ضرب عنقه، فوثبت به كلب من كل جانب، فهزموه.
وصار محمد بن المولد إلى فلسطين فلما قدمها انصرف النوشري عنها. وصار عيسى بن شيخ من مصر مستعدا، فلما وافى فلسطين نزل قصرا كان بناه بين رملة ولد ولم يمكن ابن المولد فيه فرصة، وحذر كل واحد منهما من صاحبه، ثم انصرفا جميعاً إلى العراق.
ووجه مزاحم بن خاقان إلى ملطية وقد ظهر فيها الروم عدة مرار، ووثب بمصر رجل من كنانة يقال له جابر ويعرف بأبي حرملة... فوجهه إلى أسفل الأرض وقام هو موضعه، فكثف جمعه وجبى الخراج.
وكان صفوان العقيلي قد وثب بديار مضر في أيام المستعين على ما ذكرنا من أمره، ودعا للمعتز وحارب محمد بن داود المعروف بابن الصغير فلما استقامت الكلمة، وبايع من كان بالرافقة من العمال كتب محمد بن الأشعث الخزاعي صاحب البريد بديار مضر إلى المعتز يذكر سوء مذهب صفوان وأنه منطو على المعصية فوجه إليه المعتز بسيما الصعلوك ليحمله إلى بابه، وكان قد تحرك بحران في ذلك الوقت رجلاًن أحدهما من ولد أبي لهب والآخر أموي، ودعا كل واحد منهما إلى نفسه، فبدأ سيما بهما حتى أخذهما، ثم صار إلى الرافقة وقد وثب صفوان العقيلي على محمد بن الأشعث الخزاعي فقتله، فلقي سيما ابن عبدوس فكانت بينهما وقعات، ثم دعا ابن عبدوس إلى الصلح على أن يولي بلده، ويدفع إليه تسعمائة ألف درهم.
وأقام موسى بن بغا بهمذان ووجه خليفة له إلى ناحية الكوكبي بن الأرقط فكانت بينهما وقعات، وزحف موسى إلى عمران بن مهران المتغلب بإصبهان فحاربه، ثم انصرف، واستخلف على البلد، ورجع إلى همذان.
وتوفي محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد في ذي القعدة سنة 253 وكتب المعتز إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بولايته على ما كان أخوه يتولاه من الشرطة وسائر الأعمال وكانت سن محمد يوم مات أربعا وأربعين سنة، ثم وجه طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان سليمان بن عبد الله عمه، لما بلغه اضطراب الأحوال وغلبة وصيف وبغا وغيرهما من الأتراك على أمر الخلافة فيقال إن المعتز كتب إليه في ذلك فصار سليمان إلى بغداد في خلق كثير من جند خراسان ثم دخل إلى سر من رأى والناس لا يشكون في أنه سيغلب، فخلع عليه ودبر وصيف وبغا أن ينحياه، فأمر بالرجوع إلى بغداد فقدمها يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة 254.
وأغزى بغا عيسى بن شيخ إلى جند فلسطين ورصده الأتراك ليقتلوه بابن نوشرى الذي كان قتله بالأردن فخرج مستترا في يوم مطير في خيل جريدة حتى فاتهم وصار إلى فلسطين فوجد بها أموالا قد حملت من مصر فاحتبسها وفرض فروضا من العرب وجمع إليه خلقا من ربيعة، وصاهر إلى كلب، وابتنى خارج مدينة الرملة حصنا سماه الحسامي.
ولما كثر الاضطراب تأخرت أموال البلدان ونفد ما في بيوت الأموال فوثب الأتراك بكرخ سر من رأى فخرج إليهم وصيف ليسكنهم، فرموه فقتلوه وحزوا رأسه في سنة 253 وتفرد بغا بالتدبير، ثم تحرك صالح بن وصيف واجتمع إليه أصحاب أبيه فصار في منزلته وضعف أمر المعتز حتى لم يكن له أمر ولا نهي. وانتقضت الأطراف، وخرج بديار ربيعة رجل من الشراة يقال له مساور بن عبد الحميد، ويعرف بأبي صالح من بني شيبان، ثم صار إلى الموصل فطرد عاملها وسار حتى قرب من سر من رأى ونزل في المحمدية ثلاثة فراسخ من قصور الخليفة فدخل القصر وجلس على الفرش، ودخل الحمام وندب له المعتز قائدا وجيشا بعد قائد وجيش وهو يهزمهم، حتى كثف جمعه، واشتدت شوكته.
وتوفي مزاحم بن خاقان لخمس خلون من المحرم سنة 254 وصار مكانه ابن له يقال له أحمد فلم يقم إلا أياماً حتى اشتدت به العلة، وتوفي، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وتوفي في شهر ربيع الآخر وصار على البلد أرخوز ابن أولغ طرخان التركي.
وتوفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بسر من رأى يوم الأربعاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة 254 وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكل فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره فدفن فيها، وسنة أربعون سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: الحسن وجعفر.
وتنكر المعتز لبغا وآثر صالحا وبابكباك وصير إلى بابكباك أعمال المعاون بمصر فولاها بابكباك من قبله أحمد بن طولون فقدم أحمد بن طولون الفسطاط في شهر رمضان سنة 254.
وبلغ المعتز أن بغا قد عزم على الوثوب به، فدبر على قتله، فلما بلغه ذلك هرب فصار إلى ناحية الموصل وهو يقدر أن أكثر الأتراك وغيرهم يستلحقونه، فلم يلحقه أحد، فانصرف راجعا في زورق، فأخذه أصحاب المسالح وكوتب المعتز بخبره فأمر بضرب عنقه، فضربت عنقه، ونهبت داره، ونفى ابنه فارس إلى المغرب في سنة 254.
ولما خاف المعتز وثوب الأتراك أشخص من كان بسر من رأى من الهاشميين من أولاد الخلافة وغيرهم إلى بغداد لئلا يخلس الأتراك أحداً منهم.
وتلاحى أحمد بن طولون وأحمد بن المدبر وهو عامل الخراج بمصر وأفسد بينهما شقير الخادم المعروف بأبي صحبة فكان شقير يتولى البريد وضياعا من ضياع الأقطار، وما يستعمل للسلطان من المتاع وإليه ينسب الدبيقي الشقيري وكتب كل واحد منهما في صاحبه فنصر بابكباك أحمد بن طولون. وكان بابكباك الغالب على أمر الخليفة وأعانه الحسن بن مخلد بن الجراح وأبو نوح عيسى بن إبراهيم بن نوح فكتب بعزل بن المدبر وتولية رجل من أهل مصر يقال له محمد بن هلال فتولى الخراج وقبض ابن طولون على ابن المدبر فقيده، وألبسه جبة صوف، ووقفه في الشمس، فأقام بهذه الحال ثلاثة أشهر.
وقوى أمر يعقوب بن الليث الصفار فسار إلى فارس وبها علي بن الحسين ابن قريش متغلب، فهزم جيشه وأسره وتغلب على فارس.
ووثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن إسرائيل الكاتب وزير المعتز وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع وعلى عيسى بن إبراهيم بن نوح وعلي بن نوح فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذبهم بأنواع العذاب، وغلب على الأمر، فهم المعتز بجمع الأتراك ثم دخل إليه، فأزاله من مجلسه، وصير في بيت. وأخذ رقعته بخلع نفسه وتوفي بعد يومين، وصلى عليه المهتدي وكان ذلك في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 552 وكانت ولايته من يوم بويع إلى يوم خلع فيه نفسه أربع سنين وتسعة أشهر، ومنذ خلع المستعين وبايع له من ببغداد ثلاث سنين وسبعة أشهر، وكانت سنة اثنتين وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور ثلاثة: عبد الله ومحمدا والمهتدي.
أيام محمد المهتدي بن هارون الواثق باللهواجتمع القواد على أنه ليس في أولاد الخلفاء أفضل ولا أعقل من محمد بن الواثق وأمه أم ولد يقال لها قرب وكان ممن أشخص إلى بغداد في أيام المعتز فشخص، فلما قدم بايعوه فاجتمعت كلمتهم عليه، وكانت البيعة له يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 255 وجلس للناس يوم الخميس بعد أن بويع له، وذكر في الكتب خلع المعتز نفسه وسماه خالع نفسه وظهرت من المهتدي سيرة حسنة ومذاهب محمودة وجلس للمظالم بنفسه، وباشر الأمور بجسمه، ووقع في القصص بخطه وأبطل الملاهي وقدم أهل العلم وأقام يلبس اليوم الواحد لبسة، فتقيم عليه أياماً كثيرة لا يغيرها وكان صالح وبابكباك الغالبين عليه وأخرج صالح أحمد بن إسرائيل وعيسى ابن إبراهيم بن نوح من الحبس إلى باب العامة فضربا حتى ماتا، وأفلت الحسن ابن مخلد ورد أحمد بن المدبر إلى خراج مصر فأقام تسعين يوماً، ثم ورد كتاب بابكباك إلى أحمد بن طولون بإزالة ابن المدبر ورد النظر إلى محمد بن هلال ففعل ذلك.
ووثب أهل حمص بمحمد بن إسرائيل، فخرج هاربا، ولحقه ابن عكار فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار، ورجع ابن إسرائيل على البلد، وأخرج قبيحة أم المعتز، وأبا أحمد وإسماعيل ابني المتوكل، وعبد الله بن المعتز إلى مكة، ثم ردوا إلى العراق.
وكتب إلى جميع المتحركين والمتغلبين بالأمان، وكتب إلى عيسى بن شيخ الربعي بمثل ذلك، وأمره بحمل ما قبله من أموال مصر وغيرها فامتنع فكتب إلى ابن طولون بالمسير إليه، فسار إليه، فلما صار بالعريش ورد عليه الكتاب بالانصراف، فانصرف، ولم يلق حربا، ولقي ابن شيخ أماجور التركي، عامل دمشق، فهزمه أماجور وقتل ابنه منصوراً، ورجع ابن شيخ، فحمل عياله إلى صور وتحصن بها.
ووثب رجل من الطالبيين يقال له إبراهيم بن محمد من ولد عمر بن علي، ويعرف بالصوفي، بناحية صعيد مصر، ووثب أيضاً في تلك الناحية رجل يقول إنه عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فحارب السلطان، وقوي أمر صاحب البصرة، وصار إلى الأبلة فأخربها، ووقعت بين أهل البصرة العصبية، حتى أحرق بعضهم منازل بعض. وتنكر المهتدي للأتراك، وعزم على تقديم الأبناء فلما علموا بذلك استوحشوا منه، وأظهروا الطعن عليه، فأحضر جماعة منهم، فضرب أعناقهم، وفيهم بابكباك رئيسهم، فاجتمع الأتراك وشغبوا، فخرج إليهم المهتدي في السلاح معلقا في عنقه المصحف، واستنفر العامة، وأباحهم دماءهم وأموالهم، ونهب منازلهم، فتكاثر الأتراك عليه، وافترقت عنه العامة حتى بقي وحده وأصابته عدة جراح، ومر منصرفاً حتى دخل دار رجل من القواد يقال له أحمد بن جميل، ولحقوه، فأخذوه، فحملوه على دوابه وجراحاته تنطف دماً، فدعوه إلى أن يخلع نفسه فأبى ومات بعد يومين، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، وكانت خلافته سنة إلا أحد عشر يوماً.
أيام أحمد المعتمد على اللهوبويع أحمد المعتمد على الله بن جعفر بن المتوكل في اليوم الذي قتل فيه المهتدي، وهو يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، ومن شهور العجم في حزيران وكانت الشمس يومئذ في الأسد سبعا وعشرين درجة وثمانيا وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وزحل في القوس خمساً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعاً، والمريخ في الأسد ثلاث درجات وأربعين دقيقة والزهرة في الأسد درجة وأربعاً وأربعين دقيقة، وعطارد في الجوزاء تسع درجات وثلاثاً وثلاثين دقيقة.
وصير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيراً، وقلده أموره، وكتب بالبيعة إلى الآفاق، فبايع بخراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبكور الفرات مالك بن طوق التغلبي، وبديار مضر وديار ربيعة وجند قنسرين أبو الساج بن ديوداد الأسروشني وبمصر أحمد بن طولون التركي، وامتنع عيسى ابن شيخ بن الشليل الربعي من البيعة بفلسطين، فوجه برجل من الأتراك في سبعمائة تركي يقال له أماجور، فقدم أماجور دمشق، وزحف عيسى بن شيخ إليه من فلسطين، حتى أناخ بباب دمشق، فحاصره، ولما اشتد الحصار بدمشق خرج أماجور وأصحابه من المدينة واتبعه ابن لعيسى بن شيخ يقال له منصور، وخليفة له يقال له ظفر بن اليمان ويعرف بأبي الصهباء، فحمل عليهما أماجور وأصحابه، فقتل منصور بن عيسى بن شيخ، وأسر المعروف بأبي الصهباء، فضرب عنقه، وصلب، وانصرف عيسى بن شيخ إلى الرملة. وزحف الخارج بالبصرة المدعي إلى آل أبي طالب، واسمه علي بن محمد، إلى الأبلة، فنهبها وأخربها وأحرقها بالنار، وتوجه إليه سعيد بن صالح، فواقعه بنهر أبي الخصيب.
ووردت كتب المعتمد إلى أحمد بن طولون عامل مصر، يأمره برد أعمال الخراج إلى أحمد بن محمد بن المدبر، وكان محبوسا في يده، ومحمد بن هلال يتولى الخراج، فاخرج يوم السبت لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة 256، وتولى الخراج، وكان حبسه تسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وفي هذه السنة تنازع قوم من بني هلال وقوم من أهل مكة في الموقف بعرفات، فقتل قوم من هؤلاء وقوم من هؤلاء، وكان صاحب الموسم الحسين بن إسماعيل الطاهري، فأقام الحج للناس أحمد بن إسماعيل بن يعقوب الملقب كعب البقر.
وتوفي بابكباك التركي، فصير المعتمد ما كان إليه من أعمال مصر وغيرها إلى يارجوج التركي وكتب يارجوج التركي إلى أحمد بن طولون التركي، عامل مصر، بإقراره على ما كان يتولى. وولى المعتمد محمد بن هرثمة بن أعين برقة، فقدم الفسطاط في شهر ربيع الآخر سنة 257، ونفذ إلى برقة.
ووجه المعتمد بالحسين الخادم، المعروف بعرق الموت، إلى عيسى بن شيخ، وقد تغلب على فلسطين، بأمان على نفسه وماله وولده، والصفح عما كان منه، وتوليته أرمينية، ففعل ذلك وشخص من البلد في جمادى الآخرة سنة 257، وسلم ما كان في يده إلى أماجور التركي، ولم يرد من الأموال درهماً واحداً.
وكانت في السماء نار عظيمة أخذت من المشرق إلى المغرب ثم أجلت وتلتها هدة شديدة وزلزلة، وكان ذلك مع طلوع الفجر لثمان بقين من رجب، ومن شهور العجم في حزيران.
وحمل أحمد بن طولون ما كان حاصلا في بيت المال بمصر إلى أمير المؤمنين المعتمد، فكان مبلغه ألفي ألف ومائة ألف درهم، وقاد الخيل، وحمل الطراز والخيش والشمع، ووازنه بنفسه حتى يسلمه إلى أماجور التركي، وأشهد به عليه، وانصرف إلى الفسطاط.
وكتب المعتمد بالله إلى أحمد بن طولون بولاية الإسكندرية مكان إسحاق ابن دينار بن عبد الله، فشخص أحمد بن طولون إلى الإسكندرية في شهر رمضان سنة 257.
وولى أحمد المعتمد بالله أحمد بن محمد بن المدبر خراج الشامات، وصرفه عن خراج مصر، وولى خراج مصر أحمد بن محمد شجاع، المعروف بابن أخت الوزير، فقدم الفسطاط في شهر رمضان من هذه السنة، وعزل شقيرا الخادم، المعروف بأبي صحبة، عن البريد بمصر، وولى مكانه أحمد بن الحسين الأهوازي، فقدم في شوال من هذه السنة.
وفي هذه السنة وجه أحمد بن طولون رجلاً من الأتراك يقال له ماطعان في ألف فارس مع حاج مصر وأمره أن يدخل المدينة ومكة في السلاح والتعبية، ويفعل مثل ذلك بعرفات، وفعل ذلك ووافى عرفات بالأعلام والطبول والسلاح. وفي هذه السنة دخل المدعي البصرة ونهب وحرق المسجد الجامع، وتوجه إليه رجل من الأتراك يقال له محمد المولد، فلما بلغه الخبر انصرف، ولم يلقه. وفي هذه السنة بدا أمر المعروف بأبي عبد الرحمن العمري، وأظهر رأسه لمحاربة أصحاب السلطان، ولقي شعبة بن حركان صاحب أحمد بن طولون، فحاربه بأسوان.
وفي هذه السنة وقعت عصبية بفلسطين بين لخم وجذام، فتحاربوا حربا أخذت من الفريقين، وفيها حج بالناس الفضل بن العباس بن الحسن بن إسماعيل ابن العباس بن محمد. وخرج أحمد بن محمد بن المدبر من الفسطاط متوجها إلى الشامات في المحرم سنة 258، فقام بالشامات، وقصد مدينة دمياط وتولى أعمال الخراج.
وفي هذه السنة دخل محمد المولد التركي البصرة، وأخرج المدعي إلى آل أبي طالب وأصحابه عنها، ورجع قوم، فلم يجدوا منزلاً يسكن.
وفي هذه السنة وثب جند برقة بحمد بن هرثمة بن أعين عامل المعونة، فأخرجوه عنها فا... رو إلى الفسطاط، وفيها أخرج أحمد بن طولون الطالبيين من مصر إلى المدينة، ووجه معهم من ينفذهم، وكان خروجهم في جمادى الآخرة، وتخلف رجل من ولد العباس بن علي وأراد أن يتوجه إلى المغرب، فأخذه أحمد بن طولون، وضربه مائة وخمسين سوطا، وأطافه بالفسطاط.
وفيها وقع الوباء بالعراق، فمات خلق من الخلق، وكان الرجل يخرج من منزله، فيموت قبل أن ينصرف، فيقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان، وفيها زاد أبو أيوب أحمد بن محمد بن أخت الوزير، عامل خراج مصر، في المسجد الجامع بمصر في آخر المسجد.
وفيها توجه أبو أحمد بن المتوكل على الله إلى المدعي إلى آل أبي طالب، الخارج بالبصرة، في جمع كثيف، وكان العسكر والزاد والسلاح في السفن، فوقعت النار في السفن، فاحترقت وانصرف أبو أحمد راجعاً.
وفيها أخذ أحمد بن طولون على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه، ويوالوا من والاه، ويحاربوا من حاربه من الناس جميعاً.
وفيها غزا الصائفة محمد بن علي بن يحيى الأرمني، وقدم شنيف الخادم مولى المتوكل للفداء، فاجتمعوا بنهر اللامس، ففادوا وشرطوا للروم هدنة أربعة أشهر، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 258.
وفيها قتل يارجوج التركي بسر من رأى وبويع لأحمد بن الموفق بن المتوكل ولقب بالمعتضد، بولاية العهد، وصير إليه أعمال يارجوج، من مصر وغيرها، فدعى له على منابر مصر.
وحج بالناس الفضل بن العباس، ونال أهل البادية زلازل ورياح وظلمة... ممن كان حول المدينة من بني سليم وبني هلال وغيرهم من بطون قيس وسائر أهل البلد، فهربوا إلى المدينة وإلى مكة يستجيرون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالكعبة، وأحضروا متاعاً من متاع الحاج الذين قطعوا عليهم الطريق، وذكروا أنه هلك منهم خلق عظيم في البادية، وكان ذلك في سنة 259. وفيها تغير ماء نيل مصر حتى صار يضرب إلى الصفرة، وأقام على هذه الحال أياماً، ثم رجع إلى ما كان عليه.
وفي هذه السنة مات أبو صحبة شقير الخادم وابن مطهر الصنعاني صاحب بريد مصر.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5*
==========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق