كتاب : تاريخ اليعقوبي اليعقوبي
وقال: أصل المرء قلبه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، والناس في آدم شرع سواء. وقال: أن الله خص أولياءه بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم فاحمدوا الله وإلا فارغبوا إليه. قيل له: وما هي؟ قال: اليقين والقنوع والصبر والشكر والعقل والمروة والحلم والسخاء والشجاعة. وقال: ثلاث لا يموت صاحبهن حتى يرى ما يكره: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وأن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، وأن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون، وأن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تترك الديار بلاقع وتقطع السبل، ومن صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زاد الله في عمره. وقال: ثلاث لم يجعل الله لأحد فيها رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، ووفاء العهد للبر والفاجر، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره وليكرم ضيفه وليقل خيراً وليشكر. وقال: المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يحزنه ولا يغتابه ولا يحسده ولا يبغي عليه، فإن إبليس يقول لجنوده: ألقوا بينهم البغي والحسد فإنه يعدل عند الله الشرك.
وقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإياكم وما تعتذرون منه فإن المؤمن لا يسيء ويعتذر وأن المنافق يسيء كل يوم فلا يعتذر، وللغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جوفه. أن أهل الأرض مرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق.
وقال: يقول الله عز وجل: ابن آدم أنا الحي لا أموت، فأطعني أجعلك حيا لا تموت وأنا على كل شيء قدير، ابن آدم صل رحمك أفك عنك عسرك وأيسرك ليسرك. وقال: من أصبح وهو على الدنيا حزين أصبح على الله ساخطا، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه، ومن أتى ذا ميسرة فخشع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه، ومن تمنى شيئاً هو لله رضي لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه.
وقال: يقول الله، عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك في طلب معاشك إلى طلبك، وعلي أن أسد فاقتك واملأ قلبك خوفا مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملاه شغلا بالدنيا ثم أسدها عنك وأكلك إلى طلبك. وقال: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، فمن سألكم بالله فأعطوه ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن اصطنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تكافئوه فاشكروه.
وقال: من حق جلال الله على العباد إجلال الإمام المقسط وذي الشيبة في الإسلام وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه. أربع من فعلهن فقد خرج من الإسلام: من رفع لواء ضلالة، ومن أعان ظالما أو سار معه أو مشى معه وهو يعلم أنه ظالم، ومن احترم بذمة، ورجلان لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: أمير ظلوم ورجل غال في الدين مارق منه، والأمير العادل لا ترد دعوته.
وقال: لا يشغلنك طلب دنياك عن طلب دينك، فإن طالب الدنيا ربما أدرك فهلك بما أدرك وربما فاته فهلك بما فاته. الأكثرون في الدنيا هم الأقلون في الآخرة ألا من قال: هكذا، وهكذا، وحثا بيده. وما أعطي أحد من الدنيا شيئاً إلا كان أنقص من حقه في الآخرة حتى سليمان بن داود فإنه آخر من يدخل الجنة من الأنبياء لما أعطي من الدنيا. ورأس كل خطيئة حب الدنيا.
وقال: جاء الموت بما فيه الراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم. وقال: أفضل ما توسل به المتوسلون الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وتمام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان. ألا فاصدقوا فإن الصادق على شفا منجاة وكرامته، وأن الكاذب على شفا مخزاة ومهلكه. ألا وقولوا خيراً تعرفوا به اعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من جهل عليكم.
وقال: من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر فيها ولم يرزق الصبر عليها، فحسب المؤمن عزاء إذا رأى المنكر أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وقال: إن لله عبادا من خلقه يخصهم بنعمه يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نقلها منهم وحولها إلى غيرهم.
وقال: ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرض النعمة للزوال. وقال لبني سلمة: من سيدكم اليوم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس، يا رسول الله. قال: فكيف حاله فيكم؟ قالوا: من رجل نبخله. قال: وأي داء أدوا من البخل! لا سؤدد البخيل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح، أو قال، قال: قيس بن البراء.
وقال لوافد وفد عليه واطلع منه على كذبه: لو لا سخاء فيك ومعك الله تشرب بلبن وافد.
وقال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
وقال: تجافوا عن زلة السخي فإن الله، عز وجل، يأخذ بناصيته كلما عثر.
وقال: الجنة دار الأسخياء.
وقال: الشاب الجواد الزاهد هو أحب إلى الله من الشيخ البخيل العابد.
وقال: إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها.
وقال: إن لله عباداً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم فهم الآمنون يوم القيامة.
وقال: أحسنوا مجاورة نعم الله ولا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فرجعت إليهم.
وقال: الحوائج إلى الله، وأسبابها إلى الناس، فاطلبوها إلى الله بهم، فمن أعطاكموها فخذوها عن الله بشكر، ومن منعكموها فخذوها عن الله بصبر. وقال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق.
وقال: رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، فإن عرض بلاء فقدم مالك قبل نفسك ودينك، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك، وأعلم أن المحروب من حرب دينه.
وقال: إن لكل شيء شرفاً، وإن أشرف المنازل ما استقبل به القبلة. من أحب أن يكون أعز الناس فليثق بالله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أقوى الناس. فليتوكل على الله. ثم قال: ألا أنبئكم بشرار الناس؟ من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من يبغض الناس ويبغضونه.
وقيل له: ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال: نحيزه من عقل يولد معه. قالوا: فإذا أخطأه ذلك؟ قال: فليتعلم عقلا. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فليتخذ صاحبا في الله غير حسود. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: عليه بالصمت. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فميتة قاضية. وقال لرجل من ثقيف: ما المروة فيكم؟ فقال: الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وحسن الخلق. فقال: كذلك هي فينا. وقال: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه، إن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول. وقال: ما أتاني جبريل إلا ووعظني، وقال في آخر قوله: إياك والمشازرة فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز. وسأله رجل، فقال له: ما عندي شيء. فقال له: عدني. فقال: إني لأستعمل الرجل وغيره أن يكون انفض عينا وأمثل رجله وأشد مكيدة، وإني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أعطيه تألفا. وقال: من لم يحمد عدلا ويذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة. وقال: أشرف الأعمال ثلاثة: ذكر الله، عز وجل، على كل حال، وإنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان. وقال: موت البنات من المكرمات. وقال: الصبر عند الله ضد الغيرة ولا يكمله أحد، وعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه. وقال: إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً. وقال: كل معروف صدقة وما وقى به اللسان صدقة، فقيل لمحمد بن المنكدر: وما ذاك؟ قال: إعطاء الشاعر وذي اللسان.
وقال: ما من ذنب إلا وله عند الله التوبة إلا سوء الخلق إنه لا يخرج من شيء إلا وقع في شر منه. وقال: إياك ومهلك، فإن ذا مهل قتل أخاه ونفسه وسلطانه. وأتاه رجل فقال له: ألك مأكل؟ قال: نعم من أكل المال. فقال: إذا الله أنعم عليك بنعمته فليثن عليك. وقال: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إني لأحب أن تكون دابتي فارهة وثيابي جيادا، حتى ذكر شراك نعله وعلاقة سوطه، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فإنما الكبر أن يمنع الحق ويغمض الباطل.
وسأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أصبح في بيت آل محمد غير صاع من طعام وإنهم لأهل تسعة أبيات فهل لهم عنه غنى؟ ولم يرد سائلا قط. وإنه كان يعالج حظاء من جريد، فمر به رجل فقال: أكفيكه يا رسول الله؟ فقال: شأنك. فلما فرغ منه قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم تضمن لي على الله الجنة.
فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه فقال: ذلك لك. فلما ولي ناداه: يا عبد الله أعني بطول السجود. وخطب على ناقته فقال: يا أيها الناس كان الموت على غيرنا كتب، وكان الحق على غيرنا وجب، وكان الذين يشيعون من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كانا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظه وآمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال قد اكتسبه من غير معصية ورحم وصاحب أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم يبعدها إلى البدعة.
وقال: وعظني جبريل فقال لي: أحبب من شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه.
وقال: من طلب الرزق من حله فليبذر على الله.
وقال: استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
وقال: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا صمت إلا من غدوة إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا يمين لامرأة مع زوجها، ولا يمين لولد مع والده، ولا يمين للمملوك مع سيده، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا يمين في قطيعة رحم، ولا نذر في معصية. ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر كان فريضة الإسلام عليه إذا استطاع إليه سبيلا، ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم عتق كان فريضة الإسلام عليه إن استطاع إليه سبيلاً.
وقال: أعظم الذنوب عند الله أصغرها عند العباد، وأصغر الذنوب عند الله أعظمها عند العباد. وقال: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، والناس سواء كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له، واليد العليا خير من اليد السفلى، والمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، والمستشار مؤتمن، ولن يهلك امرؤ عرف قدره، ورحم الله عبدا قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.
وذكر الخيل فقال: معقود في نواصيها الخير، وبطونها كنز وظهورها حرز، وأجرى الخيل فجاء فرس له أدهم سابقا فجثا على ركبتيه ثم قال: ما هو إلا البحر. وقال: يحمل هذا العلم من كل حلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقال: إن الله، عز وجل، يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية إياي يغرون أم علي يجترءون فإني حلفت لأتيحنهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.
وروي عنه أنه قال: كان تحت الجدار الذي ذكره الله، عز وجل، في كتابه كنز لهما، كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح. عجبا لمن يوقن بالقدر كيف يحزن. عجبا لمن يوقن بالنار كيف يضحك. عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. وقال: للطاعم الشاكر أجر الجائع الصابر، ولأن يعافى أحدكم فيشكر خير له من أن يبيت قائما ويصبح صائماً معجباً.
وقال: لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه. قيل: يا رسول الله فكيف تذل؟ قال: بعرضها لما لا تطيق من البلاء. وقال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
ووجد في كتاب عند أسماء بنت عميس من كلام رسول الله: الآجلات الجانيات المعقبات رشداً باقياً خير من العاجلات العابدات المعقبات غياً باقياً. المسلم عفيف من المظالم عفيف من المحارم. بئس العبد عبد هواه يضله، بئس العبد عبد رغب إليه بذلة، بئس العبد عبد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا.
وقال: أربع من قواصم الظهر: إمام تطيعه ويضلك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار سوء إن علم سوءاً أذاعه وإن علم خيراً ستره، وفقير إذا نحل لم يجد صاحبه.
وقال: ما من عبد إلا وفي علمه وحلمه نقص، ألا ترون أن رزقه يجري بالزيادة فيظل مسروراً مغتبطاً وهذان الليل والنهار يجريان بنقص عمره لا يحزنه ذلك ولا يحتفل به ضل ضلالة، ما أغنى عنه رزق يزيد وعمر ينقص.
وقال: إن بني إسرائيل اذهبوا خشية الله من قلوبهم فحضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، وإن الله لا يقبل من عبد لا يحضر من قلبه ما يحضر من بدنه.
وقال: من ازداد علما ثم لم يزدد زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً. من أعان إماماً جائراً ولم يخطئه لم يفارق قدمه قدمه بين يدي الله حتى يأمر به إلى النار.
وأتاه رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة فقال: يا رسول الله كانت لنا أرباب وربات فهدانا الله بك. فقال: أكثر أهل الجنة البله وأهل عليين ذوو الألباب.
وقال: الأئمة من قريش لكم عليهم حق، ولهم عليكم حق ما حكموا فعدلوا واسترحموا فرحموا وعاهدوا فوفوا. ووقف على بيت فيه جماعة من قريش فقال: إنكم ستولون هذا الأمر ومن وليه منكم فاسترحم فلم يرحم وحكم فلم يعدل وعاهد فلم يف فعليه لعنة الله.
وقال: الدين النصيحة، الدين النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولائمة الحق. وقال بالخيف من مني: نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها حتى يبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب مؤمن: إخلاص العمل وصحة الورع والنصيحة لولاة الأمر.
وقال: للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه وينصح له إذا غاب عنه ويعوده إذا مرض ويشيع جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس.
وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله كيف ننصره ظالماً؟ قال: بكفه عن الظلم. وقال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
وقال: ثلاثة لا يرد لهم دعوة: المظلوم وإمام عادل والصائم حتى يفطر. وقال: ثلاث يتبعن ابن آدم بعد موته: سنة سنها في المسلمين فعمل بها فله أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، وصدقة تصدق بها من مال أو ثمر فما جرت تلك الصدقة فهي له، ورجل ترك ذرية يدعون له. وقال في خطبته: شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ولكل شيء آفة وآفة هذا الرأي الهوى. وقال: اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا. كفوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم وصونوا فروجكم.
وقال: يقول الله، عز وجل: لا يزال عبدي يصدق حتى يكتب صديقاً ولا يزال عبدي يكذب حتى يكتب كذاباً. وقال: ويل للذي يتحدث بالكذب ليضحك به القوم، ويل له وويل له. وروي أنه قال: عليكم بالصدق وإن ظننتم فيه الهلكة فإن عاقبته النجاة، وإياكم والكذب وإن ظننتم فيه النجاة فإن عاقبته الهلكة.
وقال: من خلف على مال أخيه ظالماً فليتبوأ مقعده من النار. فقال رجل: وإن كان يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ولو كان قضيباً من أراك. ومن اقتطع حق امرئ مؤمن بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة.
وكان أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، وقال: والذي نفسي بيده لو كان لي مثل شجر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لم تجدوني كذوباً ولا جباناً ولا بخيلاً. وقال له رجل: يا رسول الله أعطني رداءك. فألقاه إليه. فقال: ما أريده. فقال: قاتلك الله! أردت أن تبخلني ولم يجعلني الله بخيلاً. وقال: خياركم من يرجى خيره ولا يتقى شره، وشراركم من يتقى شره ولا يرجى خيره، فإن الله أكرمكم بالإسلام فزينوه بالسخاء وحسن الخلق.
وقال: الخير أسرع إلى البيت الذي يعشى من الشفرة إلى سنام البعير. وقال: إياكم والشح! فإنما أهلك من كان قبلكم، الشح! أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا. اللؤم كفر والكفر في النار. قال الله، عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " .
وقال: رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف. وقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تعطى صلة الحبل ولو شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحى الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تلقاه ووجهك إليه منطلق، وإن رجلاً سبك بأمر يعلمه فيك تعلم فيه نحوه فلا تسبه ليكون لك أجر ذلك ويكون عليه وزره.
وقال: إن الله جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف الطلب وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها أو يعفو الله عنه أكثره.
وقال: الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله أحسن الناس إلى عياله. وسأله رجل فقال: أي الناس أحب إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس. قال: فأي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إدخال سرور على مسلم، إطعام جوعته وكساء عورته وقضاء دينه.
وقال: إن الله، عز وجل، ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال ألا إن هذا لواء فلان. وقال له بعضهم: أخبرنا بخصال يعرف المنافق بها. فقال: من حلف فكذب ووعد فأخلف وخاصم ففجر واؤتمن فخان وعاهد فغدر.
وقال: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى أنه يقول له: فما منعك أن رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبده حجته قال: يا رب إني وثقت بك وخفت من الناس. وقال: من أعطي عطاء فوجد فليجزه، فإن لم يجزه فليثن به، ومن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره.
وقال له قوم من المهاجرين يا رسول الله إن إخواننا من الأنصار واسونا وبذلوا لنا وقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال: إلا ما أثنيتم به عليهم ودعوتم الله لهم. وقال: والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة. وقال: الهدية تذهب السخيمة وتجدد الأخوة وتثبت المودة. وقال: لو أهدى إلى كراع لقبلته، ولو دعيت إليه لأجبت.
وقال: ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته، وصدقة المؤمن ظله أو ظله من صدقته.
وروي عنه أنه قال: ما من الأعمال شيء أحب إلي من ثلاثة: إشباع جوعة المسلم وقضاء دينه وتنفيس كربته. من نفس عن مؤمن كربته نفس الله عنه كرب يوم القيامة، والله في عون عبده ما كان العبد في عون أخيه. وقال: إن المسألة لا تحل إلا الثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي عسر مفظع ولذي دم مفجع. وقال: من سأل وله أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فقد سأل الناس إلحافاً.
وسأله رجلان، وهو يقسم مغانم خيبر، فقال: لا حظ لغني ولا لقوي مكتسب.
وقال: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى. وقال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قيل: يا رسول الله ما يغنيه؟ قال: لغدائه أو لعشائه. وقيل له: يا رسول الله ما الغناء؟ قال: غداء وعشاء. وقال: من سأل عن ظهر غنى جاء يوم القيامة بوجهه كدوح يعرف بها. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظهر غنى؟ قال: قوت ليلة أو قوت يوم. وسأله حكيم بن حزام فأعطاه فقال: إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيب نفس بشير بورك له فيه ومن أخذه بإشراف لم يبارك له فيه فكان كأكل يأكل ولا يشبع.
وسأله الأنصار، فلم يسألوه شيئاً إلا أعطاهم حتى أنفدوا ما عنده، ثم قال: أما بعد يا معشر الأنصار ما يكن عندنا من خير فلن أؤخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يصبر يصبره الله ولن يعطى عبد أفضل ولا أوسع من الصبر. وقال: من يضمن لي خلة أضمن له الجنة. فقيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ألا تسأل أحداً شيئاً.
وقال لأبي ذر: يا أبا ذر أ رأيت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تنهض من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تتعفف. وقال: لا يفتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. وقال: الأيدي ثلاث: فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت. وقال لبعضهم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه فتموله أو تصدق به.
وقال: لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف. وقال: المسألة خروج في وجه الرجل يوم القيامة إلا أن يسأل سلطانه أو من لا بد منه. وقيل له: أي الصدقة أفضل؟
فقال: إن تصدق وأنت صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا. وقال: من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهو له صدقة، ومن سره الإنساء في الأجل والمد في الرزق فليصل رحمه. وقال: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وأتاه رجل فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأخاك وأختك وأدناك أدناك. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: من وقر أباه أطلت في أيامه ومن وقر أمه رأى لبنيه بنين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور.
وقال: من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة.
وقال: أربع من سنن المرسلين: الحياء والنكاح والحلم والسواك.
وقال: قال الله، سبحانه وتعالى: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لأولين عليكم شراركم ولأجعلن أموالكم في أيدي بخلائكم ولأمنعنكم قطر السماء ثم ليدعوني خياركم فلا أستجيب لهم، ويسترحموني فلا أرحمهم، ويستسقوني فلا أسقيهم.
وقال: أربع من كن فيه كمل إسلامه، وإن كان ما بين قرنه إلى قدمه خطأ: الأمر بالمعروف، والحياء، والشكر، وحسن الخلق. وأربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: إيواء اليتيم، ورحمة... ورفق بمملوكه، وشفق على والديه. وقال: التودد إلى الناس نصف الإيمان، والرفق نصف العيش، وما عال امرؤ وفى اقتصاده.
حجة الوداعوحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة 10، وهي حجة الإسلام. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزارا ورداء. وقيل: خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين وكان نساؤه جميعاً معه، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنة من الجانب الأيمن ثم ركب ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
وقال الواقدي عن الزهري عن سالم عن أبيه وعن الزهري في إسناد له عن سعد بن أبي وقاص قالا: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وقال بعضهم بالحج مفرداً. وقال بعضهم بحجة وعمرة.
ودخل مكة نهاراً من كداء، وهي عقبة المدنيين، على راحلته حتى انتهى إلى البيت. فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة. وخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة، حين زالت الشمس، على راحلته قبل الصلاة من غد يوم مني. فقال في خطبته: نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم بلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة الحق، واللزوم لجماعة المؤمنين، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. ودعا بالبدن فصفت بين يديه وكانت مائة بدنة، فنحر منها بيده ستين بدنة، وقيل أربعا وستين، وأعطى علياً سائرها، فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح، ثم أكل هو وعلي، وحسا من المرق، ورمى جمرة العقبة على ناقته، ووقف عند زمزم وأمر ربيعة بن أمية بن خلف فوقف تحت صدر راحلته، وكان صبياً، فقال: يا ربيعة! قل يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم هذا. هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أي شهر هذا؟ وهل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال الناس: نعم! هذا البلد الحرام والشهر الحرام واليوم الحرام. قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة يومكم هذا. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: واتقوا الله ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها. ثم قال: الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء لا فضل عربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا، ولكم هكذا، إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان آدم بن ربيعة مسترضعاً في هذيل، فقتله بنو سعد بن بكر، وقيل في بني ليث، فقتلته هذيل، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم: رجب الذي بين جمادى وشعبان يدعونه مضر، وثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: أوصيكم بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق كسوتهن ورزقهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحداً، ولا يأذن في بيوتكم إلا بعلمكم وإذنكم، فإن فعلن شيئاً من ذلك فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: فأوصيكم بمن ملكت أيمانكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن أذنبوا فكلوا عقوباتهم إلى شراركم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بعد اليوم، ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون، فقد رضي به، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: أعدى الأعداء على الله قاتل غير قاتله وضارب غير ضاربه، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد، ومن انتمي إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إلا إني إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق، وحسابهم على الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد منكم الغائب. ولم ينزل مكة، وقيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك؟ فقال: ما كنت لأنزل بلدا أخرجت منه. ولما كان يوم النفر دخل البيت، فودع ونزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. وخرج ليلاً منصرفا إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وقام خطيبا وأخذ بيد على بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
ثم قال: أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم، حين تردون على، عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي.
الوفاة
ولما قدم المدينة أقام أياماً وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشام، وروي عن أسامة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اغز يبنى من أرض فلسطين صباحا ثم أحرق. وروى آخرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يوطئ الخيل أرض البلقاء، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، وتكلم قوم وقالوا: حدث السن، وابن سبع عشرة سنة! فقال: لئن طعنتم عليه، فقبله طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للإمارة. واشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينفذ الجيش، وكان أسامة مقيماً بالجرف، فلما اشتدت عليه قال: أنفذوا جيش أسامة! فقالها مراراً، واعتل أربعة عشر يوماً، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ومن شهور العجم آذار، وكان قرآن العقرب.
قال، ما شاء الله، المنجم: كان طالع السنة التي توفي فيها رسول الله، وهو القرآن الرابع من مولده، الجدي ثماني عشرة درجة، والزهرة في... سبع عشرة درجة، والشمس في الحمل دقيقة، والقمر في الحمل درجتين وثلاثين دقيقة، وعطارد... إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة، والمشتري في الميزان ثلاثاً وعشرين درجة وأربع دقائق راجعاً، والمريخ في الجدي خمس دقائق. وقال: الخوارزمي: كانت الشمس يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجوزاء ست درجات، والقمر في الجوزاء ثلاثاً وعشرين، وزحل في القوس تسعاً وعشرين درجة، والمريخ في الحوت إحدى عشرة درجة، والزهرة في السرطان ثماني عشرة درجة، وعطارد في الجوزاء ثمانياً وعشرين درجة، والرأس في الجدي خمساً وعشرين درجة، وكان سنة ثلاثاً وستين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتا من البيت، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص، فقال: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، ويطهركم تطهيرا، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور، إن في الله خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة الله. فقيل لجعفر بن محمد: من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل! وكفن في ثوبين صحاريين وبرد حبرة، ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار: اجعلوا لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا في وفاته كما كان لنا في حياته! فقال علي: ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس بن خولي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الأنصاري، ولم يكن بالمدينة من يحفر غيره وغير أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد، فقيل إنهما سابقاً حفراً، فسبق أبو طلحة بالحفر، وصلى عليه أياماً، والناس يأتون ويصلون إرسالا، ودفن ليلة الأربعاء في بعض الليل، وطرحت تحته قطعة رحلة وكانت من أرجوان، وربع قبره ولم يسنم، ولما توفي قال الناس: ما كنا نظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت حتى يظهر على الأرض، وخرج عمر فقال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، وإنما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم. وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا فقال: إنك ميت، وإنهم ميتون. فقال عمر: والله لكأني ما قرأتها قط. ثم قال:
لعمري لقد أيقنت إنك ميت ... ولكنما أبدى الذي قلته الجزع
ولم يخلف من الولد إلا فاطمة، وتوفيت بعده بأربعين ليلة، وقال قوم بسبعين ليلة، وقال آخرون ثلاثين ليلة، وقال آخرون ستة أشهر، وأوصت علياً زوجها أن يغسلها، فغسلها وأعانته أسماء بنت عميس، وكانت تخدمها وتقوم عليها، وقالت: ألا ترين إلى ما بلغت؟ أفأحمل على سرير ظاهراً؟ قالت: لا لعمري، يا بنت رسول الله، ولكني أصنع لك شيئاً كما رأيته يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه! فأرسلت إلى جرائد رطبة فقطعتها، ثم جعلتها على السرير نعشاً، وهو أول ما كانت النعوش، فتبسمت، وما رئيت متبسمة إلا يومئذ، ودفنت ليلاً، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبو ذر، وقيل عمار. وكان بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينها في مرضها فقلن: يا بنت رسول الله! صيري لنا في حضور غسلك حظا! قالت: أتردن تقلن في كما قلتن في أمي؟ لا حاجة لي في حضوركن.
ودخل إليها في مرضها نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء قريش فقلن: كيف أنت؟ قالت: أجدني والله كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكم، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة، وكان سنها ثلاثاً وعشرين سنة.
صفة رسول اللهوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن الخلق، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيماً، قسيماً، لم يماشه أحد من الناس إلا طاله، وإن كان المماشي له طويلا، عظيم الهامة، رجل الشعر إن تفرقت عقيقته انفرقت فرقا، لا يجاوز شعره شحمة أذنه، أزهر اللون، مشرباً حمرة، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثافة، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وفي رأسه في فودى رأسه، سهل الخدين، ضليع الفم، حلو المنطق لا نزر ولا هدر، دقيق المسربة، معتدل الخلق، عريض الصدر والكتف، بعيد ما بين المنكبين، واسع الظهر، غير ما تحت الأزرار من الفخذ والساق، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري ما سوى ذلك من الشعر، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحتين، شثن الكفين والقدمين، شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب أو يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت معا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدأ من لقي بالسلام، وكان جل جلوسه القرفصى، وكان يأكل على الأرض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله! قال: لبيك، وإذا قال: يا أبا القاسم! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال: يا محمد! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يرده إلا بحاجته أو بميسور من القول.
المشبهون برسول اللهوكان المشبهون برسول الله جعفر بن أبي طالب. قال رسول الله: أشبهت خلقي وخلقي، والحسن بن علي. وكانت فاطمة تقول: بأبي! شبيه بأبي غير شبيه بعلي، ويقال: إن أبا بكر قال له، وقد لقيه في بعض طرق المدينة: بأبي! شبيه بالنبي غير شبيه بعلي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأسهد بن العبرة، وهاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، ومسلم بن معتب بن أبي لهب.
نسب الرسول وأمهاته إلى إبراهيموالعواتك والفواطم اللاتي ولدنه. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ابن تارح بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي.
وأم عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأم عبد المطلب، وهو شيبة الحمد بن هاشم، سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسمه زيد مناة، ويقال: بل اسمه تيم اللات، ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهتة ابن سليم.
وأم عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، حبي بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة. وأم قصي، واسمه زيد بن كلاب، فاطمة بنت سعد بن سيل بن عامر الجادر... من الأزد أزد شنوءة، وهم حلفاء بني نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. وأم مرة بن كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن الأسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم كعب بن لؤي وحشية بنت شيبان.
وأم لؤي بن غالب سلمى بنت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن خزاعة. وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن مضاض بن عامر بن دب بن جرهم.
وأم مالك بن النضر عاتكة، وهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. وأم النضر بن كنانة برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وأم كنانة بن خزيمة هند بنت قيس بن عيلان. وأم خزيمة بن مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار. وأم مدركة بن إلياس خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة. وأم إلياس بن مضر الحنفاء بنت أياد بن نزار بن معد بن عدنان. وأم مضر بن نزار شقيقة بنت عك بن عدنان بن أدد. وأم نزار بن معد ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب بن جرهم. وأم معد بن عدنان تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان... وأم أد بن أدد البعجا بنت عمرو بن تبع بن سعد ذي فائش ابن حمير. وأم أدد بن الهميسع حية بنت قحطان. وأم الهميسع بن يشجب حارثة بنت مراد بن زرعة بن ذي رعين بن حمير. وأم يشجب بن أمين قطامة بنت علي بن جرهم... وأم إسماعيل بن إبراهيم هاجر أمه كانت لسارة أم إسحاق، وهي قبطية، يزعم آخرون أنها رومية. وأم إبراهيم، وهو إبراهيم بن تارح، أدنيا بنت بر بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: أنا ابن العواتك، وربما قال: أنا ابن العواتك من سليم، واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا عشرة عاتكة: عشر منهن مضريات، وقحطانية وقضاعية، والمضريات: ثلاث من قريش وثلاث من سليم، وعدوانيتان، وهذلية، وأسدية، فأما القرشيات فولدته، من قبل أسد بن عبد العزى، أم أسد بن عبد العزى الحطيا، وهي ريطة بنت كعب ابن سعد بن تيم بن مرة، وأمها قبله بنت حذافة بن جمح، وأمها أميمة بنت عامر بن الحان بن الحارث، وهو غسان بن خزاعة، وأمها عاتكة بنت هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأم هلال بن وهيب عاتكة بنت عتواره بن الطرب بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة بن خزيمة.
وأما السليميات، فولدته، من قبل هاشم، أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم بن منصور، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان بن قصي بن خزاعة، ويقال: هي عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم.
وأما العدوانيتان فولدتاه من قبل أمهات أبيه عبد الله، ومن قبل مالك بن النضر، فأما التي ولدته من قبل عبد الله، فهي السابعة من أمهاته، ويقال الخامسة، وهي عاتكة بنت عامر بن ظرب بن عمرو بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، ومن قال: هي الخامسة، فيقول عاتكة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن ظرب بن عمرو، وأما العدوانية الثانية فأم مالك بن النضر بن كنانة، وهي عاتكة بنت عدوان بن عمرو ابن قيس بن عيلان.
وأما الهذلية فوالدته من قبل هاشم، وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال، وأمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت سعد بن هذيل.
وأما الأسدية فوالدته من قبل كلاب بن مرة، وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وأما القحطانية فوالدته من غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس بن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي الثالثة من أمهات النضر بن كنانة.
وأما القضاعية فوالدته من قبل كعب بن لؤي، وهي الثالثة من أمهاته، عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
تسميه من ولدنه من الفواطمقال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم أنه كان يكثر يوم حنين ويقول: أنا ابن الفواطم، فأخبرني النسابون أنه ولده من الفواطم أربع فواطم: قرشية، وقيسيتان، وأزدية، فأما القرشية، فوالدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والقيسيتان أم عمرو بن عائذ بن عمران، وهي فاطمة بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور، والأزدية أم قصي بن كلاب، وهي فاطمة بنت سعد بن سيل.
وكان عمال رسول الله، لما قبضه الله، على مكة: عتاب بن أسيد بن العاص، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوي التميمي. وبعضهم يقول مكان العلاء: أبان بن سعيد بن العاص، وعلى عمان عباد وجيفر ابنا الجلندا. وقال بعضهم: عمرو بن العاص، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري يفقهان الناس، وعلى مخاليف الجند وصنعاء المهاجر بن أبي أمية المخزومي، وعلى حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى مخاليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص، وعلى ناحية من نواحيها يعلى بن منية التميمي، وعلى نجران فروة ابن مسيك المرادي، وقال بعضهم: أبو سفيان بن حرب، وعلى صدقات أسد وطئ عدي بن حاتم، وعلى صدقات حنظلة مالك بن نويرة الحنظلي، وقال بعضهم: على صدقات بني يربوع، وعلى صدقات بني عمرو وتميم سمرة بن عمرو بن جناب العنبري، وعلى صدقات بني سعد الزبرقان بن بدر، وعلى صدقات مقاعس والبطون قيس بن عاصم.
خبر سقيفة بني ساعدةوبيعة أبي بكر واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله... يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه. وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر: منا الأمراء وأنتم الوزراء. فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة بن الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش.
ثم نادى أبو عبيدة: يا معشر الأنصار! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.
فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة وحتى وطئوا سعداً. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعداً.
وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة.
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، أنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيماناً وسابقة، ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبي، ومن ... جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به، ... وليس في القوم ما فيه من الحسن
فبعث إليه علي فنهاه. وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان ألفاًرسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمداً نبياً وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه المنيع وخطبة البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك... عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم.
فقال عمر بن الخطاب: إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم.
فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمداً كما وصفت نبيا وللمؤمنين ولياً، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضاً، ولا حللنا وسطاً، ولا برحنا سخطاً، وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من انهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقاً للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم، ... وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن، فاشدد بها كف حازم، ... فإنك بالأمر الذي يرتجي ملي
وإن امرأ يرمى قصي وراءه ... عزيز الحمى، والناس من غالب قصي
وكان خالد بن سعيد غائباً، فقدم فأتى علياً فقال: هلم أبايعك، فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم: اغدوا على هذا محلقين الرءوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر.
وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوماً.
أيام أبي بكروكانت بيعة أبي بكر يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر، في اليوم الذي توفي فيه رسول الله. واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يسمي عتيقاً لجماله، وأمه سلمى بنت صخر من بني تيم بن مرة، وكان منزله بالسنح خارج المدينة، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه، وكان له أيضاً منزل بالمدينة فيه أسماء بنت عميس، فلما ولي كان منزله المدينة، وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب ميراثها من أبيها، فقال لها: قال رسول الله: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. فقالت: أ في الله أن ترث أباك ولا إرث أبي؟ أما قال رسول الله: المرء يحفظ ولده؟ فبكى أبو بكر بكاء شديدا. وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه. وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره. فقال: فما تقول في نفسك؟ فقال: يا ابن أخي! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك. فخرج أسامة بالناس وشيعة أبو بكر فقال له: ما أنا بموصيك بشيء، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله. فنفذ أسامة، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوماً، أو أربعين يوماً، ثم دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى يدخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الأمر، فجلس دون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني! لا أقول إني أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملاً. وأثنى على الأنصار خيراً وقال: أنا وإياكم، معشر الأنصار كما قال القائل:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
فاعتزلت الأنصار عن أبي بكر، فغضبت قريش، وأحفظها ذلك، فتكلم خطباؤها، وقدم عمرو بن العاص فقالت له قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد عليهم ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعراً قاله، فخرج علي مغضباً حتى دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير، ورد علي عمرو بن العاص قوله. فلما علمت الأنصار ذلك سرها وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي، واجتمعت إلى حسان بن ثابت، فقالوا: أجب الفضل، فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني. فقالوا: فأذكر علياً فقط، فقال:
جزى الله خيراً، والجزاء بكفه، ... أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشاً بالذي أنت أهله ... فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة ... مكانك، هيهات الهزال من السمن
وأنت من الإسلام في كل منزل ... ... البطين من الرسن
وكنت المرجى من لؤي بن غالب ... لما كان منه والذي بعد لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده ... إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الإخاء ووصيه، ... وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن
وتنبأ جماعة من العرب، وارتد جماعة، ووضعوا التيجان على رؤوسهم، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي بكر.
وكان ممن تنبأ طليحة بن خويلد الأسدي بنواحيه، وكان أنصاره غطفان، ورئيسهم عيينة بن حصن الفزاري، والأسود العنسي باليمن، ومسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة، وسجاح بنت الحارث التميمية، ثم تزوجت بمسيلمة، وكان الأشعث بن قيس مؤذنها. فخرج أبو بكر في جيشه إلى ذي القصة. ودعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنك ذو رأي قريش، وقد تنبأ طليحة. فما ترى في علي؟ قال: لا يطيعك! قال: فالزبير؟ قال: شجاع حسن! قال: فطلحة؟ قال: للخفض والطعن! قال: فسعد؟ قال: محش حرب ! قال: فعثمان؟ قال: أجلسه واستعن برأيه! قال: فخالد بن الوليد؟ قال: بسوس للحرب، نصير للموت. له أناة القطاة، ووثوب الأسد. فلما عقد له قام ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر قريش، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له؟ أما والله ما نحن عمياً عما نرى، ولا صما عما نسمع، ولكن أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر، فنحن نصبر. وقام حسان فقال:
يا للرجال لخلفة الأطوار ... ولما أراد القوم بالأنصار
لم يدخلوا منا رئيساً واحداً ... يا صاح في نقض ولا إمرار
فعظم على أبي بكر هذا القول، فجعل على الأنصار ثابت بن قيس، وأنفذ خالداً على المهاجرين، فقصد طليحة ففرق جمعه، وقتل خلقا من أتباعه، وأخذ عيينة بن حصن، فبعث به إلى أبي بكر مع ثلاثين أسيراً، وهو مكبل بالحديد، فجعل الصبيان يصيحون به لما دخل المدينة: يا مرتد! فيقول: ما آمنت طرفة عين قط! فاستتابه وأطلق سبيله، ولحق طليحة بالشام، وجاور بني حنيفة، وبعث بشعر إلى أبي بكر يعتذر إليه، ويراجع الإسلام، يقول فيه:
فهل يقبل الصديق أني مراجع ... ومعط بما أحدثت من حدث يدي
وأني من بعد الضلالة شاهد ... شهادة حق لست فيها بملحد
فلما انتهى قوله إلى أبي بكر رق له، وبعث إليه، فرجع، وقد هلك أبو بكر، وقام عمر على قبره. وبعث به مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وأمره أن لا يستعمله.
وأما الأسود بن عنزة العنسي، فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله، وهو سكران، فقتلاه.
وقد كان أبو بكر عقد لشرحبيل بن حسنة، وأمره أن يقصد لمسيلمة الكذاب وألا يأتيه راية، ثم عقد لخالد وبعثه على شرحبيل، فكتب خالد إلى شرحبيل: ألا تعجل حتى آتيك! ونفذ خالد بن الوليد مسرعا إلى اليمامة، إلى مسيلمة الحنفي الكذاب، وكان قد أسلم ثم تنبأ في سنة 10، وزعم أنه شريك لرسول الله في النبوة، وكان كتب إلى رسول الله: أني أشركت معك، فلك نصف الأرض، ولي نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فكتب إليه رسول الله: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، فلقي خالد مجاعة في جماعة، فأسرهم وضرب أعناقهم، واستبقى مجاعة، وزحف إلى مسيلمة، فخرج مسيلمة فقاتله بمن معه من ربيعة وغيرها قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين خلق عظيم، ثم قتل مسيلمة في المعركة، طعنه أبو دجانة الأنصاري، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله، ورماه وحشي بحربته فقتله، وهو يومئذ ابن مائة وخمسين سنة.
وأتى مجاعة الحنفي إلى خالد، فأوهمه أن في الحصن قوما بعد، وقال: ما أتاك إلا سرعان الناس، ودعا إلى الصلح فصالحهم خالد على الصفراء والبيضاء ونصف السبي، ثم نظروا وليس في الحصن أحد إلا النساء والصبيان، فألبسهم السلاح ووقفهم على الحصون، ثم أشار إلى خالد فقال: أبو علي، فتأخذ الربع؟ ففعل ذلك خالد، وقبل منهم. فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان فقال: أمكراً يا مجاعة؟ قال: إنهم قومي. وأجاز لهم وافتتحت اليمامة، وهربت سجاح، فماتت بالبصرة.
وكان فتح مسيلمة في سنة إحدى عشر وقتل في شهر ربيع الأول سنة إثنا عشر. وخطب خالد إلى مجاعة ابنته، فزوجه إياها، فكتب إليه أبو بكر: تتوثب على النساء وعند أطناب بيتك دماء المسلمين؟
وأمر أبو بكر خالداً أن يسير إلى أرض العراق، فسار ومعه المثنى بن حارثة، حتى صار إلى مدينة بانقيا، فافتتحها وسبى من فيها، ثم صار إلى مدينة كسكر، فافتتحها وسبى من فيها، ثم سار حتى لقي بعض ملوك الأعاجم يقال له جابان، فهزمه وقتل أصحابه، ثم سار حتى انتهى إلى فرات بادقلى يريد الحيرة، وملكها النعمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم النعمان فلحق بالمدائن، ونزل خالد الخورنق، وسار حتى صير الحيرة خلف ظهره، وكانوا على محاربته، ثم دعوا إلى الصلح، فصالحهم على سبعين ألفاً عن رؤوسهم، وقيل مائة ألف درهم.
وتجرد أبو بكر لقتال من ارتد، وكان ممن ارتد، وممن وضع التاج على رأسه من العرب، النعمان بن المنذر بن ساوي التميمي بالبحرين، فوجه العلاء بن الحضرمي فقتله، ولقيط بن مالك ذو التاج بعمان وجه إليه حذيفة ابن محصن فقتله بصحار من أرض عمان.
وكان ذو التاج... من بني ناجية وبشر كثير من عبد القيس، فقتل الله ذا التاج، وسبى المسلمون ذراريهم، وبعثوا بها إلى أبي بكر، فباعها بأربعمائة درهم، ثم وجه لقتال من منع الزكاة، وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم. وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن نويرة اليربوعي، فسار إليهم، وقيل إنه كان نداهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره، واتبعته امرأته، فلما رآها خالد أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك، فنظر مالكاً، فضرب عنقه، وتزوج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر، فأخبره الخبر، وحلف ألا يسير تحت لواء خالد لأنه قتل مالكاً مسلماً. فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إن خالدا قتل رجلاً مسلماً، وتزوج امرأته من يومها. فكتب أبو بكر إلى خالد، فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إني تأولت، وأصبت، وأخطأت.
وكان متمم بن نويرة شاعراً فرثى أخاه بمراث كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر، فصلى خلف أبي بكر صلاة الصبح، فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فاتكأ على قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
فقال: ما دعوته ولا غدرت به. وكتب أبو بكر إلى زياد بن لبيد البياضي في قتال من ارتد باليمن. ومنع الزكاة. فقاتلهم وكان لكندة ملوك عدة يتسمون بالملك، ولكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره، فأغار زياد ليلاً، وهم في محاجرهم، فأصاب الملوك: جمداً ومخوصاً ومشرحاً وأبضعة، وسبى النعم وسبايا كثيرة، فعارضهم الأشعث بن قيس، فانتزع السبايا من أيديهم. وانتهى إلى أبي بكر بارتداد الأشعث، وما فعل، فوجه عكرمة بن أبي جهل في جيش لمحاربتهم، فوافى وقد حصرهم زياد بن لبيد والمهاجر بن أبي أمية، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فقال المهاجر وزياد لمن معهما: قد قدم إخوانكم من الحجاز، فأشركوهم، وأعطوهم، وطلب الأشعث الصلح، وأخذ الأمان لعشيرته، ونسي نفسه، فلما قرأ عكرمة الصحيفة وليس فيها اسم الأشعث كبر وأخذه، فأتى به أبا بكر في وثاق، فمن عليه أبو بكر، وأطلق سبيله، وزوجه أم فروة أخته.
وأراد أبو بكر أن يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب، فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت. فقال: بشرت بخير! فقام أبو بكر في الناس خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين يا ابن الخطاب، فما يمنعك أنت ما عبت علينا فيه؟ فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه فقال: ما عندنا إلا الطاعة، فجزاه أبو بكر خيراً، ثم نادى في الناس بالخروج، وأميرهم خالد بن سعيد، وكان خالد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمن، فقدم وقد توفي رسول الله، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر لخالد قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو الله ما أرى أن توجهه. فحل لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة.
وقدمت عليه العشائر من اليمن، فأنفذهم جيشاً بعد جيش، فلما قدمت الجيوش الشام كتب إليه أبو عبيدة يعلمه إقبال ملك الروم في خلق عظيم، فجعل يسرح إليه الجيش بعد الجيش، والأول فالأول ممن يقدم عليه من قبائل العرب، ثم تتابعت عليه كتب أبي عبيدة بكل أخبار جمع الروم، فوجه أبو بكر عمرو بن العاص في جيش من قريش وغيرهم، ثم كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ويخلف المثنى بن حارثة بالعراق، فنفذ خالد في أهل القوة ممن كان معه، وخلف المثنى بن حارثة الشيباني في بقية الجيش بالعراق. وسار خالد نحو الشام، فلما صار إلى عين التمر لقي رابطة لكسرى عليهم عقبة بن أبي هلال النمري، فتحصنوا منه، ثم نزلوا على حكمه، فضرب عنق النمري. ثم سار حتى لقي جمعا لبني تغلب عليهم الهذيل بن عمران، فقدمه فضرب عنقه، وسبى منهم سبايا كثيرة بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلاماً، وصار إلى الأنبار، فأخذ دليلا يدله على طريق المفازة، فمر بتدمر، فتحصن أهلها، فأحاط بهم، ففتحوا له وصالحهم، ثم مضى إلى حوران، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقيل: إن خالدا سار في البرية والمفازة ثمانية أيام حتى وافاهم، فافتتحوا بصرى، وفحل، وأجنادين من فلسطين.
وكانت بينهم وبين الروم وقعات بأجنادين صعبة في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين.
وروى بعضهم: أن خالد بن الوليد صار إلى غوطة دمشق، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب، فبها سميت ثنية العقاب، وصار إلى حوران، فقصد مدينة بصرى فحاربهم، فسألوه الصلح، فصالحهم، ثم صار إلى أجنادين، وبها جمع للروم، فحاربهم محاربة شديدة، وتفرق جمع الكفرة. وكانت وقعة أجنادين يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاثة عشر.
وبعث أبو بكر عثمان بن أبي العاص، وندب معه عبد القيس، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها، وافتتح مكران وما يليها، ووجه العلاء ابن الحضرمي في جيش، فافتتح الزارة وناحيتها من أرض البحرين، وبعث إلى أبي بكر بالمال، فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس بين الأحمر والأسود، والحر والعبد، دينارا لكل إنسان.
وقدم إياس بن عبد الله بن الفجاءة السلمي على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله! إني قد أسلمت، فأعطاه أبو بكر سلاحا، فخرج من عنده، فبلغه أنه يقطع الطريق، فكتب إلى طريفة بن حاجزة: أن عدو الله ابن الفجاءة خرج من عندي، فبلغني أنه قطع الطريق، وأخاف السبيل، فسر إليه حتى تأخذه. وتقدم طريفة، فسار إليه، فقتل قوماً من أصحابه، ثم لقيه، فقال: إني مسلم، وإنه مكذوب علي! فقال طريفة: فإن كنت صادقا، فاستأسر حتى تأتي أبا بكر فتخبره! فاستأسر. فلما قدم به على أبي بكر أخرجه إلى البقيع فحرقه بالنار، وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء كان ينكح...
وقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو جمعت القرآن، فإني أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقاً في الجريد وغيرها، وأجلس خمسة وعشرين رجلاً من قريش، وخمسين رجلاً من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، وأعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح.
وروى بعضهم أن علي بن أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء، فالجزء الأول البقرة، وسورة يوسف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وحم السجدة، والذاريات، وهل أتى على الإنسان، والم تنزيل السجدة، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت، وسبح اسم ربك الأعلى، ولم يكن، فذلك جزء البقرة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الثاني: آل عمران، وهود، والحج، والحجر، والأحزاب، والدخان، والرحمن، والحاقة، وسأل سائل، وعبس، والشمس وضحاها، وإنا أنزلناه، وإذا زلزلت، وويل لكل همزة، وألم تر، ولإيلاف قريش، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الثالث: النساء، والنحل، والمؤمنون، ويس، وحمعسق، والواقعة، وتبارك الملك، ويا أيها المدثر، وأ رأيت، وتبت، وقل هو الله أحد، والعصر، والقارعة، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، وطس النمل، فذلك جزء النساء ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الرابع: المائدة، ويونس، ومريم، وطسم الشعراء، والزخرف، والحجرات، وق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة، والممتحنة، والسماء والطارق، ولا أقسم بهذا البلد، وألم نشرح لك، والعاديات، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل يا أيها الكافرون، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الخامس: الأنعام، وسبحان، واقترب، والفرقان، وموسى وفرعون، وحم المؤمن، المجادلة، والحشر، والجمعة، والمنافقون، ون والقلم، وإنا أرسلنا نوحاً، وقل أوحي إلي، والمرسلات، والضحى، وألهاكم، فذلك جزء الأنعام ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة.
الجزء السادس: الأعراف، وإبراهيم، والكهف، والنور، وص، والزمر، والشريعة، والذين كفروا، والحديد، والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة، وعم يتساءلون، والغاشية، والفجر، والليل إذا يغشى، وإذا جاء نصر الله، فذلك جزء الأعراف ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء السابع: الأنفال، وبراءة، وطه، والملائكة، والصافات، والأحقاف، والفتح، والطور، والنجم، والصف، والتغابن، والطلاق، والمطففين، والمعوذتين، فذلك جزء الأنفال ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
وقال بعضهم: إن علياً قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع أمثال، وربع محكم ومتشابه. وقسم أبو بكر بين الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وكان يأخذ في كل يوم من بيت المال ثلاثة دراهم أجرة، وكان تسمى خليفة رسول الله.
واعتل أبو بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر. فلما اشتدت به العلة عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر عثمان أن يكتب عهده، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، أما بعد، فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا، وأطيعوا، وإني ما ألوتكم نصحاً، والسلام. وقال لعمر بن الخطاب: يا عمر، أحبك محب وأبغضك مبغض، فلئن أبغض الحق، فلقديما ما، ولئن استمر في الباطل، فلربما.
ودخل عبد الرحمن بن عوف في مرضه الذي توفي فيه، فقال: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت موليا، وقد زدتموني على ما بي إن رأيتموني استعملت رجلاً منكم فكلكم قد أصبح وارم أنفه، وكل يطلبها لنفسه. فقال عبد الرحمن: والله ما أعلم صاحبك إلا صالحاً مصلحاً، فلا تأس على الدنيا! قال: ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها، وثلاث لم اصنعها ليتني كنت صنعتها، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأما الثلاث التي صنعتها، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الأمر. وقدمت عمر بين يدي، فكنت وزيرا خيراً مني أميرا، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله الرجال، ولو كان أغلق على حرب، وليتني لم أحرق الفجاءة السلمي، إما أن أكون قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً، والثلاث التي ليت أني كنت فعلتها، فليتني قدمت الأشعث بن قيس تضرب عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئاً من الشر إلا أعان عليه، وليت أني بعثت أبا
عبيدة إلى المغرب وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله، وليت أني ما بعثت خالد بن الوليد إلى بزاخة، ولكن خرجت فكنت ردا له في سبيل الله. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: فلمن هذا الأمر، فلا ينازعه فيه، وهل للأنصار فيه من شيء، وعن العمة والخالة أتورثان أو لا ترثان، وإني ما أصبت من دنياكم بشيء، ولقد أقمت نفسي في مال الله وفيء المسلمين مقام الوصي في مال اليتيم إن استغنى تعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف، وإن والي الأمر بعدي عمر بن الخطاب، وإني استسلفت من بيت المال مالاً، فإذا مت فليبع حائطي في موضع كذا وليرد إلى بيت المال.
وأوصى أبو بكر بغسله أسماء بنت عميس امرأته، فغسلته ودفن ليلاً، وورثه أبو قحافة السدس. وكان الغالب على أبي بكر عمر بن الخطاب، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة، ومن شهور العجم في آب، وقيل لليلتين بقيتا منه سنة ثلاثة عشر، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن في البيت الذي فيه قبر رسول الله، وكان له يوم توفي ثلاث وستون سنة، وكان له من الولد الذكور ثلاثة توفي أحدهم في حياته، وهو عبد الله، وخلف اثنين محمداً وعبد الرحمن، وكان حاجبه مولاه سديدا، وكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر، وحج بالناس سنة اثنا عشر.
وكان عمال أبي بكر لما توفي: عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ورجلاً من الأنصار على اليمامة، وحذيفة بن محصن على عمان، والعلاء بن الحضرمي على البحرين، وخالد بن الوليد على جيش الشام، والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة، وسويد بن قطبة على البصرة. صفة أبي بكر: وكان أبو بكر أبيض، نحيفاً، خفيف العارضين، أحنى، لا يستمسك إزاره على حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، عاري الأشاجع، يخضب لحيته بالحناء والكتم.
وكان من يؤخذ عنه الفقه، في أيام أبي بكر، علي بن أبي طالب، وعمر ابن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن مسعود.
أيام عمر بن الخطابثم استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل لسبع بقين منه سنة ثلاثة عشر، وكان ذلك من شهور العجم في آب، وكانت الشمس يومئذ في الأسد ست عشرة درجة، والقمر في العقرب أربعاً وعشرين درجة وعشر دقائق، وزحل في القوس ثلاثين درجة راجعاً، والمشتري في الحوت تسع درج وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الثور إحدى وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في الحوت تسع درجات، وعطارد في السنبلة عشر درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في القوس اثنتي عشرة درجة وخمساً وثلاثين دقيقة، فصعد المنبر، فجلس دون مجلس أبي بكر بمرقاة، وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر، وفضله، وترحم عليه، ثم قال: ما أنا إلا رجل منكم، ولو لا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم. فأثنى الناس عليه خيراً.
وكان أول ما عمل به عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة على العرب، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وكتب بعقده وولايته الشام مكان خالد بن الوليد مع شداد بن أوس، وصير خالداً موضع أبي عبيدة، وكان عمر سيء الرأي في خالد، على أنه ابن خاله، لقول كان قاله في عمر، وقد كان خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فتحوا مرج الصفر من أرض دمشق، وحاصروا مدينة دمشق، قبل وفاة أبي بكر، بأربعة أيام، فستر أبو عبيدة الخبر عن خالد، حتى ورد كتاب ثان من عمر على أبي عبيدة يأمره أن يتوجه إلى حمص ونواحي الشام، فعلم بذلك خالداً، فقال: رحم الله أبا بكر! لو كان حيا ما عزلني.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن كذب خالد نفسه فيما كان قاله عمله، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله. فشاور خالد أخته، فقالت: والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك، ثم ينزعك من عملك، فلا تفعلن. فلم يكذب نفسه، فقام بلال فنزع عمامته وشاطره أبو عبيدة ماله، حتى نعله فأفرد واحدة عن الأخرى.
وأقاموا على ما كانوا عليه في حصار دمشق حولاً كاملاً وأياماً، وكان أبو عبيدة بباب الجابية، وخالد بباب الشرقي، وعمرو بن العاص بباب توما، ويزيد بن أبي سفيان بباب الصغير، فلما طال على صاحب دمشق الأمر أرسل إلى أبي عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على باب الشرقي لما بلغه أن أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم، وأن القوم قد وثقوا به للصلح، ففتحه عنوة، فقال خالد لأبي عبيدة: اسبهم، فإني دخلتها عنوة! فقال: لا، قد أمنتهم! ودخل المسلمون المدينة، وتم الصلح، وذلك في رجب سنة أبع عشر. وروى الواقدي أن خالد بن الوليد صالحهم، وكتب للأسقف كتابا للصلح، وأعطاهم الأمان، فأجاز أبو عبيدة ذلك.
وفي هذه السنة سن عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يصليا بالناس، فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله، فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة.
ووجه أبو عبيدة عمرو بن العاص إلى الأردن وفلسطين، فجمع القوم جموعاً ليدفعوا عمراً وأصحابه، فوجه أبو عبيدة إلى عمرو شرحبيل بن حسنة، وتوجه أبو عبيدة نحو جمع الروم، ففتح الأردن عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه على إنصاف منازلهم وكنائسهم، وكان المتولي لذلك شرحبيل بن حسنة.
وقد كان الروم لما بلغهم إقبال أبي عبيدة تحولوا إلى فحل، فعبأ أبو عبيدة المسلمين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعد بن زيد، وعلى الخيل خالد بن الوليد. وأقبلت الروم، فكان أول من لقيهم خالد فهزم الله الروم، وطلبوا الصلح على أن يؤدوا الجزية، فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك، وانصرف، وخلف عمرو بن العاص على باقي الأردن، ووجه بخالد على مقدمته إلى بعلبك وأرض البقاع، فافتتحها وصار إلى حمص، ولحقه أبو عبيدة، فحصروا أهل حمص حصاراً شديداً، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم عن جميع بلادهم على أن عليهم خراجاً مائة وسبعين ألف دينار، ثم دخل المسلمون المدينة، وبث أبو عبيدة عماله في نواحي حمص.
ثم أتاه خبر ما جمع طاغية الروم من الجموع في جميع البلدان، وبعثه إليهم من لا قبل لهم به، فرجع إلى دمشق، وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، وكتب إليهم عمر أنه قد كره رجوعكم من أرض حمص إلى دمشق، وجمع أبو عبيدة إليه المسلمين، وعسكر باليرموك، وكان جبلة بن الأيهم الغساني على مقدمة الروم في جيش من قومه، وجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد على مقدمته، فواقع المشركين، ولقي ماهان صاحب الروم، واقتتلوا قتالاً شديدا، ولحقه أبو عبيدة والمسلمون، وكانت وقعة جليلة الخطب، فقتل من الروم مقتلة عظيمة وفتح الله على المسلمين، وكان ذلك في سنة خمس عشر.
وأوفد أبو عبيدة إلى عمر وفدا فيهم حذيفة بن اليمان، وقد كان عمر أرق عدة ليال، واشتد تطلعه إلى الخبر، فلما ورد عليه الخبر خر ساجدا وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة، فو الله لو لم يفتح لقال قائل: لو كان... خالد بن الوليد.
ورجع أبو عبيدة إلى حمص ووجه بخالد في آثار الروم حتى صار إلى قنسرين. وانتهى إلى حلب، فتحصن أهلها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليها، وطلبوا الصلح والأمان، فقبل أبو عبيدة ذلك منهم، وكتب لهم أماناً، ووجه بمالك بن الحارث الأشتر على جمع إلى الروم، وقد قطعوا الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه.
ورجع أبو عبيدة نحو الأردن، فحاصر أهل إيلياء، وهي بيت المقدس، فامتنعوا عليه وطاولوه، ووجه أبو عبيدة عمرو بن العاص إلى قنسرين، فصالحهم أهل حلب، وقنسرين، ومنبج، ووضع عليهم الخراج على نحو ما فعل أبو عبيدة بحمص، وجمعت غنائم اليرموك بالجابية، وكتبوا إلى عمر، فكتب إليهم: لا تحدثوا فيها حدثاً، حتى تفتحوا بيت المقدس.
وكان جبلة بن الأيهم الغساني لما انهزمت الروم من اليرموك صار إلى موضعه في جماعة قومه، فأرسل إليه يزيد بن أبي سفيان أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية، فقال: إنما يؤدي الجزية العلوج، وأنا رجل من العرب.
وكان عمر قد بعث أبا عبيد بن مسعود الثقفي في جيش مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى العراق، وكان كسرى قد توفي، وقامت بوران ابنته بالملك، وصيرت رستم والفيرزان القيمين بأمر الملك، وكانا ضعيفين مهينين، فتقدم أبو عبيد الثقفي، فلقي مسلحة من مسالح الفرس، فأوقع بهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، ثم أظفر الله المسلمين بهم، ومنحهم أكتافهم.
وبعث إليهم رستم، لما بلغه الخبر، برجل يقال له جالينوس، فالتقوا بموضع يقال له باروسما، فانهزمت الفرس، وافتتح أبو عبيد باروسما، فوجه إليهم رستم بذي الحاجب، وبعث معه بالفيل، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فجعلت خيل المسلمين تنفر من الفيل، فشد عليه أبو عبيد الثقفي بالسيف، فقطع مشفره، وبرك عليه الفيل فقتله، وقام بالجيش المثنى بن حارثة الشيباني، فلما انتهى الخبر إلى عمر اشتد غمه بذلك.
وقدم جرير بن عبد الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، رئيسهم عرفجة بن هرثمة، حليف لهم من الأزد، فأمرهم عمر بالنفوذ إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فغضب جرير وقال: والله ما الرجل منا! فقال عرفجة: صدق! فوجه عمر جرير بن عبد الله، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع مرزبان المذار، فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة، ثم صار إلى النخيلة، وبها مهران في جمعه، فواقعه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وشد المنذر بن حسان على مهران فطعنه فألقاه عن دابته، فبادر جرير فاحتز رأسه، فاختصما في سلبه، فأخذ جرير السلاح، والمنذر المنطقة، وذلك في سنة أربع عشر.
فلما رأت الفرس ما هم فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم اجتمعوا على قتل رستم والفيرزان، ثم قالوا: إن في هذا أشتاتاً لأمرنا، فطلبوا ابن كسرى حتى وجدوا يزدجرد، وهو ابن عشرين سنة، فملكوه عليهم، فضبط أمورهم، وحسن تدبيره، واشتدت المملكة، وقوي أمر الفرس، وأخرجوا المسلمين عن المروج، فارتد أهل السواد وخرقوا العهود التي كانت في أيديهم، وصار المسلمون في الأطراف، فلما بلغ ذلك عمر أراد الخروج إلى العراق، ثم استشار، فأشير عليه بسعد بن أبي وقاص، فوجهه بثمانية آلاف، فسار حتى نزل القادسية، ووجه عتبة بن غزوان إلى كور دجلة والأبلة وأبر قباذ وميسان ففتحها، واختط البصرة، وبنى مسجدها بالقصب، وقد قيل: إن عمر وجهه لذلك.
وأقام سعد بالقادسية، ثم ظفر المسلمون ببنت آزاذمرد، وهي تزف إلى بعض الملوك وأخذوا ما كان معها من الأموال والأثقال، وفرقوها على المسلمين فطابت أنفسهم، وحسنت قوتهم.
ثم وجه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرن وجماعة معه يدعونه إلى الإسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوة إلى الإسلام وإلى شهادة الحق وإلى أداء الجزية، فأغضبه ذلك، ودعا بتليس تراب فقال: احملوه على رأس سيدهم، فلو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتهم. فقال عاصم بن عمرو التميمي: أنا سيد القوم، فحملوه التراب، فمضى مسرعاً، وقال: قد ظفرنا والله بهم، ووطئنا أرضهم. وبلغ رستم الخبر، فغلظ ذلك عليه، وقال: ما لابن الحجامة ولتدبير الملك. ويقال: إن أم يزدجرد كانت حجامة، ثم وجه رسلاً في آثارهم، ففاتوا الرسل. فاشتد رعب كسرى والفرس منهم، وأمر رستم أن يتوجه إليهم، فكره ذلك، فحمل عليه بالقول حتى خرج وهو مكره، فلما صار إلى النجف وجه إلى سعد أن ابعث إلي بقوم من عندكم لأناظرهم، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة، وبشر بن أبي رهم، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة ابن محصن، وربعي بن عامر، وقرفة بن زاهر، ومذعور بن عدي، ومضارب بن يزيد، وشعبة بن مرة، وكانوا من دهاة العرب، فدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يقول كل واحد منهم مثل مقالة صاحبه، ويدعونه إلى الإسلام، أو أداء الجزية، فتبينوا فيه أنه يهوى الدخول في الإسلام، ويخاف من أصحابه، وكلما عرض على واحد منهم لم ير عنده مسارعة، ثم خرج رستم في التعبية للجيش، وجلس على سرير من ذهب، وأقام مصافه، وعدل أصحابه، وأيقن بالهلكة. وكان منجماً، وكتب إلى أخيه: بسم الله ولي الرحمة، من الإصبهبد رستم إلى أخيه، أما بعد، فإني رأيت المشتري في هبوط، والزهرة في علو، وهو آخر العهد منك. والسلام عليك الدهر الدائم.
وخطب سعد بن أبي وقاص المسلمين، فرغبهم في الجهاد، وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين، ورغب كل رجل من المسلمين صاحبه، وأنشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر، واقتتلوا قتالاً شديداً وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم، وكان سعد يومئذ عليلاً فصار إلى قصر العذيب فنزله، وتحصن فيه، فبلغ رستم فوجه خيلاً، فأحدقت بالقصر، فلما بلغ المسلمين ذلك صاروا إلى القصر، فانهزم أصحاب رستم، ثم أصبحوا من غد، فوافاهم ستة آلاف من جيش أبي عبيدة بن الجراح، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد: خمسة آلاف من مضر وربيعة، وألف من أفناء المسلمين، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان فتح الشام قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، وأخرج رستم الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا أعينها، وقطعوا مشافرها.
وزحف المسلمون وأصبحوا، في اليوم الرابع، وللمسلمين العلو، وقتل رستم، وقع عليه عدل كان على بغل فقتله، وكان الذي طرح عليه العدل هلال ابن علفة، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي إلي! وقيل: قتله زهير بن عبد شمس ابن أخي جرير بن عبد الله، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانكشفوا مدبرين، وجمعت الأموال والأسلاب وبيع سلب رستم، فبلغ سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفاً، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة، ورضخ لعيال الشهداء من صلب الفيء، ورضخ للنساء من صلب الفيء، فأما العبيد فإنهم عفوا، وأوفد سعد إلى عمر وفدا، فأجازهم عمر ثمانين ديناراً ثمانين ديناراً.
وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر سبعون رجلاً، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد الفتح مائة وعشرون، ومن أصحاب رسول الله مائة. ونفرت جميع الفرس إلى المدائن منهزمين لا يلوون على شيء، ويزدجرد الملك بها، فأتبعهم سعد بالمسلمين، فحاصرهم شهراً وخمسة عشر يوماً، ثم خرج الفرس هاربين، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك كان في سنة ستة عشر.
وفيها أرخ عمر الكتب، وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه على بن أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة.
وتوجه عتبة بن غزوان إلى عمر، واستخلف على البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، والمغيرة بن شعبة في الجيش، فلما شخص عتبة جاء من كان بميسان، ومن كان بكور دجلة من الأعاجم، وعليهم الفيلكان، فجمع لهم المغيرة بن شعبة عدة من المسلمين، فسار بهم حتى لقي الأعاجم بميسان، فهزمهم وسبى أهلها عنوة، وكتب المغيرة بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لعتبة: استعمل أهل الوبر على أهل المدر، وكتب إلى المغيرة: إنك خليفة عتبة بن غزوان حتى يقدم عتبة، وخرج عتبة من عند عمر، فلما كان بين المدينة والبصرة توفي عتبة، فكتب عمر إلى المغيرة بولايته على البصرة.
فلما كانت وقعة القادسية صار المغيرة إلى سعد ثم رجع إلى عمله، وكان يختلف إلى امرأة من بني هلال يقال لها: أم جميل زوجة الحجاج بن عتيك الثقفي، فاستراب به جماعة من المسلمين، فرصده أبو بكر، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وزياد بن عبيد، حتى دخل إليها فرفعت الريح الستر فإذا به عليها، فوفد على عمر، فسمع عمر صوت أبي بكرة وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم. قال: لقد جئت ببشر؟ قال: إنما جاء به المغيرة. ثم قص عليه القصة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا مكانه، وأمره أن يشخص المغيرة، فلما قدم عليه جمع بينه وبين الشهود، فشهد الثلاثة، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلاً من أصحاب محمد، فلما دنا قال: ما عندك يا سلح العقاب؟ قال: رأيت أمراً قبيحاً، وسمعت نفساً عالياً، ورأيت أرجلاً مختلفة، ولم أر الذي مثل الميل في المكحلة. فجلد عمر أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد إن المغيرة زان، فأراد عمر أن يجلده ثانية، فقال له: علي إذا توفي صاحبك حجارة. وكان عمر إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله بالحجارة. وكان بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وستون رجلاً.
رجع الحديث إلى خبر أبي عبيدة بن الجراح وحصاره أهل بيت المقدس لأنا جعلنا كل خبر في سنته ووقته. وكتب أبو عبيدة إلى عمر يعلمه مطاولة أهل إيلياء وصبرهم، وقال بعضهم: إن أهل إيلياء سألوه أن يكون الخليفة المصالح لهم، فأخذ عليهم العقود والمواثيق، وكتب إلى عمر فخرج إلى الشام، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقرب خالدا، وأدناه، وأمره. فسار في الناس على مقدمته، وذلك في رجب سنة ستة عشر، فنزل الجابية من أرض دمشق ثم صار إلى بيت المقدس، فافتتحها صلحاً، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم، وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً، وأشهد شهوداً، وأتاه عمرو بن العاص بالطلاء فقال: كيف يصنع هذا؟ فقال: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه، فقال: ما أرى بذلك بأساً.
واختلف القوم في صلح بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: النصارى، والمجمع عليه النصارى، وقام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي، وما يجد ذلك عامة الناس. فأخذ عمر أمراء الشام بأن ضمنوا له القوت للمسلمين في كل يوم خبزين لكل رجل وما يصلحه من الخل والزيت، وأمر عمر أن تقسم الغنائم بين الناس بالسوية خلا لخم وجذام، وقال: لا أجعل من خرج من الشقة إلى عدوه كمن خرج من بيته. فقام إليه رجل فقال: إن كان الله جعل الهجرة إلينا فخرجنا من بيوتنا إلى عدونا نحرم حظنا.
ومر عمر راجعا إلى المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم، فخلى سبيلهم. فأتاه جبلة بن الأيهم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع بالعرب؟ قال: بل الجزية، وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفاً من قومه، حتى لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره.
ووجه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين تأذن لي في أن أصير إلى مصر، فإنا إن فتحناها كانت قوة للمسلمين، وهي من أكثر الأرض أموالا، وأعجزه عن القتال، ولم يزل يعظم أمرها في نفسه، ويهون عليه فتحها، حتى عقد له على أربعة آلاف كلهم من عك، وقال له: سيأتيك كتابي سريعاً، فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخل شيئاً من أرضها، فانصرف، فإن دخلتها ثم جاءك كتابي فامض، واستعن بالله.
وسار عمرو مسرعاً، فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب، ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية؟ قالوا: من مصر! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئاً من أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحواً من ثلاثة أشهر، ثم فتح الله عليه، ومضى حتى صار إلى أم دنين، فقاتلوه قتالاً شديداً، وأبطأ عنه الفتح، وكتب إلى عمر يستمده، فوجه بأربعة آلاف، وكتب إليه: أنه قد صير على كل ألف رجل رجلاً يقوم مقام ألف رجل منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، وقيل مسلمة بن مخلد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم قال الزبير: إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع السلم ليلاً إلى جانب الحصن، ثم اقتحم معه جماعة، وكبر المسلمون، فلما استحر القتل دعوا إلى الصلح، فقال بعضهم: صالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل، وقيل لم يكن صلح، وإنما افتتح عنوة.
ثم مضى حتى صار إلى الإسكندرية وبها جموع الروم، وعليها ثلاثة حصون، فقاتلوه قتالاً شديداً، فطالت المدة بينهم ثلاثة أشهر. وكان المقوقس قد سأل عمرا أن يصالحه عن الإسكندرية على أن يطلق من أراد منهم أن يمضي إلى بلاد الروم، ومن أقام فعليه ديناران خراج، فأجابه إلى ذلك، فلما بلغ هرقل ملك الروم غضب...
فقال المقوقس: إني قد نصحت لهم فاستغشوني، فلا تجبهم إلى ما أجبتني إليه.
وخرج عمر إلى مكة سنة سبع عشر، فاعتمر عمرة رجب، ووسع المقام، وباعده من البيت، ووسع الحجر، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، واشترى من قوم منازلهم، وامتنع آخرون، فهدم عليهم ووضع أثمان منازلهم في بيت المال. وكان فيما هدم بيت العباس بن عبد المطلب، فقال له: تهدم داري؟ قال: لأوسع بها في المسجد الحرام! فقال العباس: سمعت رسول الله يقول: إن الله أمر داود أن يبني له بيتا بإيلياء فبناه ببيت المقدس، وكان كلما ارتفع البناء سقط فقال داود: يا رب إنك أمرتني أن أبني لك بيتا، وإني كلما بنيت سقط البناء، فأوحى الله إليه: أني لا أقبل إلا الطيب، وإنك بنيت لي في غصب، فنظر داود فإذا قطعة أرض لم يكن شراها، فابتاعها من صاحبها بحكمة، ثم بنى فتم البناء. قال: ومن يشهد أنه سمع هذا من رسول الله؟ فقام قوم فشهدوا. قال: فتحكم إلينا يا أبا الفضل، وإلا أمسكنا؟ قال: فإني قد تركتها لله. وانصرف عمر بعد عشرين يوماً، وكان العباس يسايره، وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له: تقدمتك، وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم قوم... فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة، ونضعف على الخلافة.
ثم خرج يريد الشام حتى بلغ إلى سرغ، فبلغه أن الطاعون قد كثر، فرجع، فلقيه أمراء الشام، وكلمه أبو عبيدة بن الجراح أشد كلام، وقال: أفرار من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله. وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: أنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله. فتزوجها، وأمهرها عشرة آلاف دينار. وفي هذه السنة نزل المسلمون الكوفة، واختطوا بها الخطط، وبنوا المنازل. وقيل كان ذلك في أول سنة ثمان عشر، ونزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلاً. وأصاب الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة في عام الرمادة، وهي سنة ثمان عشر، فخرج عمر يستسقي، وأخرج الناس، وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك! اللهم فلا تخيب ظنهم في رسولك، فاسقوا. وأجرى عمر الأقوات في تلك السنة على عيالات قوم من المسلمين، وأمر أن تكون نفقات أولاد اللقط ورضاعهم من بيت المال.
وفي هذه السنة سمي عمر أمير المؤمنين، وكان يسمى خليفة خليفة رسول الله، وكتب إليه أبو موسى الأشعري: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، وجرت عليه، وقيل إن المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لتحرجن مما قلت. فقال: ألسنا مسلمين ؟ قال: بلى! قال: وأنت أميرنا؟ قال: اللهم نعم.
وكان أبو عبيدة بن الجراح قد وجه عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فلم يزل يحاصر عليهم ثم افتتح الرقة، وسروج، والرها، ونصيبين، وسائر مدن الجزيرة، وكانت صلحاً كلها، ووضع عليها الخراج على الأرضين ورقاب الرجال. على كل إنسان أربعة وخمسة دنانير وستة في سنة ثمان عشر، فانصرف إلى أبي عبيدة.
وكثر الطاعون بالشام، وكان طاعون عمواس، فمات أبو عبيدة بن الجراح، واستخلف عياض بن غنم على حمص، وما والاها من قنسرين، ومعاذ بن جبل على الأردن، ولم يلبث معاذ بن جبل إلا أياماً حتى توفي، ومات يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، فأقر عمر معاوية على عمل يزيد، ومات في تلك السنة في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفاً سوى من لم يحصر منهم، وغلا السعر، واحتكر الناس، فنهى عمر عن الاحتكار.
وفيها توفي الفضل بن العباس بن عبد المطلب بفلسطين، وكانت فلسطين قد افتتحت خلا قيسارية، وكان معاوية بن أبي سفيان مقيما عليها، فافتتحها سنة ثمان عشر، وقيل كان بها ثمانون ألف مقاتل، وبعث رجلين من جذام إلى عمر بالبشارة، ثم أردفهما برجل من خثعم يقال له: زهير، وقال له: إن قدرت أن تسبق الجذاميين فافعل، فمر بهما الخثعمي، وهما نائمان، فجازهما، وقدم المدينة ليلاً، فأتى عمر فأخبره، فكبر وحمد الله، ثم خرج إلى المسجد، وأمر بنار، فأتي بها، فحمد الله، وأعلمهم بفتح قيسارية.
وكتب سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى عمر بعد مقامه بثلاث سنين يعلمه اجتماع الفرس بجلولاء، وهي قرية من قرى السواد، بالقرب من حلوان، وكتب إليه أن ينهض إليهم فيمن معه، ووجه عبد الله بن مسعود، فأقامه مقام سعد، وقيل صير سلمان بالمدائن، وكان ابن مسعود يفقههم ويعلمهم، فكانت وقعة جلولاء سنة تسع عشر، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، وهرب يزدجرد فيمن بقي معه، فلحق بإصبهان، ثم سار إلى ناحية الري، وأتاه صاحب طبرستان، فأعلمه حصانة بلاده، فامتنع عليه، ومضى إلى مرو، وكان معه ألف أسوار من أساورته، وألف جبار، وألف صناجة، فكاتب نيزك طرخان، فعلاه بعمود، فمضى منهزما حتى دخل بيت طحان، ولحقوه فقتلوه في بيت الطحان، فصارت أساورته إلى بلخ، ووقعت صناجته، إلى هراة وجباروه إلى مرو، وافترقت جموع الفرس وأذهب الله ملكهم، وفرق جمعهم، ورجع سعد إلى الكوفة، فاختط مسجدها، وقصر إمارتها، فاختط الأشعث جبانة كندة، واختط كندة حوله، واختط يزيد بن عبد الله ناحية البرية، واختطت بجلة حوله.
وشاور عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله! هذا الرأي. ووجه عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، فمسحا السواد، وأمرهما أن لا يحملا أحداً فوق طاقته، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم، وأجرى على عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجراباً من دقيق، وأمره أن لا يمسح تلا، ولا أجمة، ولا مستنقع ماء، ولا ما لا يبلغه الماء، وأن يمسح بالذراع السوداء، وهو ذراع وقبضة، وأقام إبهامه فوق القبضة شيئاً يسيراً، فمسح عثمان كل شيء دون جبل حلوان إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات، فكتب إلى عمر: أني وجدت كل شيء بلغه الماء من عامر وغير عامر، بلغه الماء، عمله صاحبه أو لم يعمله... درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطاب خمسة دراهم.
وفرض على رقابهم: على الموسر ثمانية وأربعين، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين، وعلى من لا يجد اثني عشر درهماً، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلاً! فحمل من خراج السواد، في أول سنة، ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم.
واجتمع الدهاقين إلى عثمان بن حنيف في الكرم، فقالوا: إنما في قرب من المصر يباع العنقود منه بدرهم، فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر أن يحمل من هذا، ويوضع على هذا بقدر الموضعين. وكان عمر يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم، وكذلك فعل علي، وكتب عمر إلى أبي موسى أن يضع على أرض البصرة من الخراج مثل ما وضع عثمان بن حنيف على أرض الكوفة، وكتب إلى عثمان بن حنيف: أن احمل إلى أهل المدينة أعطياتهم، فإنهم شركاؤهم. فكان يحمل ما بين العشرين ألف ألف إلى الثلاثين ألف ألف.
ودون عمر الدواوين وفرض العطاء سنة عشرين، وقال: قد كثرت الأموال. فأشير عليه أن يجعل ديوانا، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وقال: اكتبوا الناس على منازلهم. وابدءوا ببني عبد مناف. فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف، وقيل بدأ بالعباس بن عبد المطلب في ثلاثة آلاف، وكل من شهد بدراً من قريش في ثلاثة آلاف، ومن شهد بدرا من الأنصار في أربعة آلاف، ولأهل مكة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان في خمسة آلاف، ثم قريش على منازلهم ممن لم يشهد بدراً، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف ستة آلاف، ولعائشة وأم حبيبة وحفصة في اثني عشر ألفاً، ولصفية وجويرية في خمسة آلاف خمسة آلاف، ولنفسه في أربعة آلاف، ولابنه عبد الله بن عمر في خمسة آلاف، وفي أهل مكة الذين لم يهاجروا في ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن في أربعمائة، ولمضر في ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين.
وكان أول مال أعطاه مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين، مبلغه سبعمائة ألف درهم. قال: اكتبوا
الناس على منازلهم، وكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه على الخلافة. فلما نظر عمر قال: وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدءوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه، حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله. وفرض للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن، وكانت فريضته لهن في ألفين، وألف وخمسمائة، وألف، وفرض لأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون في ألفين، وفرض لأم عبد في ألف وخمسمائة، وفرض لأشراف الأعاجم، وفرض لفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك والنخيرخان، ولخالد وللجميل ابني بصبهري دهقان الفلوجة، وللهرمزان، ولبسطام بن نرسى دهقان بابل، وجفينة العبادي في ألفين ألفين، وقال: قوم أشراف أحببت أن أتألف بهم غيرهم.
وقال عمر في آخر سنيه: إني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر.
ومصر الأمصار في هذه السنة. وقال: الأمصار سبعة: فالمدينة مصر، والشام مصر، والجزيرة مصر، والكوفة مصر، والبصرة مصر... وجند الأجناد فصير فلسطين جنداً، والجزيرة جنداً، والموصل جنداً، وقنسرين جنداً. وفي هذه السنة فتح عمرو بن العاص الإسكندرية وسائر أعمال مصر، واجتباها أربعة عشر ألف ألف دينار من خراج رؤوسهم، لكل رأس ديناراً، وخراج غلاتهم من كل مائة إردب إردبين، وأخرج أصحاب هرقل، ومات هرقل ملك الروم، فزاد ذلك في وهنهم وضعفهم.
ولما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية أوفد إلى عمر بن الخطاب معاوية بن حديج الكندي، فقال له معاوية: اكتب معي! فقال: وما أصنع بالكتاب معك؟ خبره بما رأيت وأد إليه الرسالة. فلما أتى عمر وخبره الخبر خر ساجداً، وكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يحمل طعاماً في البحر إلى المدينة يكفي عامة المسلمين، حتى يصير به إلى ساحل الجار، فحمل طعاماً إلى القلزم، ثم حمله في البحر في عشرين مركباً في المركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر، حتى وافى الجار. وبلغ عمر قدومها، فخرج ومعه جلة أصحاب رسول الله، حتى قدم الجار، فنظر السفن، ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى هنالك قصرين، وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس، ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك.
رجع الحديث إلى خبر سعد بن أبي وقاص. وقد رجع سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وأقام بها واختطت الخطط، وبنيت المنازل والمحال، ثم إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عمر عنهم، فدعا عليهم سعد إلا يرضيهم الله عز وجل عن أمير، ولا يرضى أميرا منهم. وولى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله، ووجه جبير بن مطعم، فمكر به المغيرة، وحمل عنه خبرا إلى عمر، وقال له: ولني، يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل فاسق. قال: وما عليك مني؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاه الكوفة، فسألهم عن المغيرة، فقالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن وليتكم مسلما تقيا قلتم: هو ضعيف، وإن وليتكم مجرماً قلتم: هو فاسق. فيقال إنه رد سعد بن أبي وقاص.
وأخرج عمر يهود خيبر من الحجاز لما قتل مظهر بن رافع الحارثي وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وقسم خيبر على ستة عشر سهماً.
ووجه ميسرة بن مسروق العبسي إلى أرض الروم، فكان أول جيش دخلها جيش ميسرة في هذه السنة، وهي سنة عشرون، وأغزى حبيب بن مسلمة الفهري، وقدر له أجلا، فجاز ذلك الوقت، واشتد غم عمر حتى وافى، فقال له: ما أخرك عن الوقت الذي وقته لك؟ قال: اعتل رجل من المسلمين، فأقمنا عليه حتى قضى الله ما قضى. ولم يغز عمر بلاد الروم بعد حبيب، وكان عمر يقول: إذا ذكر الروم والله لوددت إن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه، لما كان يكره قتالهم. ووجه علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركباً، أو نحوها، فأصيبوا جميعاً
فحلف عمر لا يحمل في البحر أحداً أبدا. وفي هذه السنة كانت زلازل لم ير مثلها.
وافتتحت نهاوند سنة إحدى وعشرون، وأمير الناس النعمان بن مقرن المزني، وكانت الأعاجم قد اجتمعت من الري وقومس وأصبهان وعدة بلدان، حتى صاروا إلى نهاوند، وقالوا: قد غلبنا على بلدنا، ونالنا الذل في دارنا. فبعث عمر النعمان في جيش، فصار إلى نهاوند، وقد ملك الأعاجم عليهم ملكا يقال له دوير. واقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل النعمان بن مقرن، ثم هزم الله الأعاجم، وفتحت نهاوند.
وفي غزاة نهاوند كان عمر بن الخطاب على منبر رسول الله يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند، فقال سارية لما قدم من نهاوند: أحدق بنا العدو، فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى الجبل، فسلمنا.
وفتح عمرو بن العاص برقة، وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا في جزيتهم في هذه السنة، ثم سار حتى أتى أطرابلس إفريقية، فافتتحها، وكتب إلى عمر يستأذنه في غزو باقي إفريقية، فكتب إليه أنها مفرقة، ولا يغزوها أحد ما بقيت. ووجه بسر بن أبي أرطأة، فصالح أهل ودان وأهل فزان، وبعث عقبة بن نافع الفهري، وكان أخا العاص ابن وائل السهمي لأمه، إلى أرض النوبة، ولقي المسلمون من النوبة قتالاً شديداً. ولما انصرف المسلمون من بلاد النوبة اختطوا الجيزة، وكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: لا تجعل بيني وبينك ماء، وانزلوا موضعا متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت.
وافتتحت آذربيجان سنة إثنان وعشرون، وأمير الناس المغيرة بن شعبة. وقيل هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص، وافتتح أبو موسى الأشعري كور الأهواز وإصطخر سنة ثلاث وعشرون، وكتب إليه عمر أن ضع عليها الخراج كما وضع على سائر أرض العراق، ففعل ذلك، وافتتح عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي همدان وأصبهان في هذه السنة، وافتتح قرظة بن كعب الأنصاري الري، وافتتح معاوية بن أبي سفيان عسقلان، وولى عمر خالد بن الوليد الرها وحران ورقة وتل موزن وآمد، فأقام بها سنة، ثم استعفى، فأعفاه، وقدم المدينة، فأقام بها أياماً، ثم توفي خالد بالمدينة.
وقال الواقدي إن خالد بن الوليد توفي بحمص، فأوصى إلى عمر، ولما ورد إليه خبر وفاته بكته حفصة وآل عمر، وكثر بكاؤهن عليه، فقال عمر: حق لهن أن يبكين على أبي سليمان، وأظهر عليه جزعا. ووجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة مددا له، فلم يصل إليه إلا بعد قتل عمر.
وأذن عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في هذه السنة، وحج معهن. قال بعضهم: فرأيت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج، وعليهن الطيالسة الزرق سنة ثلاث وعشرون، وكان يكون أمامهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وراءهن، فلا يدعان أحداً يدنو منهن. وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم. قيل: إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال: والله لئن كان هذا المال لله، فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر: إما أن تكون مؤمناً لا تغل أو منافقاً أفك. فقال: بل مؤمن لا أغل. واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة. لا تخرجوا! فتسللوا بالناس يميناً وشمالاً. قال عبد الرحمن بن عوف، فقلت: نعم، يا أمير المؤمنين، ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن اسكت عنك، فلا أجيبك، خير لك من أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
وروي عن ابن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: اخرج بنا نحرس
نواحي المدينة! فخرج، وعلى عنقه درته، حافيا، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتأوه صعدا، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال: أمر الله يا ابن عباس! قال: إن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: غص غواص، إن كنت لتقول فتحسن. قال: ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيره. قال: صدقت! قال فقلت له: أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعط في غير سرف ومانع في غير إقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص؟ قال: مؤمن ضعيف ! قال فقلت: طلحة بن عبد الله؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه باو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال: ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى يفوته الصلاة. قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته. ثم سكت. قال فقال: أمضها يا ابن عباس! أترى صاحبكم لها موضعاً؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو والله كما ذكرت ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالا: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السن. قال قلت: يا أمير المؤمنين. هلا استحدثتم سنة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبدود، وقد كعم عنه الأبطال، وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطا، ولا سبقتموه بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم ؟ فقال: إليك يا ابن عباس! أ تريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت. فقال: والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لاحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليتحاربن.
وحج عمر جميع سني ولايته، إلا السنة الأولى، وهي سنة ثلاث عشر، فإن عبد الرحمن بن عوف حج بالناس، وكان الغالب عليه عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.
وروى بعضهم أن عبد الله بن عباس كان على شرطه، وكان حاجبه يرفا مولاه، فطعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وكان ذلك من شهور العجم في تشرين الآخر، وكان الذي طعنه أبو لؤلؤة، عبد للمغيرة بن شعبة، وجاه بخنجر مسموم، وكانت سنو عمر يومئذ ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وثمانية أشهر.
ولما طعن عمر قال لابنه: إني كنت استسلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفاً، فليرد من مال ولدي، فإن لم يف مالهم فمال آل الخطاب، فإن لم يف فمال بني عدي، وإلا قريش عامة، ولا تعدوهم.
ولما حضرته الوفاة اجتمع إليه الناس فقال: إني قد مصرت الأمصار، ودونت الدواوين، وأجريت العطايا، وغزوت في البر والبحر، فإن أهلك، فالله خليفتي عليكم، وسترون رأيكم. إني قد تركتكم على الواضحة، إنما أخاف عليكم أحد رجلين: إما رجلاً يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله عليه...
وإني قد قرأت في كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، نكالا من الله، والله عليم حكيم، فلا تهلكوا عن الرجم. وقد رجم رسول الله، ورجمنا، ولو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي، فقد قرأتها في كتاب الله.
وصير الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني. فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب آل الخطاب ما تحملوا منها! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيباً أن يصلي بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال: إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا بأحد، فاضرب أعناقهم جميعاً.
وكانت الشورى بقية ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وصهيب يصلي بالناس، وهو الذي صلى على عمر. وكان أبو طلحة يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل العجل، فقد قرب الوقت، وانقضت المدة.
ودفن عمر إلى جانب أبي بكر، وخلف من الولد الذكور ستة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعاصما، وزيدا، وأبا عبد الله، ووثب ابنه عبيد الله فقتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته، واغتر الهرمزان فقتله، وكان عبيد الله يحدث أنه تبعه، فلما أحس الهرمزان بالسيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وروى بعضهم أن عمر أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان، وأن عثمان أراد ذلك، وقد كان قبل أن يلي الأمر أشد من خلق الله على عبيد الله، حتى جر بشعره، وقال: يا عدو الله قتلت رجلاً مسلماً، وصبية طفلة، وامرأة لا ذنب لها! قتلني الله إن لم أقتلك. فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص. وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم.
صفة عمر بن الخطاب: وكان عمر طوالاً، أصلع، أقبل، شديد الأدمة، أعسر يسراً، يعمل بيديه جميعاً، ويصفر لحيته، وقيل يغيرها بالحناء والكتم. وكان الفقهاء في أيامه الذين يؤخذ عنهم العلم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت. وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس. وكان عمال عمر، وقت وفاته: سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وقيل المغيرة، وأبو موسى الأشعري على البصرة، وعمير بن سعد الأنصاري على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام، وعمرو بن العاص على مصر، وزياد بن لبيد البياضي على بعض اليمن، وأبو هريرة على عمان، ونافع بن الحارث على مكة، ويعلى بن منية التميمي على صنعاء، والحارث بن أبي العاص الثقفي على البحرين، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
أيام عثمان بن عفانثم استخلف عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لما توفي عمر، واجتمعوا للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً، ففعلوا ذلك، فأقام ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر.
فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى، فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني. فخلا بعثمان فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده.
وخرج عثمان، والناس يهنئونه، وكان ذلك يوم الإثنين، مستهل المحرم، سنة أربع وعشرون، ومن شهور العجم في تشرين الآخر، وكانت الشمس يومئذ في العقرب ثلاث عشرة درجة، وزحل في الحمل إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الجدي أربع درجات وأربعين دقيقة، والمريخ في الميزان خمسين دقيقة، والزهرة في العقرب إحدى عشرة درجة راجعا، والرأس في الثور أربعا وعشرين درجة، فصعد عثمان المنبر، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: اليوم ولد الشر، وكان عثمان رجلاً حيياً فارتج عليه. فقام مليا لا يتكلم، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب، وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطبة. ثم نزل. وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما هذا البدعة! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كان الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأمة ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت ذلك له فقال: لقد أخبرنا فلم نال.
وأكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال: ألا إني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله دارا، فنسب الموضع إليه، كويفة ابن عمر، فقال بعضهم:
أبا عمرو عبيد الله رهن ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
وافتتح المغيرة بن شعبة همذان، وكتب إلى عثمان أنه قد دخل الري وأنزلها المسلمين. وكانت الري قد افتتحت في حياة عمر، وقيل لم تفتح، ولكنها محاصرة، وافتتحت سنة أربع وعشرون. وكتب عثمان إلى الحكم بن أبي العاص أن يقدم عليه، وكان طريد رسول الله، وقد كان عثمان لما ولي أبو بكر اجتمع هو وقوم من بني أمية إلى أبي بكر، فسألوه في الحكم، فلم يأذن له، فلما ولي عمر فعلوا ذلك، فلم يأذن له، فأنكر الناس إذنه له، وقال بعضهم: رأيت الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فزر خلق، وهو يسوق تيسا، حتى دخل دار عثمان، والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان.
وانتقضت الإسكندرية سنة خمس وعشرون، وحاربهم عمرو بن العاص، حتى فتحها وسبى الذراري، ووجه بهم إلى المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم الأولى، وعزل عمرو بن العاص
وولى عبد الله بن أبي سرح، فكان ذلك سبب العداوة بين عثمان وعمرو. وقال عثمان لعمرو لما قدم: كيف تركت عبد الله بن سعد؟ قال: كما أحببت! قال: وما ذاك؟ قال: قوي في ذات نفسه، ضعيف في ذات الله. قال: لقد أمرته أن يتبع أثرك. قال: لقد كلفته شططا. واجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو: درت اللقاح! قال: ذاك إن يتم يضر بالفصلان. ووسع عثمان في المسجد الحرام، وزاد فيه سنة ست وعشرون، وابتاع من قوم منازلهم، وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم للحبس. وقال: ما جراكم علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر، فلم تصيحوا، وجدد أنصاب الحرم.
وفي هذه السنة افتتح عثمان بن أبي العاص الثقفي سابور. وفيها ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة مكان سعد، وصلى بالناس الغداة، وهو سكران، أربع ركعات، ثم تهوع في المحراب، والتفت إلى من كان خلفه، فقال: أزيدكم؟ ثم جلس في صحن المسجد، وأتي بساحر يدعى بطروي من الكوفة، فاجتمع الناس عليه، فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها، ويعمل أعاجيب، فرآه جندب بن كعب الأزدي، فخرج إلى بعض الصياقلة، فأخذ منه سيفا ثم أقبل في الزحام وقد ستر السيف حتى ضرب عنقه، ثم قال له: أحي نفسك، إن كنت صادقا! فأخذه الوليد، فأراد أن يضرب عنقه، فقام قوم من الأزد، فقالوا: لا تقتل والله صاحبنا، فصيره في الحبس. وكان يصلي الليل كله، فنظر إليه السجان، وكان يكنى أبا سنان، فقال: ما عذري عند الله إن حبستك على الوليد يقتلك؟ فأطلقه، فصار جندب إلى المدينة، وأخذ الوليد أبا سنان فضربه مائتي سوط فوثب عليه جرير بن عبد الله، وعدي بن حاتم، وحذيفة بن اليمان، والأشعث بن قيس، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه. فلما قدم الوليد قال عثمان: من يضربه؟ فأحجم الناس لقرابته، وكان أخا عثمان لأمه، فقام علي فضربه، ثم بعث به عثمان على صدقات كلب وبلقين.
وأغزى عثمان الناس إفريقية سنة سبع وعشرون، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلقي جرجيس ودعاه إلى الإسلام، أو أداء الجزية، فامتنع، وكان جرجيس في جمع عظيم، ففض الله ذلك الجمع، فطلب جرجيس الصلح، فأبى عليه، وهزموه حتى صار إلى مدينة سبيطلة، والتحمت الحرب حتى قتل جرجيس، وكثرت الغنائم، وبلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار.
وروى بعضهم أن عثمان زوج ابنته من مروان بن الحكم، وأمر له بخمس هذا المال. ووجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله بن الزبير إلى عثمان بالبشارة، فسار عشرين ليلة، حتى قدم المدينة، وأخبر عثمان، فصعد عثمان المنبر، فخبر به الناس.
ووجه عبد الله بن سعد جيشاً إلى أرض النوبة، فسألوا الموادعة والصلح على أن عليهم في كل سنة ثلاثمائة رأس، ويبعث إليهم مثل ذلك من الطعام والشراب، فكتب إلى عثمان بذلك، فأجابهم إلى ذلك. وافتتح معاوية بن أبي سفيان قبرس.
وفي هذه السنة بني عثمان داره، وبني الزوراء، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وعشرون، وحملت له الحجارة من بطن نخل، وجعل في عمدة الرصاص، وجعل طوله مائة وستين ذراعاً وعرضه مائة ذراع وخمسين ذراعا، وأبوابه ستة على ما كانت عليه على عهد عمر.
وعزل أبا موسى الأشعري، وولى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فلما بلغ أبا موسى ولاية عبد الله بن عامر قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: قد جاءكم غلام كثير العمات والخالات والجدات في قريش، يفيض عليكم المال فيضاً. فلما قدم ابن عامر البصرة وجه الجنود لفتح سابور وفسا ودارابجرد وإصطخر من أرض فارس، وعلى ذلك الجند الذي فتح إصطخر عبيد الله بن معمر التيمي، فقتل عبيد الله بن معمر في أصل مدينة إصطخر، فقام مكانه عمر بن عبيد الله حتى فتح المدينة، ثم سار عبد الله بن عامر بنفسه إلى إصطخر ووجه عبد الرحمن بن سمرة، وكانت له صحبة، إلى سجستان، فافتتح زرنج بعد نكبة شديدة.
ولما ولي عثمان عبد الله بن عامر البصرة وولي سعيد بن العاص الكوفة كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، فأتى دهقان من
دهاقين خراسان إلى عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن خازم السلمي على مقدمته، فسار إلى نيسابور. وأقام على المدينة، ولقيه عبد الله بن عامر، فافتتح نيسابور عنوة في سنة ثلاثون، وصالح أهل الطبسين على خمسة وسبعين ألفاً، ثم سار حتى صار إلى مدينة أبر شهر، فحاصرهم شهوراً، ثم فتحها وصالحهم، وكتب إلى أهل هراة، فكتبوا إليه: إن فتحت أبرشهر أجبناك إلى ما سألت، وبوشنج وبادغيس يومئذ إلى هراة، وكانت طوس ونيسابور إلى أبر شهر، ثم فتحها وصالحهم على ألف ألف درهم.
وبعث الأحنف بن قيس إلى هراة ومرو الروذ، فسار إلى هراة، فلقيه صاحبها بالميرة والطاعة، ثم سار إلى مرو الروذ، ففتحها عنوة، وفتح الطالقان والفارياب، وطخارستان، ولم يرجع إلى عبد الله بن عامر، حتى شرب من نهر بلخ.
وقال بعض أهل خراسان: وجه عبد الله بن عامر حين افتتح نيسابور بالجيوش فبعث الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ، وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرو، وعبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس. ففتح القوم جميعاً ما بعثوا له خلا مرو، فإنها صالحت حاتماً على ألفي ألف ومائتي ألف أوقية وعلى أن يوسعوا للمسلمين في منازلهم.
ولما فتح عبد الله بن عامر هذه الكور انصرف إلى عثمان، وخالف بين الترك والديلم، وكان قد صير خراسان أرباعاً، وولي قيس بن الهيثم السلمي على ربع، وراشد بن عمرو الجديدي على ربع، وعمران بن الفصيل البرجمي على ربع، وعمرو بن مالك الخزاعي على ربع، فلما رده عثمان وجه أمير ابن أحمد اليشكري إلى خراسان، فصار إلى مرو، فأناخ بها، ثم أدركه الشتاء وأدخله أهل مرو، وبلغه انهم يريدون الوثوب به، فجرد فيهم السيف حتى أفناهم، ثم قفل إلى عثمان، فلما رآه عثمان خوفه، فانصرف عنه مغضباً، وكان عثمان أنكر عليه قتل أهل مرو، ورجع عبد الله بن عامر إلى البصرة، ثم صار إلى كرمان، فأناخ بها فنالهم مجاعة شديدة، حتى كان الرغيف بدينار، ثم أتاه الخبر بأن عثمان قد حوصر، فانصرف، وخلف بخراسان قيس بن الهيثم ابن الصلت، فافتتح قيس طخارستان، وكان عثمان قد وجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة الباهلي مدداً له، فلما قدم عليه تنافراً، وقتل عثمان وهم على تلك المنافرة.
وقد كان حبيب بن مسلمة فتح بعض أرمينية، وكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية، فسار حتى أتى البيلقان، فخرج إليه أهلها، فصالحوه ومضى حتى أتى برذعة، فصالحه أهلها على شيء معلوم.
وقيل إن حبيب بن مسلمة افتتح جرزان. ثم نفذ سلمان إلى شروان، فصالحه ملكها، ثم سار حتى أتى أرض مسقط، فصالح أهلها، وفعل مثل ذلك ملك اللكز وأهل الشابران وأهل فيلان، ولقيه خاقان ملك الخزر في جيشه، خلف نهر البلنجر، في خلق عظيم، فقتل سلمان ومن معه، وهم أربعة آلاف، فولى عثمان حذيفة بن اليمان العبسي، ثم صرفه، وولي المغيرة بن شعبة.
وزوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.
وحدث أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه، فقال: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد بن ثابت.
وفي هذه السنة توفي أبو سفيان بن حرب، وصلى عليه عثمان وهي سنة إحدى وثلاثون. وأغزى عثمان جيشاً، أميرهم معاوية، على الصائفة سنة إثنان وثلاثون، فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية، وفتحوا فتوحا كثيرة، وصير عثمان إلى معاوية غزو الروم على أن يوجه من رأى على الصائفة، فولى معاوية سفيان بن عوف الغامدي فلم يزل عليها أيام عثمان... لشيء شجر بينهما في خلافة عثمان.
وروي أن عثمان اعتل علة اشتدت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضباً شديداً: استعمله علانية، ويستعملني سراً. ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.
ووجه إليه عبد الرحمن بن عوف بابنه، فقال له قل له: والله لقد بايعتك، وإن في ثلاث خصال أفضلك بهن: إني حضرت بدراً، ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان، ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت. فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن بدر، فإني أقمت على بيت رسول الله، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمي وأجري، وأما بيعة الرضوان، فقد صفق لي رسول الله بيمينه على شماله، فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أيمانكم، وأما يوم أحد فقد كان ما ذكرت إلا أن الله قد عفا عني. ولقد فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا. وكان عبد الرحمن قد أطلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية لما اشتدت علته، فورثها عثمان، فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار، وقيل ثمانين ألف دينار.
وجمع عثمان القرآن وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفة إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه الأمة فساداً. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء، فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجز برجله حتى كسر له ضلعان، فتكلمت عائشة، وقالت قولاً كثيراً، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشام، ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرأوا على نسخة واحدة.
وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا.
وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان، واعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، أنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك! قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليماً.
وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك
زبدها، ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وبلغ عثمان أيضاً أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق، إذا صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
وكتب معاوية إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. فقال: نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر. فقال علي: نعم! قال: وكيف تشهد ؟ قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فلم يقم بالمدينة إلا أياماً حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها! قال: أ تخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم. قال: فإلى مكة؟ قال: لا! قال: فإلى البصرة؟ قال: لا! قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها. يا مروان! أخرجه، ولا تدع أحداً يكلمه، حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما رأى أبو ذر علياً قام إليه فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أصبر حتى أبكي! فذهب علي يكلمه فقال له مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار! ثم شيعة، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل رجل من القوم وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض الوحشة، وتلاحيا كلاماً، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي.
ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته: إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع. فقال: كلا إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحداً؟ فقالت: ما أرى أحداً! قال: ما حضر الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحداً؟ قالت: نعم أرى ركباً مقبلين، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، حولي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فأقرئيهم مني السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم أن برحتم حتى تأكلوا، ثم قضى عليه، فأتى القوم، فقالت لهم الجارية: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فنزلوا، وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن اليمان، والأشتر، فبكوا بكاءً شديداً، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. ثم قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا! فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة. فلما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال: رحم الله أبا ذر! قال عمار: نعم! رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان. وبلغ عثمان. عن عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضاً، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه، وسير عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
القموس من خيبر، وكان سبب تسييره إياه أنه بلغه كرهه مساوئ ابنه وخاله، وأنه هجاه.
وكان عثمان جواداً وصولاً بالأموال، وقدم أقاربه وذوي أرحامه، فسوى بين الناس في الأعطيه وكان الغالب عليه مروان بن الحكم بن أبي العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعلى شرطة عبد الله بن قنفذ التيمي، وحاجبه حمران ابن أبان مولاه.
ونقم الناس على عثمان بعد ولايته بست سنين، وتكلم فيه من تكلم، وقالوا: آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله، وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله، وأهدر دم الهرمزان، ولم يقتل عبيد الله بن عمر به، وولي الوليد بن عقبة الكوفة، فأحدث في الصلاة ما أحدث، فلم يمنعه ذلك من إعاذته إياه، وأجاز الرجم، وذلك أنه كان رجم امرأة من جهينة دخلت على زوجها، فولدت لستة أشهر، فأمر عثمان برجمها، فلما أخرجت دخل إليه علي بن أبي طالب فقال: إن الله عز وجل يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، وقال في رضاعه حولين كاملين، فأرسل عثمان في أثر المرأة، فوجدت قد رجمت وماتت. واعترف الرجل بالولد.
وقدم عليه أهل البلدان فتكلموا، وبلغ عثمان أن أهل مصر قدموا عليهم السلاح، فوجه إليهم عمرو بن العاص وكلمهم، فقال لهم: إنه يرجع إلى ما تحبون، ثم كتب لهم بذلك وانصرفوا، فقال لعمرو بن العاص: اخرج فأعذرنى عند الناس، فخرج عمرو، فصعد المنبر، ونادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر محمداً بما هو أهله، وقال: بعثه الله رأفة ورحمة، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى. فجزاه الله خير ما جزى نبيا عن أمته، ثم قال: وولي من بعده رجل عدل في الرعية، وحكم بالحق، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي الأعسر الأحول ابن حنتمة، فابدت له الأرض أفلاذ كبدها، وأظهرت له مكنون كنوزها، فخرج من الدنيا، وما أنبل عصاه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي عثمان، فقلتم، وقال، تلومونه ويعذر نفسه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! قال: فاصبروا له، فإن الصغير يكبر والهزيل يسمن، ولعل تأخير أمر خير من تقديمه. ثم نزل، فدخل أهل عثمان عليه فقالوا له: هل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو؟ فلما دخل عليه عمرو قال: يا ابن النابغة! والله ما زدت إن حرضت الناس علي. قال: والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت، ولقد ركبت من الناس، وركبوها منك، فاعتزل إن لم تعتدل! فقال: يا ابن النابغة قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.
وسار الركب الذين قدموا من مصر، فلما صاروا في بعض الطريق، إذا براكب على جمل، فأنكروه، ففتشوه، فوجدوا معه صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد: إذا قدم عليك النفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم، فقدموا واتفقوا على الخروج، وكان من يأخذون عنه محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وكنانة بن بشر، وابن عديس البلوي، فرجعوا إلى المدينة، وكان بين عثمان وعائشة منافرة وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر ابن الخطاب، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله، فإن عثمان يوماً ليخطب إذ دلت عائشة قميص رسول الله، ونادت: يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته! فقال عثمان: رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم.
وحصر ابن عديس البلوي عثمان في داره، فناشدهم الله، ثم نشد مفاتيح الخزائن، فأتوا بها إلى طلحة بن عبيد الله، وعثمان محصور في داره، وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة، فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجه إليه في اثني عشر ألفاً، ثم قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره، فأتى عثمان، فسأله عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. ارجع، فجئني بالناس! فرجع، فلم يعد إليه حتى قتل.
وصار مروان إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس، قالت قد فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج. قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت: لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، وإني أطيق حمله، فأطرحه في البحر.
وأقام عثمان محاصراً أربعين يوماً. وقتل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وقيل ست وثمانين سنة، وكان الذين تولوا قتله: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن حزم، وقيل كنانة بن بشر التجيبي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الرحمن ابن عديس البلوي، وسودان بن حمران، وأقام ثلاثاً لم يدفن، وحضر دفنه حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، وحويطب بن عبد العزى، وعمرو بن عثمان ابنه. ودفن بالمدينة ليلاً في موضع يعرف بحش كوكب، وصلى عليه هؤلاء الأربعة. وقيل لم يصل عليه، وقيل أحد الأربعة قد صلى عليه، فدفن بغير صلاة.
وكانت أيامه اثنتي عشرة سنة، وحج عثمان بالناس أيامه كلها إلا السنة الأولى، وهي سنة أربع وعشرون، فإنه حج بالناس عبد الرحمن بن عوف، والسنة التي قتل فيها، فإنه حج بالناس عبد الله بن عباس، وهي سنة خمس وثلاثون، وكان له من الولد الذكور سبعة: عمرو وعمر وخالد وأبان والوليد وسعيد وعبد الملك.
صفة عثمان بن عفان: وكان عثمان بن عفان مربوعاً، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثير اللحية، عظيمها، أسمر، عظيم الكرادس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، أسنانه مشدودة بالذهب، يصفر لحيته.
وكان عمال عثمان: على اليمن يعلى بن منية التميمي. وعلى مكة عبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلى همذان جرير بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى الكوفة أبا موسى الأشعري، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان بن حرب.
وكان الفقهاء في أيام عثمان أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وأبا الدرداء، وأبا سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وسلمان بن ربيعة الباهلي.
؟
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبواستخلف علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، ومن شهور العجم في حزيران، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء ستا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في السنبلة خمساً وعشرين درجة، والمريخ في الجدي سبع درجات... بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله، فقال رجل من بني أسد: أول يد بايعت يد شلاء، أو يد ناقصة، وقام الأشتر فقال: أبايعك يا أمير المؤمنين على أن علي بيعة أهل الكوفة، ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب، فقالوا: نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار، وسائر قريش.
وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان القوم. فقال: يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه... على ذلك بنو عبد مناف، فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتله صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري إياكم، فألحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلى قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فألحقوا بملاحقكم. فقال مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى.
وقام قوم من الأنصار فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس، هذا وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان. من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل.
ثم قام عقبة بن عمرو فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الهدى الذي لا يخاف جوره، والعالم الذي لا يخاف جهله.
وعزل على عمال عثمان عن البلدان خلا أبي موسى الأشعري، كلمه فيه الأشتر، فأقره، وولي قثم بن العباس مكة، وعبيد الله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف الأنصاري البصرة. وأتاه طلحة والزبير فقالا: إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة، فأشركنا في أمرك! فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود. وروى بعضهم أنه ولي طلحة اليمن، والزبير اليمامة والبحرين، فلما دفع إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم! قال: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين. واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال: لو لا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي.
وروى بعضهم أن المغيرة بن شعبة قال له: يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن، والزبير إلى البحرين، واكتب بعهد معاوية على الشام، فإذا استقامت الأمور، فشأنك وما تريده فيهم! فأجابه في ذلك بجواب، فقال المغيرة: والله ما نصحت له قبلها، ولا أنصح له بعدها.
وكانت عائشة بمكة، خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل! قالت: بعدا وسحقا! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو الإصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا علياً. قالت: والله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياماً، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
وروى بعضهم أن علياً قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة. فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت: إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمه محمد على أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الأبصار، وخفض الأطراف، وجر الذيول. إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا.
وأتاها طلحة والزبير وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير، فاستعانا به، وسارا نحو البصرة.
ومر القوم في الليل بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم: ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبجك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب.
وقدم القوم البصرة، وعامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها ومن معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، وإنما جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا انهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي، وأن كل فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه، وانتهبوا بيت المال، وأخذوا ما فيه، فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، وصاح الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوماً وعبد الله بن الزبير يوماً، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى علياً الخبر سار إلى البصرة، واستخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، وخرج من المدينة، ومعه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد وطئ تبعه منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، ووجه الحسن وعمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة، وعامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الأشعري، فخذل الناس عنه، فوافاه منهم ستة آلاف رجل، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد! وقص عليه القصة.
ثم قدم أمير المؤمنين البصرة، وكانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الأولى سنة ست وثلاثون. وخرج طلحة والزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون وما تريدون؟ قالوا: نطلب بدم عثمان! قال علي: لعن الله قتلة عثمان! واصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف... أعذروا.
فرمى رجل من عسكر القوم بسهم، فقتل رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين، فأتى به إليه، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، وأطافت بنو ضبة بالجمل، وكانت تحمل الراية، فقتل منهم ألفان، وحفت به الأزد، فقتل منهم ألفان وسبعمائة. وكان لا يأخذ خطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيد الله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم فصرعه، وقال: لا أطلب والله بعد اليوم بثأر عثمان، وأنا قتلته، فقال طلحة لما سقط: تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني! إني والله ما وقفت موقفا قط إلا عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. وقال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد الله، ادن إلي أذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله! فقال الزبير لعلي: لي الأمان؟ قال علي: عليك الأمان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت هذا إلا هذه الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين؟ قال: ذكرني علي كلاماً قاله رسول الله. قال: كلا، ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً تحملها شداد. قال: ويلك! ومثلي يعير بالجبن؟ هلم إلى الرمح. وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي، فقال علي: افرجوا للشيخ، إنه محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك! أيفعل هذا جبان؟ وانصرف، فاجتاز بالأحنف بن قيس، فقال: ما رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقها، فهتك عنها حجاب رسول الله، وستر حرمته في بيته، ثم أسلمها وانصرف. ألا رجل يأخذ لله منه! فاتبعه عمرو بن جرموز التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، وكانت الحرب أربع ساعات من النهار، فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفاً.
ثم نادى منادي علي: ألا لا يجهز على جريح، ولا يتبع مول، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الأسود والأحمر، ووجه ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير أذني، وجلست على متاعي بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وأمرك القرآن أن تقري فيه. وجرى بينهما كلام موضعه في غير هذا من الكتاب.
وأتاها علي، وهي في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: أيها يا حميراء! ألم تنتهي عن هذا المسير؟ فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فاسجح! فقال: اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الضلبية، وقيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عودا من الأرض، فوضعه بين إصبعيه.
ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه مرزبان مرو، فكتب له كتاباً، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة.
وخرج علي من البصرة متوجهاً إلى الكوفة، وقدم الكوفة في رجب سنة ست وثلاثون، وكان جرير بن عبد الله على همذان، فعزله، فقال لعلي: وجهني إلى معاوية، فإن جل من معه قومي، فلعلي أجمعهم على طاعتك! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين! لا تبعثه، فإن هواه هواهم. فقال: دعه يتوجه، فإن نصح كان ممن أدى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من اؤتمن ولم يؤد الأمانة، ووثق به فخالف الثقة. ويا ويحهم مع من يميلون ويدعونني، فو الله ما أردتهم إلا على إقامة حق، ولا يريدهم غيري إلا على باطل. فقدم جرير على معاوية، وهو جالس، والناس حوله، فدفع إليه كتاب علي، فقرأه، ثم قام جرير فقال: يا أهل الشام! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع البلاء بمثلها، فلا بقاء للإسلام، فاتقوا الله يا أهل الشام، ورووا في علي ومعاوية خيراً، فانظروا لأنفسكم، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم. ثم سكت، وصمت معاوية، فلم ينطق، فقال: أبلعني ريقي يا جرير.
وبعث معاوية من ليلته إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم على جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله تعالى. فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمداً، فاستشارهما، فقال له عبد الله: أيها الشيخ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية فتضجعان غدا في النار، ثم قال لمحمد: ما ترى؟ قال: بادر هذا الأمر، فكن فيه رأساً قبل أن تكون ذنباً، فأنشأ يقول:
تطاول ليلي للهموم الطوارق، ... وخوف التي تجلو وجوه العواتق
فإن ابن هند سألني أن أزوره، ... وتلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من علي بخطة ... أمرت عليه العيش مع كل دانق
فإن نال منه ما يؤمل رده، ... فإن لم ينله ذل ذل المطابق
فو الله ما أدري، وإني لهكذا ... أكون، ومهما قادني، فهو سائقي
أأخدعه، فالخدع فيه دنية، ... أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
أم أجلس في بيتي، وفي ذاك راحة ... لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبد الله قولاً تعلقت ... به النفس، إن لم يعتقلني عوائقي
وخالفه فيه أخوه محمد، ... وإني لصلب العود عند الحقائق
فلما سمع عبد الله شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه، فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال له: ارحل يا وردان، ثم قال حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت أبا عبد الله، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: هات! قال: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي شيئاً، فما الرأي يا وردان؟ قال: الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر
أهل الدنيا لم يستغن عنك. قال عمرو: الآن، وقد شهرتنى العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان! ثم أنشأ يقول:
يا قاتل الله وردان وفطنته، ... أبدى لعمرك ما في الصدر وردان
فقدم على معاوية، فذاكره أمره، فقال له: أما علي، فو الله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء، وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش إلا أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنا نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو: واسوءتاه! إن أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال: ولم ويحك؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، فسار إليه، وأما أنا فتركته عياناً، وهربت إلى فلسطين. فقال معاوية: دعني من هذا! مد يدك فبايعني! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك. قال له معاوية: لك مصر طعمة، فغضب مروان بن الحكم وقال: ما لي لا استشار؟ فقال معاوية: اسكت، فإنما يستشار بك. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله! بت عندنا الليلة، وكره أن يفسد عليه الناس، فبات عمرو، وهو يقول:
معاوي لا أعطيك ديني، ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً فاربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
وما الدين والدنيا سواء، وإنني ... لأخذ ما أعطي، ورأسي مقنع
ولكنني أعطيك هذا، وإنني ... لأخدع نفسي، والمخادع يخدع
أأعطيك أمراً فيه للملك قوة، ... وأبقى له، إن زلت النعل أخدع
وتمنعني مصراً، وليست برغبة ... وإن ثري القنوع يوماً لمولع
فكتب له بمصر شرطاً، وأشهد له شهوداً، وختم الشرط، وبايعه عمرو، وتعاهدا على الوفاء. واحتال معاوية لقيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر، فجعل يكاتبه رجاء أن يستميله، وكتب إليه قيس بن سعد: من قيس بن سعد إلى معاوية بن صخر: أما بعد، فإنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا. وكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص: إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش، الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصرة طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، ولا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا! فكتب إليه سعد: أما بعد، فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً قد كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين.
وبلغ علياً أن معاوية قد استعد للقتال، واجتمع معه أهل الشام، فسار علي في المهاجرين والأنصار، حتى أتى المدائن، فلقيه الدهاقين بالهدايا، فردها، فقالوا: ولم ترد علينا، يا أمير المؤمنين؟ قال: نحن أغنى منكم بحق أحق بأن نفيض عليكم، ثم صار إلى الجزيرة، فلقيه بطون تغلب والنمر بن قاسط، فسار معه منهم خلق عظيم، ثم سار إلى الرقة، وجل أهلها العثمانية الذين هربوا من الكوفة إلى معاوية، فغلقوا أبوابها، وتحصنوا، وكان أميرهم سماك ابن مخرمة الأسدي، فغلقوا دونه الباب، فصار إليهم الأشتر مالك بن الحارث النخعي، فقال: والله لتفتحن، أو لأضعن فيكم السيف! ففتحوا، وأقام بها أمير المؤمنين يومه.
ثم عبر إلى الجانب الشرقي من الفرات، حتى صار إلى صفين، وقد سبق معاوية إلى الماء ووسعه المناخ، فلما وافى علي وأصحابه لم يصلوا إلى الماء، فتوسل الناس إلى معاوية، وقالوا: لا تقتل الناس عطشا، فيهم العبد والأمة والأجير. فأبى معاوية، وقال: لا سقاني الله، ولا أبا سفيان من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شربوا منه أبداً. فوجه علي الأشتر والأشعث في الخيل، والأشعث ابن قيس في الرجالة، وكانت خيل معاوية مع أبي الأعور
السلمي، فقاتله أصحاب علي حتى صارت سنابك الخيل في الفرات، وغلبوا على المشرعة، وكان الواقف عليها عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فلما غلب علي على المشرعة قال أصحاب معاوية: إنه لا قوام لنا وقد أخذ علي الماء! فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن علياً لا يستحل منك ومن أصحابك ما استحللت منه ومن أصحابه، فأطلق علي الماء. وكان ذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثون.
ثم وجه علي إلى معاوية يدعوه ويسأله الرجوع، وألا يفرق الأمة بسفك الدماء، فأبى إلا الحرب، فكانت الحرب في صفين سنة سبع وثلاثون، وأقامت بينهم أربعين صباحاً.
وكان مع علي يوم صفين من أهل بدر سبعون رجلاً، وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد، وصدقت نيات أصحاب علي في القتال، وقام عمار بن ياسر، فصاح في الناس، فاجتمع إليه خلق عظيم، فقال: والله إنهم لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وانهم على الباطل. ثم قال: ألا هل من رائح إلى الجنة؟ فتبعه خلق، فضرب حول سرادق معاوية، فقاتل القوم قتالاً وقتل عمار بن ياسر، واشتدت الحرب في تلك العشية، ونادى الناس: قتل صاحب رسول الله، وقد قال رسول الله: تقتل عماراً الفئة الباغية.
وزحف أصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق إلا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفهم وتكسر من حدهم، وتفت في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله. فقال علي: أنها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، وقد كان معاوية استماله، وكتب إليه ودعاه إلى نفسه، فقال: قد دعا القوم إلى الحق! فقال علي: إنهم إنما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك. ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك، فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاما عظيما، حتى كاد أن يكون الحرب بينهم، وحتى خاف علي أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة، وقال علي: أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس. فقال الأشعث: إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص، ولا يحكم فينا مضريان، ولكن توجه أبا موسى الأشعري، فإنه لم يدخل في شيء من الحرب. وقال علي: إن أبا موسى عدو، وقد خذل الناس عني بالكوفة، ونهاهم أن يخرجوا معي قالوا: لا نرضى بغيره. فوجه علي أبا موسى على علمه بعداوته له ومداهنته فيما بينه وبينه، ووجه معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا كتابين بالقضية: كتابا من علي بخط كاتبه عبد الله بن أبي رافع، وكتابا من معاوية بخط كاتبه عمير بن عباد الكناني، واختصموا في تقديم علي أو تسمية علي بامره المؤمنين، فقال أبو الأعور السلمي: لا نقدم علياً، وقال أصحاب علي: ولا نغير اسمه ولا نكتب إلا بامره المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي، فقال الأشعث: امحوا هذا الاسم! فقال له الأشتر: والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك، فلقد قتلت قوما ما هم شر منك، وإني أعلم أنك ما تحاول إلا الفتنة، وما تدور إلا على الدنيا وإيثارها على الآخرة. فلما اختلفوا قال علي: الله أكبر! قد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: هذا ما صالح رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي، وكذلك كتبت الأنبياء، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، وإن اسمي واسم أبي لا يذهبان بإمرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب، وكتب كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى
خاتمته لا يتجاوزان ذلك، ولا يحيدان عنه إلى هوى، ولا ادهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فلا حكم لهما.
ووجه علي بعبد الله بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه، واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثون. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له معاوية فقال: هو ولي ثار عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني عبد الله؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبد الله بن عمر؟ قال: إذا يحيى سنة عمر، الآن حيث به. فقال: فاخلع علياً وأخلع أنا معاوية، ويختار المسلمون.
وقدم عمرو أبا موسى إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله ابن قيس، فدنا منه، فقال: إن كان عمرو فارقك على شيء، فقدمه قبلك، فإنه غدر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع علياً، ثم صعد عمرو بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى: غدرت يا منافق، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً.
وتنادى الناس: حكم والله الحكمان بغير ما في الكتاب، والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس ونادت الخوارج: كفر الحكمان، لا حكم إلا لله. وقيل: أول من نادى بذلك عروة بن أدية التميمي قبل أن يجتمع الحكمان، وكانت الحكومة في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثون. قال ابن الكلبي: أخبرني عبد الرحمن بن حصين بن سويد... قال: إني لأساير أبا موسى الأشعري على شاطئ الفرات، وهو إذ ذاك عامل لعمر، فجعل يحدثني، فقال: إن بني إسرائيل لم تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضا بعد أرض، حتى حكموا ضالين أضلا من اتبعهما. قلت: فإن كنت يا أبا موسى أحد الحكمين، قال فقال لي: إذا لا ترك الله لي في السماء مصعداً، ولا في الأرض مهربا إن كنت أنا هو. فقال سويد: لربما كان البلاء موكلاً بالمنطق. ولقيته بعد التحكيم، فقلت: إن الله إذا قضى أمراً لم يغالب.
وانصرف علي إلى الكوفة، فلما قدمها قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع، يعظم فيها رجال رجالاً، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيعمل به، فعند ذلك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى.
وصارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وابن الكوا، وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون: لا حكم إلا لله، فإذا بلغ علياً ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل. ثم خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل: في اثني عشر ألفاً، فوجه إليهم علي عبد الله بن عباس، فكلمهم، واحتجوا عليه، فخرج إليهم علي فقال: أتشهدون علي بجهل؟ قالوا: لا! قال: فتنفذون أحكامي؟ قالوا: نعم! قال: فارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون فيقولون: لا حكم إلا لله، فيقول علي: حكم الله أنتظر فيكم. وخرجوا من الكوفة، فوثبوا على عبد الله ابن خباب بن الأرت، فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي، فناشدهم الله، ووجه إليهم عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم على أمير المؤمنين؟ أ لم يحكم فيكم بالحق، ويقيم فيكم العدل، ولم يبخسكم شيئاً من حقوقكم؟ فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه. وقالت الأخرى: والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم، يا ابن عباس، نقمنا على علي خصالا كلها موبقة لو لم نخصمه منها إلا بخصلة خصمناه، محا اسمه من أمره أمير المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين، فلم يضربنا بسيفه حتى نفيء إلى الله، وحكم الحكمين، وزعم أنه وصى، فضيع الوصية، وجئتنا يا ابن عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه؟
فقال ابن عباس: قد سمعت، يا أمير المؤمنين، مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب. فقال: حججتهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، قل لهم: أ لستم راضين بما في كتاب الله، وبما فيه من أسوة رسول الله؟ قالوا: بلى! قال: فعلي بذلك أرضي. كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ كتب إلى سهيل ابن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين: من محمد رسول الله، فكتبوا إليه: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك، فاكتب إلينا: من محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب: من محمد بن عبد الله، وكذلك كتب الأنبياء كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، ففي رسول الله أسوة حسنة.
وأما قولكم إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله جل وعز يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وكنتم عدداً جماً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة.
وأما قولكم إني حكمت الحكمين، فإن الله عز وجل حكم في أرنب يباع بربع درهم، فقال: يحكم به ذوا عدل منكم، ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله لما وسعني الخروج من حكمهما.
وأما قولكم إني كنت وصيا فضيعت الوصية، فإن الله عز وجل يقول: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين أفرأيتم هذا البيت، لو لم يحجج إليه أحد كان البيت يكفر، إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلاً كفر، وأنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا كفرت بتركي لكم.
فرجع يومئذ من الخوارج ألفان، وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس، فأقامت مقدار ساعتين من النهار، فقتلوا من عند آخرهم، وقتل ذو الثدية، ولم يفلت من القوم إلا أقل من عشرة، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، وكانت وقعة النهروان سنة تسع وثلاثون.
ولما قدم علي الكوفة قام خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره بما فضله الله به، أما بعد أيها الناس! فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون، ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها، فو الذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة. إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه، وعلم بالعلم جهله، وأبصر عمله، واستمع صممه وأدرك به مأواه، وحي به إن مات، فأدرك به الرضا من الله، فاطلبوا ذلك عند أهله، فإنهم في بيت الحياة، ومستقر القرآن، ومنزل الملائكة، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم هم الذين لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، قد مضى فيهم من الله حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين.
وأما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملاً وسيفاً قاتلاً وأثرة قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق جموعكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل، ولا يبعد الله إلا من ظلم.
ووجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له، فقدمها سنة ثمان وثلاثون، ومعه جيش عظيم من أهل الشام، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي، وعلى أهل الأردن أبو الأعور السلمي، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة، فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة، فحاربهم محاربة شديدة، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل يوم المسناة، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية، فمايل عمرو بن العاص اليمانية، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده، فجالد ساعة، ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة، واتبعه ابن حديج الكندي، فأخذه وقتله، وأدخله جيفة حمار، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف.
وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر وممالاة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي
محمد من حرض، ووجه مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر، وكتب إلى أهل مصر: أني بعثت إليكم سيفا من سيوف الله لا نأبى الضربة، ولا كليل الحد، فإن استنفركم فانفروا، وإن أمركم بالمقام فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي. فلما بلغ معاوية أن علياً قد وجه الأشتر عظم عليه، وعلم أن أهل اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد، فدس له سما، فلما صار إلى القلزم من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له... فخدمه وقام بحوائجه، ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صير فيه السم، فسقاه إياه، فمات الأشتر بالقلزم وبها قبره، وكان قتله وقتل محمد بن أبي بكر في سنة ثمان وثلاثون.
ولما بلغ علياً قتل محمد بن أبي بكر والأشتر جزع عليهما جزعاً شديداً، وتفجع، وقال علي: على مثلك فلتبك البواكي يا مالك، وأنى مثل مالك؟ وذكر محمد بن أبي بكر، وتفجع عليه، وقال: إنه كان لي ولدا ولولدي وولد أخي أخا، وخرج الخريت بن راشد الناجي في جماعة من أصحابه، فجردوا السيوف بالكوفة، فقتلوا جماعة، وطلبهم الناس، فخرج الخريت وأصحابه من الكوفة، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان.
وكان علي قد وجه الحلو بن عوف الأزدي عاملا على عمان فوثبت به بنو ناجية فقتلوه، وارتدوا عن الإسلام، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه، وسبى بني ناجية، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة الشيباني، وأنفذ بعض الثمن ثم هرب إلى معاوية، وأمر على بهدم داره، وأنفذ عتق بن ناجية، وكانوا يدعون انهم من ولد سامة ابن لؤي.
ووجه معاوية النعمان بن بشير، فأغار على مالك بن كعب الأرحبي، وكان عامل علي على مسلحة عين التمر، فندب علي فقال: يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع ليس بكثير لعل الله أن يقطع من الظالمين طرفا. فأبطأوا، ولم يخرجوا، فصعد على المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع، فظن الناس أنه يدعو الله، ثم رفع صوته فقال: أما بعد يا أهل الكوفة أكلما أقبل منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل امرئ بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره؟ أف لكم! لقد لقيت منكم يوماً أناجيكم ويوما أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء. فلما دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح! ثم دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين! معي ألف رجل من طيء لا يعصونني، وإن شئت أن أسير بهم سرت؟ فقال علي: جزاك الله خيراً، يا أبا طريف، ما كنت لأعرض قبيلة واحدة لحد أهل الشام، ولكن أخرج إلى النخيلة! فخرج واتبعه الناس فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى الشام.
وأغار الضحاك بن قيس على القطقطانة، فبلغ علياً إقباله، وأنه قد قتل ابن عميش، فقام علي خطيبا فقال: يا أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف، وإلى الرجل الصالح ابن عميش، فامنعوا حريمكم، وقاتلوا عدوكم. فردوا رداً ضعيفاً، فقال: يا أهل العراق! وددت أن لي بكم بكل ثمانية منكم رجلاً من أهل الشام، وويل لهم قاتلوا مع تصبرهم على جور، ويحكم! اخرجوا معي، ثم فروا عني إن بدا لكم، فو الله إني لأرجو شهادة، وإنها لتدور على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تداري البكار الغمرة، أو الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب فقام إليه حجر بن عدي الكندي فقال: يا أمير المؤمنين ! لا قرب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربك، عليك بعادة الله عندك، فإن الحق منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين، وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الإنسان وأهله، إن الشيطان لا يفارق قلوب أكثر الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم، فتهلل وأثنى على حجر جميلاً، وقال: لا حرمك الله الشهادة، فإني أعلم أنك من رجالها.
وجلس علي في المسجد فندب الناس، وانتدب أربعة آلاف، فسار بهم في طلب القوم، وأغذ المسير حتى لقيهم بتدمر من عمل حمص، فقاتلهم فهزمهم، حتى انتهوا إلى الضحاك، وحجز بينهم الليل، فأدلج الضحاك على وجهه منصرفا، وشن حجر بن عدي ومن معه الغارة في تلك
البلاد يومين وليلتين، ثم أغار سفيان بن عوف على الأنبار، فقتل أشرس بن حسان البكري، فاتبعه علي سعيد بن قيس، فلما أحس به انصرف مولياً، وتبعه سعيد إلى عانات، فلم يلحقه. وبعث معاوية عبد الله بن مسعدة بن حذيفة بن بدر الفزاري في جريدة خيل، وأمره أن يقصد المدينة ومكة، فسار في ألف وسبعمائة، فلما أتى علياً الخبر وجه المسيب بن نجبة الفزاري، فقال له: يا مسيب! إنك ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصيحته، فتوجه إلى هؤلاء القوم وأثر فيهم، وإن كانوا قومك. فقال له المسيب: يا أمير المؤمنين! إن من سعادتي أن كنت من ثقاتك، فخرج في ألفي رجل من همدان وطيء وغيرهم، وأغذ السير، وقدم مقدمته، فلقوا عبد الله بن مسعدة، فقاتلوه، فلحقهم المسيب، فقاتلهم حتى أمكنه أخذ ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصن بتيماء، وأحاط المسيب بالحصن، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثا، فناداه: يا مسيب! إنما نحن قومك، فليمسك الرحم. فخلى لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن.
فلما جنهم الليل خرجوا من تحت ليلتهم حتى لحقوا بالشام، وصبح المسيب الحصن، فلم يجد أحداً، فقال عبد الرحمن بن شبيب: داهنت والله يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم على علي فقال له علي: يا مسيب! كنت من نصاحي، ثم فعلت ما فعلت! فحبسه أياماً، ثم أطلقه وولاه قبض الصدقة بالكوفة.
ووجه معاوية بسر بن أبي أرطأة، وقيل ابن أرطأة العامري، من بني عامر ابن لؤي، في ثلاثة آلاف رجل، فقال له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وأنهب مال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك، ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد جاءني كتابهم، فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، فتنحى عن المدينة، ودخل بسر، فصعد المنبر ثم قال: يا أهل المدينة! مثل السوء لكم، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله، شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل. قال: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي، فقال: إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، قالت: إذا فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم، وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى اليمن، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، عامل علي، وبلغ علياً الخبر، فقام خطيبا فقال: أيها الناس! إن أول نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني قد دعوتكم عوداً وبداً، وسراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما والله إني لعالم بما يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، أمهلوني قليلاً، فو الله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم، إن من ذل الإسلام وهلاك الدين إن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون، وأدعوكم، وأنتم لا تصلحون، فتراعون، هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة.
فقام جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أمير المؤمنين! لا عد منا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنعم الأدب أدبك، ونعم الإمام والله أنت أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم! قال: تجهز، فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء، المبارك الميمون النقيبة، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال: أنا انتدب يا أمير المؤمنين قال: انتدب، بارك الله عليك، فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين، وأمرهما على أن يطلبا بسرا حيث كان حتى يلحقاه، فإذا اجتمعا فراس الناس جارية، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة، حتى التقيا بأرض الحجاز، ونفذ بسر من الطائف، حتى قدم اليمن، وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن اليمن، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله، وقتل ابنه مالك بن عبد الله، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية، وهي أمهما، وخلف معها رجلاً من كنانة، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيد الله ليقتلهما، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال: والله لأقتلن دونهما فألآقي عذراً لي عند الله والناس، فضارب بسيفه حتى قتل، وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن: يا بسر! هذا، الرجال يقتلون، فما بال الولدان، والله ما كانت الجاهلية تقتلهم، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء، فقال بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف، وقدم الطفلين فذبحهما، فقالت أمهما ترثيهما:
ها من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
ها من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
من دل وإلهه خرى وثاكلة ... على صبيين ضلا إذ غداً السلف
ثم جمع بسر أهل نجران فقال: يا إخوان النصارى! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن قتلاكم ثم سار نحو جيشان، وهم شيعة لعلي، فقاتلهم، فهزمهم، وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، ثم رجع إلى صنعاء. وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً، فهرب منه في الأرض، ولم يقم له، وقتل من أصحابه خلقا، واتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شيء، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة، فقالوا: قد هلك علي فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي بعده، فتثاقلوا، فقال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم، فبايعوا ودخل المدينة، وقد اصطلحوا على أبي هريرة فصلى بهم ففر منه أبو هريرة، فقال جارية: يا أهل المدينة بايعوا للحسن بن علي! فبايعوا، ثم خرج يريد الكوفة فرد أهل المدينة أبا هريرة.
قال غياث عن فطر بن خليفة: حدثني أبو خالد الوالبي قال: قرأت عهد علي لجارية بن قدامة: أوصيك يا جارية بتقوى الله، فإنها جموع الخير، وسر على عون الله، فالق عدوك الذي وجهتك له، ولا تقاتل إلا من قاتلك، ولا تجهز على جريح، ولا تسخرن دابة، وإن مشيت ومشى أصحابك، ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم، ولا تشتمن مسلما ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه، ولا تظلمن معاهدا، ولا معاهدة، واذكر الله، ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً، واحملوا رجالتكم، وتواسوا في ذات أيديكم، وأجدد السير، وأجل العدو من حيث كان، واقتله مقبلا، واردده بغيظه صاغراً، وأسفك الدم في الحق، وأحقنه في الحق، ومن تاب فاقبل توبته، وإخبارك في كل حين بكل حال، والصدق الصدق، فلا رأي لكذوب قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شيء حتى انتهى إلى اليمن ونجران، فقتل من قتل وهرب منه بسر، وحرق تحريقا، فسمي محرقاً.
وكتب علي إلى عماله يستحثهم بالخروج، فكتب إلى الأشعث بن قيس، وكان عامله باذربيجان: أما بعد، فإنما غرك من نفسك وجراك على آخرك إملاء الله لك، إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، وتلحد في آياته، وتستمتع بخلاقك، وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا، فأقبل، واحمل ما قبلك من مال المسلمين، إن شاء الله. فلما قرأ الأشعث كتابه أقبل إليه.
وكتب إلى يزيد بن قيس الأرحبي: أما بعد، فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلاً، فلا أجد بداً من الإيقاع بك، واعزز المسلمين ولا تظلم المعاهدين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، أحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.
وكتب إلى سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد، وهو على المدائن: أما بعد، فإنك قد أديت خراجك، وأطعت ربك، وأرضيت إمامك، فعل المبر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك، وتقبل سعيك وحسن مآبك.
وكتب إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي، وهو ابن أم سلمة زوج النبي، وكان عامله على البحرين: أما بعد، فإني قد وليت النعمان بن العجلان البحرين بلا ذم لك، فأقبل، غير ظنين، واخرج إليه من عمل ما وليت، فقد أردت الشخوص إلى ظلمة أهل الشام وبقية الأحزاب، فأحببت أن تشهد معي لقاءهم، فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر، فشهد معه، ثم انصرف وتبع علياً إلى الكوفة، فمكث معه سنة وبعض أخرى.
فبلغه أن النعمان بن العجلان قد ذهب بمال البحرين، فكتب إليه علي: أما بعد، فإنه من استهان بالأمانة ورغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد أمر وأبقى وأشقى وأطول، فخف الله! إنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك، وراجع، إن كان حقاً ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خراجك، ثم اكتب إلي ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله. فلما جاءه كتاب علي، وعلم أنه قد علم حمل المال، لحق معاوية. وكتب إلى مصقلة بن هبيرة، وبلغه أنه يفرق ويهب أموال أردشير خره، وكان عليها: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه إنك تقسم فيء المسلمين في قومك ومن اعتراك من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لأفتش عن ذلك تفتيشاً شافياً، فإن وجدته حقاً لتجدن بنفسك علي هواناً، فلا تكونن من الخاسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
فكتب مصقلة إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقا فليعجل عزلي بعد نكالي، فكل مملوك لي حر، وعلى أيام ربيعة ومضر إن كنت رزأت من عملي ديناراً، ولا درهما، ولا غيرهما، منذ وليته إلى أن ورد علي كتاب أمير المؤمنين، ولتعلمن أن العزل أهون علي من التهمة. فلما قرأ كتابه قال: ما أظن أبا الفضل إلا صادقاً.
ووجه رجلاً من أصحابه إلى بعض عماله مستحثاً، فاستخف به فكتب إليه: أما بعد، فإنك شتمت رسولي وزجرته، وبلغني أنك تبخر وتكثر من الأدهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام الصديقين، وتفعل، إذا نزلت، أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي تعرضت، ويحك أن تقول العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعنيهما سخطت عليه، بل ما عليك أن تدهن رفيها، فقد أمر رسول الله بذلك، وما حملك أن تشهد الناس عليك بخلاف ما تقول، ثم على المنبر حيث يكثر عليك الشاهد، ويعظم مقت الله لك، بل كيف ترجو، وأنت متهوع في النعيم جمعته من الأرملة واليتيم، أن يوجب الله لك أجر الصالحين، بل ما عليك، ثكلتك أمك، لو صمت لله أياماً، وتصدقت بطائفة من طعامك، فإنها سيرة الأنبياء وأدب الصالحين. أصلح نفسك وتب من ذنبك وأد حق الله عليك والسلام.
وكتب إلى قيس بن سعد بن عبادة، وهو على آذربيجان: أما بعد، فأقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله، ثم أن عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيراً، فقد رأيته وادعاً متواضعاً، فألن حجابك وافتح بابك، واعمد إلى الحق، فإن وافق الحق ما يحبو أسره، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
قال غياث: ولما أجمع علي القتال لمعاوية كتب أيضاً إلى قيس: أما بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفة لك، وأقبل إلي، فإن المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجل الإقبال، فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال، إن شاء الله، وما تأخري إلا لك، قضى الله لنا ولك بالإحسان في أمرنا كله.
وكتب إلى سهل بن حنيف، وهو على المدينة: أما بعد، فقد بلغني أن رجالاً من أهل المدينة خرجوا إلى معاوية، فمن أدركته فامنعه، ومن فاتك فلا تأس عليه، فبعدا لهم، فسوف يلقون غياً، أما لو بعثرت القبور، واجتمعت الخصوم، لقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وقد جاءني رسولك يسألني الإذن، فاقبل، عفا الله عنا وعنك، ولا تذر خللاً، إن شاء الله تعالى.
وكتب علي إلى عمر بن مسلمة الأرحبي: أما بعد، فإن دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم فما رأيت خيراً، فلتكن منزلتك بين منزلتين: جلباب لين بطرف من الشدة في غير ظلم ولا نقص، فإنهم أحيونا صاغرين، فخذ ما لك عندهم وهم صاغرون، ولا تتخذ من دون الله ولياً، فقد قال الله عز وجل: لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، وقال جل وعز في أهل الكتاب: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وقال تبارك وتعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم، وقرعهم بخراجهم. وقابل في ورائهم وإياك ودماءهم والسلام.
وكتب إلى قرظة بن كعب الأنصاري: أما بعد، فإن رجالاً من أهل الذمة من عملك ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا وأدفن، وفيه لهم عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم، ثم أعمر وأصلح النهر، فلعمري لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا، وأن يعجزوا أو يقصروا في واجب من صلاح البلاد والسلام. وكتب إلى المنذر بن الجارود، وهو على إصطخر: أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، فإذا أنت لا تدع انقياداً لهواك أزرى ذلك بك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً، وتخرج لاهيا بمنبرها، تطلب الصيد وتلعب بالكلاب، وأقسم لئن كان حقا لنثيبنك فعلك، وجاهل أهلك خير منك، فأقبل إلي حين تنظر في كتابي والسلام.
فأقبل فعزله وأغرمه ثلاثين ألفاً، ثم تركها لصعصعة بن صوحان بعد أن أحلفه عليها، فحلف، وذلك أن علياً دخل على صعصعة يعوده، فلما رآه علي قال: إنك ما علمت حسن المونة خفيق المئونة. فقال صعصعة: وأنت والله، يا أمير المؤمنين، عليم وأبة في صدرك عظيم. فقال له علي: لا تجعلها أبهة على قومك إن عادك أمامك. قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنه من من الله على أن عادني أهل البيت وابن عم رسول رب العالمين. قال غياث فقال له صعصعة: يا أمير المؤمنين! هذه ابنة الجارود تعصر عينيها كل يوم لحبسك أخاها المنذر، فأخرجه، وأنا أضمن ما عليه في أعطيات ربيعة. فقال له علي: ولم تضمنها، وزعم لنا أنه لم يأخذها، فليحلف ونخرجه. فقال له صعصعة: أراه والله سيحلف. قال: وأنا والله أظن ذلك. وقال علي: أما إنه نظار في عطفيه، مختال في برديه، نقال في شراكيه، فليحلف بعد، أو ليدع فحلف فخلى سبيله.
وكتب إلى زياد وكان عامله على فارس: أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه: إن الأكراد هاجت بك، فكسرت عليك كثيراً من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين. يا زياد! وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملاً.
وكتب إلى كعب بن مالك: أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم أن كل عمل ابن آدم محفوظ عليه مجزي به، فاصنع خيراً صنع الله بنا وبك خيراً، وأعلمني الصدق فيما صنعت، والسلام.
قال: وقدم على علي أبو مريم القرشي المكي، كان صديقا له، فلما رآه قال: ما أقدمك يا أبا مريم؟ قال: والله ما جئت في حاجة، ولكن عهدي بك قديم، فأحببت أن أراك، ولو اجتمع أهل الأرض عليك لأقمتم على الطريق. فقال: يا أبا مريم، والله إني لصاحبك الذي تعلم، ولكن منيت بشرار خلق الله إلا من رحم الله، يدعونني فأبى عليهم ثم أجيبهم، فيتفرقون عني، والدنيا محنة الصالحين، جعلنا الله وإياك منهم، ولو لا ما سمعت من حبيبي أنه يقول لضاق ذرعي غير هذا الضيق، سمعته يقول: الجهد والبلاء أسرع إلى من أحب الله وأحبني من السيل إلى مجاريه. وكتب أبو الأسود الدئلي، وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة، إلى علي يعلمه أن عبد الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يأمره بردها، فامتنع، فكتب يقسم له بالله لتردنها، فلما ردها عبد الله بن عباس، أو رد أكثرها، كتب إليه علي: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همك لما بعد الموت، والسلام. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين.
وقال كميل بن زياد: وأخذ بيدي علي، فأخرجني إلى ناحية الجبانة، فلما أصحر تنفس الصعداء ثلاثا، ثم قال: يا كميل، إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثلتهم في القلوب موجودة، ها إن هاهنا، وأشار إلى صدره، لعلما جما لو أصبت له حملة اللهم إلا أن أصيب لقنا غير مأفون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على خلقه، أو منقاداً لحملة الحق لا بصيرة في إحيائه، يقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذة، سلس القيادة للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسوا من رعاة الدين في شيء، أقرب شبها بهم الأنعام السائمة، اللهم كلا! لا تخلو الأرض من قائم بحق إما ظاهر مشهور، وإما خائب مغمور، لئلا يبطل حجج الله عز وجل وبيناته أولئك الأقلون عددا، والأعظمون خطراً، هجم بهم العلم، حتى حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، يا كميل أولئك أولياء الله من خلقه والدعاة إلى دينه، بهم يحفظ الله حججه، حتى يودعوها أمثالهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هاه شوقاً إلى رؤيتهم. وقال: لو أن حملة العلم حملوه لحقه لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا، فمنعهم الله، وهانوا على الناس. وقال: قيمة كل امرئ ما يحسن.
وقال: أيها الناس لا ترجوا إلا ربكم، ولا تخشوا إلا ذنوبكم، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم أن يعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وقال: من كان يريد العز بلا عشيرة، والنسل بلا كثرة، والغناء بلا مال، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة. وقال: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مفتون بحسن القول فيه. وما ابتلي أحد بمثل الإملاء له، ألم تسمع قول الله عز وجل: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " . وقال: من اشتاق إلى الجنة تسلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
وخطب فتلا قول الله عز وجل: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " . ثم قال: إن هذا الأمر ينزل من السماء كقطر المطر إلى كل نفس بما كتب الله لها من نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن أصابه نقص في أهله وماله، ورأى عند أخيه عفوه، فلا يكونن ذلك عليه فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يأت دنياه يخشع لها وتذله، إذا
ذكرت تغرى به ليألم. الناس كالياسر ألفاًلح الذي ينتظر أول فوزه من قداحه يوجب له المغنم، ويدفع عنه المغرم، كذلك المرء البريء من الخيانة والكذب يترقب كل يوم وليلة إحدى الحسنيين: إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما فتحا من الله، فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه حسبه ودينه. المال والبنون حزب الدنيا، والعمل الصالح حزب الآخرة، وقد يجمعهم الله لأقوام.
وقال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت مروته، وظهر عدله، ووجب وصله.
وخرج يوماً فقال: يا طالب العلم! إن للعالم ثلاث علامات: العلم بالله، وبما يحب الله، وبما يكره الله: وللعامل ثلاث علامات: الصلاة، والزكاة، والورع. وللمتكلف من الرجال ثلاث علامات: ينازع من هو فوقه، ويقول بما لا يعلم، ويتعاطى ما لا ينال. وللظالم ثلاث علامات يظلم من هو فوقه بالمعصية، ومن هو دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة والإثم. وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان من يراه، ويحب أن يحمد في جميع أموره. وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتقرب إذا شهد، ويشمت بالمصيبة. وللمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه قلبه، وقوله فعله، وعلانيته سريرته. وللمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشرب ما ليس له، ويلبس ما ليس له. وللكسلان من الرجال ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم. وإنما هلك الذين قبلكم بالتكلف، فلا يتكلف رجل منكم أن يتكلم في دين الله بما لا يعرف، فإن الله عز وجل يعذر على الخطإ إن أجهدت رأيك.
وقال لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن، وإن تركتهن، فلا ينفعك شيء سواهن. قال: وما هن؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال له عمر: أبلغت وأوجزت.
وسمع رجلاً يذم الدنيا، فقال: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة فربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، مثلت ببلاها البلا، وشوقت بسرورها السرور، راحت بفجيعة، وأبكرت بعافية ترغيباً وترهيباً وتحذيراً وتخويفاً، ذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، فيا ذام الدنيا، المغتر بغرورها! متى استذمت إليك بل متى غرتك؟ أبمضاجع آبائك من البلى، أو بمنازل أمهاتك من الثرى؟ كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك، من تبتغي له الشفاء وتستوصف له الأطباء، فلم ينفعه تطبيبك ولم يستعف له بعافيتك، مثلت به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا يغني عنك بكاؤك ولا ينفعك أحباؤك.
وخطب فقال: إن من أخوف ما أخاف عليكم خصلتين: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، له قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا، إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي وجمالي وبهائي وعلوي وارتفاعي في مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في الآخرة وغناءه في قلبه، وضمنت السموات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
وقال: حصر بالبلاء من عرف الناس، ومن جهلهم عاش معهم. وقال: يأتي على الناس زمان لا يعز فيه إلا الماحل، ولا يستظرف إلا الفاجر، ولا يضعف إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً، والعبادة استطالة على الناس، وصلة الرحم منا، والعلم متجراً، فعند ذلك يكون سلطان النساء ومشورة الإماء وإمارة الصبيان.
وقال: لا تصلح الناس إمارة يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الكتاب الأجل. وغزا فقال لرجل: لئن جزعت إن الرحم ليستحق ذاك، وإن صبرت كأني بها مأجوراً، وإلا صبرت كارهاً مأزوراً. وقيل لعلي: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مظلوم. وقيل له: كم مسافة الدنيا؟ فقال: مسير الشمس يوماً إلى الليل. وقال يوم الجمل: الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم، ولا يفوته الهارب، أقدموا ولا تنكلوا ليس عن الموت محيص، إنكم إن لم تقتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش.
وقال له رجل: أوصني. فقال: أوصيك بتقوى الله، واجتناب الغضب، وترك الأماني، وأن تحافظ على ساعتين من النهار: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها، ولا تفرح بما علمت، ولكن بما عملت فيها.
وأتي برجل جنى جناية، فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحباً بوجوه لا ترى إلا عند كل سوء. وقال له الحارث بن حوط الراني: أظن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل، فقال: يا حارث! إنه ملبوس عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه.
ورأى رجلاً يسأله عشية عرفة، فقال: ويحك تسأل في هذا اليوم غير الله! وروي عنه أنه قال: يا معشر الفتيان حصنوا أعراضكم بالأدب ودينكم بالعلم. وكان إذا انصرف من صلاته أقبل على الناس بوجهه فقال: كونوا مصابيح الهدى، ولا تكونوا أعلام ضلالة، واكرهوا المزاح بما يسخط الله، وليهن عليكم الذم فيما يرضى الله، علموا الناس الخير بعبر ألسنتكم، وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع.
وقال: الصمت حلم، والسكوت سلامة، والكتمان سعادة. واجتمع عنده جماعة فتذاكروا المعروف، فقال: المعروف كنز من أفضل الكنوز، وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره وجحد من جحده، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شيء أعظم مما ناله أهل منه، فلا تلتمس من غيرك ما أسديت إلى نفسك، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله، فإذا صغرته فقد عظمته، وإذا سترته فقد أتممته، وإذا عجلته فقد هنأته.
وقدم عليه قوم من أهل الغرب فقال لهم: أ فيكم من قد شهر نفسه حتى لا يعرف إلا به؟ فقالوا: نعم! قال: وفيكم قوم بين ذلك يتصونون من السيئات ويعملون الحسنات؟ قالوا: نعم! قال أولئك خير أمه محمد، أولئك النمرقة الوسطى، بهم يرجع الغالي، وبهم يلحق المقصر.
وروي عنه أنه قال: ألهم البهائم كل شيء إلا أربع خصال: أن الله عز وجل خالقها ورازقها... وإتيان الذكر الأنثى، والفرار من الموت، وطلب الرزق.
وقال: ستة لا يسلم عليهم: اليهودي، والنصراني والمجوسي، والشاعر يقذف المحصنات، وقوم يتفكهون بسب الأمهات، وقوم على مائدة يشرب عليها الخمر.
وقال: الأئمة من قريش خيارهم على خيارهم، وشرارهم على شرارهم. وقضى على رجل بقضية فقال: يا أمير المؤمنين! قضيت علي بقضية هلك فيها مالي، وضاع فيها عيالي! فغضب حتى استبان الغضب في وجهه، ثم قال: يا قنبر! ناد في الناس الصلاة جامعة. فاجتمع الناس ورقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فذمتي رهينة، وأنا به زعيم، بجميع من صرحت له العبر إلا يهيج على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصل، وإن الخير كله فيمن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره، إن من أبغض خلق الله إلى الله العبد وكله إلى نفسه جائراً عن قصد السبيل، مشغوفاً بكلام بدعة، قد قمس في أشباهه من الناس
عشواء، غارا بأغباش الفتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة على من تبعه، قد سماه أشباه الناس عالما، ولم يغن فيه يوماً، سالما بكر، فاستكثر مما قل منه، فهو خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً، ضامناً بتخليص ما التبس على غيره، إن قايس شيئاً بشيء لم يكذب نفسه، وإن التبس عليه شيء كتمه من نفسه لكيلا يقال لا يعلم، ولا مليء والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل بما قرظ به من حسن، مفتاح عشوات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعرض في العلم ببصيرة، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بمرضاته الفرج الحلال، فأين يتاه بكم، بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم؟ أنا من سنخ أصلاب أصحاب السفينة، وكما نجا في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو، ويل رهين لمن تخلف عنهم، إني فيكم كالكهف لأهل الكهف، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا، ومن تخلف عنه هلك، حجة من ذي الحجة في حجة الوداع، إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وحكم بأحكام عجيبة، حتى أنه حرق قوما، ودخن على آخرين، وقطع بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول: استتروا ببيوتكم، والتوبة وراءكم، من أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمام هوادة.
وقدم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة أربعين، فلما بلغ علياً قدومه قال: وقد وافى؟ أما إنه ما بقي على غيره، هذا أو إنه، فنزل على الأشعث بن قيس الكندي، فأقام عنده شهراً يستحد سيفه، وكانوا ثلاثة نفر توجهوا، فواحد منهم إلى معاوية بالشام، وآخر إلى عمرو بن العاص بمصر، والآخر إلى علي، وهو ابن ملجم، فأما صاحب معاوية فضربه، فوقعت الضربة على أليته، وبادر فدخل داره، وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه ضرب خارجة بن حذافة خليفة عمرو في الصبح، وكان عمرو تخلف لعلة، فقال الخارجي: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وأما عبد الرحمن بن ملجم، فإنه وقف له عند المسجد، وخرج علي في الغلس، فتبعه إوز كن في الدار، فتعلقن بثوبه، فقال: صوائح تتبعها نوائح، وأدخل رأسه من باب خوخة المسجد، وضربه على رأسه، فسقط، وصاح: خذوه! فابتدره الناس، فجعل لا يقرب منه أحد إلا نفحة بسيفه، فبادر إليه قثم بن العباس، فاحتمله وضرب به الأرض، فصاح: يا علي نح عني كلبك، وأتي به إلى علي، فقال: ابن ملجم؟ قال: نعم! فقال: يا حسن شأنك بخصمك، فأشبع بطنه، واشدد وثاقه، فإن مت فألحقه بي أخاصمه عند ربي، وإن عشت فعفو أو قصاص. وأقام يومين ومات ليلة الجمعة أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان سنة أربعين، ومن شهور العجم في كانون الآخر، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وغسله الحسن ابنه بيده، وصلى عليه وكبر عليه سبعا، وقال: أما إنه لا يكبر على أحد بعده، ودفن بالكوفة في موضع يقال له الغري، وكانت خلافته أربع سنين وعشرة أشهر.
وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكرا: الحسن، والحسين، ومحسن، مات صغيرا، أمهم فاطمة بنت رسول الله، ومحمد الأكبر، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، وعبيد الله، وأبو بكر، لا عقب لهما، أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تميم، والعباس وجعفر قتلا بالطف، وعثمان وعبد الله، أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وعمرو، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية، ومحمد الأصغر، لا عقب له، أمه أمامة بنت أبي العاص، وعثمان الأصغر ويحيى وأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، وكان له من البنات ثماني عشرة ابنة، منهن من فاطمة ثلاث، والباقيات لعدة نسوة، وأمهات أولاد شتى، وكان على شرطة معقل بن قيس الرياحي، وحاجبه قنبر مولاه.
ولما مات قام الحسن خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون، من كان يقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والله لقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن، ألا وإنه ما خلف صفراً ولا بيضاً إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله. فقام القعقاع بن زرارة على قبره، فقال: رضوان الله عليك، يا أمير المؤمنين، فو الله لقد كانت حياتك مفتاح خير، ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة، وآثروا الدنيا على الآخرة.
وأقام الحج للناس في خلافته في سنة ستة وثلاثون عبد الله بن العباس، وفي سنة سبع وثلاثون قثم بن العباس، وقيل عبد الله بن العباس، وفي سنة ثمان وثلاثون عبيد الله بن العباس، وفي سنة تسع وثلاثون شيبة بن عثمان. وكان أصحاب علي الذين يحملون عنه العلم: الحارث الأعور، أبو الطفيل عامر بن واثلة، حبة العرني، رشيد الهجري، حويزة بن مسهر، الأصبغ بن نباتة، ميثم التمار، الحسن بن علي.
خلافة الحسن بن عليواجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع، فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال: عبد الرحمن! ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتص أو أعفو، وإن مات ألحقتك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضا، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله.
وأقام الحسن بن علي بعد أبيه شهرين، وقيل أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة، وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً، والتقى العسكران، فوجه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني! فيقال: إنه أرسل إلى عبيد الله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته.
وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه.
ووجه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه، وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه.
وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم باخرنا، وقد سالمت معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
أيام معاوية بن أبي سفيانوملك معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وبويع بالكوفة في ذي القعدة سنة أربعين، وكانت الشمس في الحمل درجتين، والقمر في الثور خمس عشرة درجة، وزحل في العقرب تسعاً وعشرين درجة، والمشتري في الثور تسعاً وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والمريخ في الثور ست عشرة درجة، والزهرة في الثور أربع درجات، وعطارد في الحوت ست عشرة درجة. وقدم الكوفة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمه بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل.
وأحضر الناس لبيعته، وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية! إني لأبايعك، وإني لكاره لك، فيقول: بايع، فإن الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من شر نفسك! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس! قال: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم، يا معاوية. فقال له: مه، رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحب.
قال: فلا يرد أمر الله. قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف نجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون؟ فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: أقسمت عليك! ثم صفق على كفه، ونادى الناس: بايع قيس! فقال، كذبتم، والله، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الأيمان، فكان أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: أ لا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك إنما أنت منتز.
وخرج فروة بن نوفل الأشجعي سنة أربعين، وكان معتزلا بشهرزور في جماعة من الخوارج، فلما بلغه قتل علي وغلبة معاوية أقبل في ألف وخمسمائة حتى صار بالنخيلة، فوجه إليه معاوية خيلا، فكشفهم، فأخذ معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم، فخرجوا خوفا منه، فلما لقوهم قال لهم فروة بن نوفل: دعونا فإن معاوية عدونا وعدوكم، فقاتلهم أهل الكوفة أشد قتال، حتى قتل فروة، وأفرخ روع معاوية.
ورجع معاوية إلى الشام سنة أحدى وأربعون، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه، فصالحه على مائة ألف دينار.
وكان معاوية أول من صالح الروم. وكان صلحه إياهم في أول سنة اثنتن وأربعون، فلما استقام الأمر لمعاوية أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، وقد ذكرنا أسماءهم في موضع الصوائف. وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال، فلم يجبه. وولي عبد الله بن عامر بن كريز البصرة، فلما قدمها وجه عبد الرحمن ابن سمرة إلى خراسان، فغزا بلخ وكابل، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فافتتح بلخ بعد حرب شديدة، وصار إلى كابل، فأقام عليها ليالي، ثم أتاه بواب باب المدينة، فجعل له شيئاً حتى فتح الباب، وكانت الحرب في المدينة، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم ابن سمرة، وانصرف وخلف ابن خازم بخراسان. وولى معاوية عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، وكتب إليه: احمل إلي من مالها ما أستعين به! فكتب إليه ابن دراج يعلمه أن الدهاقين أعلموه أنه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لأنفسهم ولا تجري مجرى الخراج. فكتب إليه: أن أحص تلك الصوافي واستصفها، واضرب عليها المسنيات. فجمع الدهاقين، فسألهم، فقالوا: الديوان بحلوان. فبعث فأتي به، فاستخرج منه كل ما كان لكسرى وآل كسرى، وضرب عليه المسنيات، واستصفاه لمعاوية، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من أرض الكوفة وسوادها.
وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة، وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز والمهرجان، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف.
وكان زياد بن عبيد عامل علي بن أبي طالب على فارس، فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه يتوعده ويتهدده فقام زياد خطيباً فقال: إن ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعين ألفاً واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم لا يلتفت أحدهم حتى يموت، أما والله لئن وصل إلي ليجدنى
أحمز، ضرابا بالسيف. فوجه معاوية إليه المغيرة بن شعبة، فأقدمه ثم ادعاه، وألحقه بأبي سفيان، وولاه البصرة، وأحضر زياد شهودا أربعة، فشهد أحدهم أن علي بن أبي طالب أعلمه انهم كانوا جلوساً عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري، فتكلم زياد بكلام أعجبه، فقال: أكنت قائلا للناس هذا على المنبر؟ قال: هم أهون علي منك، يا أمير المؤمنين، فقال أبو سفيان: والله لهو ابني، ولأنا وضعته في رحم أمه. قلت: فما يمنعك من ادعائه؟ قال: مخافة هذا العير الناهق.
وتقدم آخر فشهد على هذه الشهادة. قال زياد الهمداني: لما سأله زياد كيف قولك في علي؟ قال: مثل قولك حين ولاك فارس، وشهد لك أنك ابن أبي سفيان.
وتقدم أبو مريم السلولي فقال: ما أدري ما شهادة علي، ولكني كنت خماراً بالطائف، فمر بي أبو سفيان منصرفا من سفر له، فطعم وشرب، ثم قال: يا أبا مريم طالت الغربة، فهل من بغي؟ فقلت: ما أجد لك إلا أمه بني عجلان قال: فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها، فأتيته بها، فوقع عليها، ثم رجع إلي فقال لي: يا أبا مريم! لاستلت ماء ظهري استلالاً تثيب ابن الحبل في عينها. فقال له زياد: إنما أتينا بك شاهداً، ولم نأت بك شاتماً. قال: أقول الحق على ما كان، فأنفذ معاوية... قال ما قد بلغكم وشهد بما سمعتم، فإن كان ما قالوا حقا، فالحمد لله الذي حفظ مني ما ضيع الناس، ورفع مني ما وضعوا، وإن كان باطلاً، فمعاوية والشهود أعلم. وما كان عبيد إلا ولداً مبروراً مشكوراً. ونزل وولي المغيرة ابن شعبة الكوفة في جمادى... سنة اثنان وأربعون فأقام عليها حينا، ثم بدا له وولى عبد الله بن عامر بن كريز الكوفة، فلما بلغ أهل الكوفة الخبر خرج كثير من الناس إلى عبد الله بن عامر، فجعل المغيرة لا يسأل عن أحد إلا قيل له قد خرج إلى عبد الله بن عامر، حتى سأل عن كاتبه، فقيل له: قد لحق بعبد الله، فقال: يا غلام شد رحلي وقدم بغلي، فخرج حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا مغيرة، تركت العمل، وأخللت بالمصر وأهل العراق وهم أسرع شيء إلى الفتن؟ قال: يا أمير المؤمنين كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي، والله ما آسى على شيء منها إلا على شيء واحد قدرت به قضاء حقك، ووددت أنه لا يفوتني أجلي وإن الله أحسن عليه معونتي. قال: وما هو؟ قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية العهد بعد أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، ووجدتهم سراعا نحوه، فكرهت أن أحدث أمرا دون رأي أمير المؤمنين، فقدمت لأشافهه بذلك، وأستعفيه من العمل. فقال: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك الله إلا رجعت فتممت هذا. فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة، فو الله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء. وانصرف إلى الكوفة.
وكتب معاوية إلى زياد، وهو بالبصرة، إن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد بعدي، وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد. فلما بلغ زياداً وقرأ الكتاب دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال: إني أريد أن آتمنك على ما لم آتمن عليه بطون الصحائف، ايت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين، فعسينا أن نموه على الناس. فلما صار الرسول إلى معاوية وأدى إليه الرسالة قال: ويلي على ابن عبيد! لقد بلغني أن الحادي حدا له أن الأمير بعدي زياد، والله لأردنه إلى أمه سمية، وإلى أبيه عبيد.
وقدم المغيرة الكوفة منصرفا من عند معاوية، وقد خرج شبيب بن بجرة الأشجعي الخارجي، فلما
علم أن قدم المغيرة هرب إلى معاوية فقال: أنا قاتل علي بن أبي طالب، وكان شبيب بن بجرة مع ابن ملجم في الليلة التي ضرب فيها علياً، فقال له معاوية: لا أراك ولا تراني. فرجع إلى الكوفة فقاتل المغيرة، فوجه إليه جيشا فقتله.
وخرج المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب سنة ثلاث وأربعون فوجه إليه المغيرة خيلاً، فقتل بأسفل ساباط، وقتل أصحابه جميعاً. وخرج بعده معاذ بن جوين الطائي أبو المستورد، فوجه إليه المغيرة خيلا عليها رجل من همدان، فقتلوه.
وخرجت عصابة من الموالي، أميرهم أبو علي من أهل الكوفة، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، وكانت أول خارجة خرجت فيها الموالي، فبعث المغيرة إليهم رجلاً من بجيلة، فالتقوا ببادوريا، فناداهم البجلي: يا معشر الأعاجم! هذه العرب تقاتلنا على الدين، فما بالكم؟ فنادوه: يا جابر! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، وإن الله بعث نبينا للناس كافة، ولم يزوه عن أحد. فقاتلهم حتى قتلهم.
وكانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمة شرطها له يوم بايع، ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصر، أعطاه أهلها، فهم له حياته، ولا تنقص طاعته شرطاً. فقال له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك، فجعل عمرو يقرأ الشرط، ولا يقف على ما وقف عليه وردان، فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا كظمء حمار، هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية، فلم يقله، فكان عمرو لا يحمل إليه من مالها شيئاً، يفرق الأعطيه في الناس، فما فضل من شيء أخذه لنفسه.
وولي عمرو بن العاص مصر عشر سنين، منها لعمر بن الخطاب أربع سنين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي وله ثمان وتسعون سنة، وكان داهية العرب رأياً وحزماً وعقلاً ولساناً، وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى رجلاً يكلم فلا يقيم كلامه يقول: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص.
وقال بعضهم: سمعت عمراً يقول: سلطان عادل خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم، وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر، واستراح من لا عقل له. ولما حضرت عمراً الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنه كان مات في غزاة ذات السلاسل. إني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته، فقال: يا ليته كان بعرى، يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمى على رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.
وتوفي عمرو ليلة الفطر سنة أربع وثلاثون، فأقر معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثم استصفى مال عمرو، فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله، فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنها عمر بن الخطاب. ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو، وولى أخاه عتبة ابن أبي سفيان مصر.
وكتب معاوية إلى زياد بن أبي سفيان: إن قبلك رجلاً من أصحاب رسول الله فوله خراسان، وهو الحكم بن عمرو الغفاري، فولاه زياد خراسان، فقدمها سنة أربع وأربعون، فصار إلى هراة، ثم مضى منها إلى الجوزجان، فافتتحها، ونالتهم شدة حتى أكلوا دوابهم، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو في ذلك الوقت، وقد عرف بلاء المهلب وبأسه، وتوفي الحكم بن عمرو، فولى زياد مكانه الربيع بن زياد الحارثي، وفتحت خوارزم في ذلك الوقت، وكان الذي افتتحها عبد الله بن عقيل الثقفي.
وحج معاوية سنة أربع وأربعون، وقدم معه من الشام بمنبر، فوضعه عند باب البيت الحرام، فكان أول من وضع المنبر في المسجد الحرام. ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم، وكلموه في أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم، وقد قتلتم عثمان، حتى تقولوا ما تقولون؟ فو الله لا أنتم أجل دما من كذا وكذا، وأعظم في القول، فقال له ابن عباس: كل ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دقتيك، أنت والله أولى بذلك منا، أنت قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس إنك تطلب بدمه فانكسر معاوية، فقال ابن عباس: والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت. قال: فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب إنكم لم تكونوا كلمتموني.
ثم كلمه الأنصار، فأغلظ لهم في القول، وقال لهم: ما فعلت نواضحكم قالوا: أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك، ولكنا نفعل ما أوصانا به رسول الله. قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر. قال: فاصبروا. ثم أدلج معاوية إلى الشام، ولم يقض لهم حاجة.
وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين، وخطب الخطبة قبل الصلاة، وذلك أن الناس، إذا صلوا، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي، فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله. واستعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف، فقتله، فحبسه معاوية أياماً، ثم أغرمه ديته، ولم يقده منه.
وكان ابن أثال قتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دس إليه شربة سم، فعيره المنذر بن الزبير بن العوام، وقال: تتكلم، وابن أثال بحمص يأمر وينهى؟ فلما قتله قال خالد بن عبد الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال وهذا عمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير آمن السرب.
وكان عبد الرحمن بن العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام، فجفاه معاوية، ولم يقض له حاجة، ودخل إليه يوماً، فقال له: يا ابن العباس كيف رأيت الله فعل بنا وبأبي الحسن؟ فقال: فعلا، والله، غير مختل عجلة إلى جنة لن تنالها، وأخرك إلى دنيا قد كان أمير المؤمنين نالها. قال: وإنك لتحكم على الله! قال: بما حكم الله به على نفسه، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون. قال معاوية: والله لو عاش أبو عمرو حتى يراني لرأى نقم ابن العم. فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك خذلته حين كانت النصرة له ونصرته حين كانت النصرة لك. قال: وما دخولك بين العصا ولحائها؟ قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلأن تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسيء فأكافي، ثم نهض.
وفاة الحسن بن عليوتوفي الحسن بن علي في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعون، ولما حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين: يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي هذه، وأنا ميت من يومي، فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله، فما أحد أولى بقربه مني، إلا أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم. ولما لف في أكفانه قال محمد بن الحنفية: رحمك الله أبا محمد، فو الله لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك، ونعم الروح روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك، وأنت سليل الهدى، وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كف الحق، وربيت في حجر الإسلام، وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك.
ثم أخرج نعشه يراد به قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب مروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، فمنعا من ذلك، حتى كادت تقع فتنة.
وقيل إن عائشة ركبت بغلة شهباء، وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد. فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال لها: يا عمة ! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر، أ تريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت.
واجتمع مع الحسين بن علي جماعة وخلق من الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فو الله ما هم عندنا كأكله رأس. فقال: إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم. فدفن الحسن في البقيع، وكانت سنة سبعاً وأربعين سنة، وتوفي الحسن بن علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس! إن حسنا مات. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات، فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير وبقيت على شر. قال: لا أحسبه قد خلف إلا صبية صغاراً. قال: كلنا كان صغيراً فكبر. قال: بخ بخ، يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن رسول الله، فلا.
وكان الحسن بن علي جواداً كريماً وأشبه برسول الله خلقاً وخلقاً وسأل الحسن: ما ذا سمعت من رسول الله؟ فقال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت عنه أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرن الضيقة، تناولت تمرة فأدخلتها في فمي. قال: فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه في فمي، فاستخرجها، فألقاها، وقال: إن محمداً وآل محمد لا تحل لهم الصدقة. وعقلت عنه الصلوات الخمس.
وحج الحسن خمس عشرة حجة ماشياً، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات، حتى كان يعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك أخرى.
وقال معاوية للحسن: يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني عنهن. قال: وما هن؟ قال: المروة والكرم والنجدة. قال: أما المروة فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكف، وإفشاء السلام والتحبب إلى الناس. والكرم العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والإطعام في المحل، ثم النجدة الذب عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد.
وقال جابر: سمعت الحسن يقول: مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافاة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
وقيل للحسن: من أحسن الناس عيشا؟ قال: من أشرك الناس في عيشه. وقيل: من شر الناس عيشاً؟ قال: من لا يعيش في عيشه أحد. وقال الحسن: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من المصيبة سوء الخلق، والعبادة انتظار الفرج.
ودعا الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي! إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم يرويه أو يحفظه، فليكتبه وليجعله في بيته. وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت! قال: ذاك إنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
وقال معاوية: ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض، فعرض الحسن ابن علي أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
وقال له معاوية يوما: ما يجب لنا في سلطاننا؟ قال: ما قال سليمان بن داود. قال معاوية: وما قال سليمان بن داود؟ قال: قال لبعض أصحابه: أ تدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره؟ إذا أدى الذي عليه منه، وإذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضا، وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً، ولم يأكلها إسرافاً وبذاراً لم يضره ما تمتع به من دنياه، إذا كان ذلك من خلته. وقال الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها وبميسور من القول. ومر الحسن يوماً وقاص يقص على باب مسجد رسول الله، فقال الحسن: ما أنت؟ فقال: أنا قاص يا ابن رسول الله. قال: كذبت، محمد القاص، قال الله عز وجل: فاقصص القصص. قال: فأنا مذكر. قال: كذبت، محمد المذكر، قال له عز وجل: فذكر إنما أنت مذكر قال: فما أنا؟ قال: المتكلف من الرجال.
وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور، وهم: الحسن بن الحسن، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، وزيد بن الحسن، وأمه أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري الخزرجي، وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهات أولاد شتى، وطلحة وعبيد الله.
ولما توفي الحسن وبلغ الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً غفر الله ذنبه وتقبل حسناته، وألحقه بنبيه، وضاعف لك الأجر في المصاب به وجبر بك المصيبة من بعده
فعند الله نحتسبه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأمة عامة، وأنت وهذه الشيعة خاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد المرجو لإقامة الدين وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، إن ذلك لمن عزم الأمور، فإن فيك خلفا ممن كان قبلك، وإن الله يؤتي رشده من يهدي بهديك، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك.
وبايع معاوية لابنه يزيد بولاية العهد، بعد وفاة الحسن بن علي، ولم يتخلف عن البيعة إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. وقال عبد الله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر، ويظهر الفسوق! ما حجتنا عند الله! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أفسد علينا ديننا.
وحج معاوية تلك السنة فتألف القوم، ولم يكرههم على البيعة، وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة، ومعه سفيان بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم فنال المسلمين في بلاد الروم حمى وجدري، وكانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها محباً، فلما بلغه ما نال الناس من الحمى والجدري قال:
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالغذ قذونه من حمى ومن موم
إذا اتكأت على الأنماط في غرف ... بدير مران عندي أم كلثوم
فبلغ ذلك معاوية فقال: أقسم بالله لتدخلن أرض الروم فليصيبنك ما أصابهم، فأردف به ذلك الجيش، فغزا به حتى بلغ القسطنطينية.
ووجه معاوية عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية فافتتحها واختط قيروانها، وبناه، وكان موضع دغل وحلفاء تنزله الأسد، وكان ذلك سنة خمسين، ثم ولى معاوية دينارا أبا المهاجر، مولى الأنصار، مكان عقبة بن نافع الفهري، فأخذ عقبة بن نافع، فحبسه وقيده، فأقام في الحبس شهورا، ثم أطلقه، فلما صار إلى مصر رده عمرو بن العاص إلى المغرب.
وقيل ورد كتاب من معاوية على عمرو يأمره بذلك. فلما قدم عقبة إفريقية أخذ ديناراً فحبسه، وخرج على عقبة رجل من البربر يقال له ابن الكاهنة، ولم يزل عقبة على البلد أيام معاوية ويزيد بن معاوية.
وتوفي المغيرة بن شعبة سنة إحدى وخمسين، فولى معاوية الكوفة زياداً، وضمها إليه مع البصرة، فكان أول من جمع له المصران. وكتب زياد إلى معاوية: أني قد شغلت شمالي بالعراق ويميني فارغة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يوليني الموسم؟ فكتب إليه بولاية الحجاز، وقيل بولاية الموسم.
وكان عبد الله بن عمر يدخل فيقول: ارفعوا أيديكم فادعوا الله أن يكفيكم يمين زياد.
وروى بعضهم أن أبا بكرة أخاه أتاه، فخاطب صبيا له، وكان قد حلف ألا يكلمه مه كاع عن الشهادة على المغيرة، فقال: يا بني أبوك ركب في الإسلام عظيما، شتم أمه، وانتفى من أبيه، ثم هو الآن يريد أن يفعل ما هو أكبر من هذا، يمر بالمدينة، فيستأذن على أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن أذنت فأعظم بها مصيبة على رسول الله، وعلى المسلمين، فإن لم تأذن له فأعظم بها فضيحة على أبيك. فتأخر عن الخروج.
وكان حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب، إذا سمعوا المغيرة وغيره من أصحاب معاوية، وهم يلعنون علياً على المنبر، يقومون فيردون اللعن عليهم، ويتكلمون في ذلك. فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم يحمد الله فيها، ولم يصل على محمد وأرعد فيها وأبرق، وتوعد وتهدد، وأنكر كلام من تكلم، وحذرهم ورهبهم، وقال: قد سميت الكذبة، على المنبر، الصلعاء فإذا أوعدتكم أو وعدتكم، فلم أف لكم بوعدي ووعيدي، فلا طاعة لي عليكم.
وكانت بينه وبين حجر بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر! أرأيت ما كنت عليه من المحبة والموالاة لعلي؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة، أورأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت علياً بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر.
ثم بلغه انهم يجتمعون، فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية، ويذكرون مساويهما، ويحرضون الناس، فوجه صاحب شرطه إليهم، فأخذ جماعة منهم فقتلوا، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعي إلى الموصل وعدة معه، وأخذ زياد حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه فأشخصهم إلى معاوية، فكتب فيهم انهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك من الطاعة، وأنفذ شهادات قوم أولهم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم وجه إليهم من يضرب أعناقهم، فكلمه قوم في ستة منهم، فوقف عنهم، فقتل سبعة: حجر بن عدي الكندي وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب التميمي، وكدام بن حيان العنزي، ولما أراد قتلهم قال حجر بن عدي: دعوني حتى أصلي، فصلى ركعتين خفيفتين ثم أقبل عليهم فقال: لو لا أن تظنوا بي خلاف ما بي لأحببت أن تكونا أطول مما هما، وإني لأول من رمي بسهم في هذا الموضع، وأول من هلك فيه. فقيل له: أجزعت؟ فقال: ولم لا أجزع، وأنا أرى سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً؟ ثم ضربت عنقه وأعناق القوم، وكفنوا ودفنوا، وكان ذلك في سنة اثنان وخمسين.
وقال معاوية للحسين بن علي: يا أبا عبد الله! علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم، ودفناهم؟ فقال الحسين: حجرك، ورب الكعبة، لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما كفناهم، ولا حنظناهم، ولا صلينا عليهم ولا دفناهم.
وقالت عائشة لمعاوية حين حج، ودخل إليها: يا معاوية! أقتلت حجرا وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السموات. قال: لم يحضرني رجل رشيد، يا أم المؤمنين.
وروي أن معاوية كان يقول: ما أعد نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحاب حجر. وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم، وكان عامل معاوية على الموصل، مكان عمرو بن الحمق الخزاعي، ورفاعة بن شداد، فوجه في طلبهما، فخرجا هاربين، وعمرو بن الحمق شديد العلة، فلما كان في بعض الطريق لدغت عمراً حية، فقال: الله أكبر! قال لي رسول الله: يا عمرو ليشترك في قتلك الجن والإنس. ثم قال لرفاعة: امض لشأنك، فإني مأخوذ ومقتول. ولحقته رسل عبد الرحمن ابن أم الحكم، فأخذوه وضربت عنقه، ونصب رأسه على رمح، وطيف به، فكان أول رأس طيف به في الإسلام. وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق، فلما أتى رأسه بعث به، فوضع في حجرها، فقالت للرسول: أبلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجل له الويل من نقمه، فلقد أتى أمراً فريا، وقتل براً نقياً. وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال.
وخرج قريب وزحاف الخارجيان بالبصرة في جماعة من الخوارج، فاستعرضا الشرط، فقتلا منهم خلقا عظيما، وصارا إلى المسجد الجامع، فقتلا خلقاً من الناس، ومالوا إلى القبائل، ففعلوا مثل ذلك. وكان زياد بالكوفة وعامله على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فحاربهم، فلما لم يكن له بهم طاقة كتب إلى زياد، فأقبل زياد حتى صار إلى البصرة، فصار إلى دار الإمارة، ثم قال: يا أهل البصرة ما هذا الذي قد اشتملتم عليه؟ إني أعطي الله عهداً لا يخرج على خارجي بعدها فأدع من حيه وقبيلته أحداً، فاكفوني بوائقكم. فقام خطباء البصرة، فتكلموا واعتذروا.
وكان معاوية أول من أقام الحرس والشرط والبوابين في الإسلام، وأرخى الستور واستكتب النصارى، ومشى بين يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الأعطيه، وجلس على السرير، والناس تحته، وجعل ديوان الخاتم وبنى وشيد البناء، وسخر الناس في بنائه، ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال الناس، فأخذها لنفسه.
وكان سعيد بن المسيب يقول: فعل الله بمعاوية وفعل، فإنه أول من أعاد هذا الأمر ملكاً. وكان معاوية يقول: أنا أول الملوك. ورحل إليه عبد الله بن عمر يوماً، فقال: يا أبا عبد الله! كيف ترى بنياننا؟ قال: إن كان من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كان من مالك فأنت من المسرفين. ودخل إليه عدي بن حاتم، فقال له: كيف زماننا هذا يا أبا طريف؟ قال: إن صدقناكم خفناكم، وإن
كذبناكم خفنا الله. قال: أقسمت عليك! قال: عدل زمانكم هذا جور زمان قد مضى، وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي. واستقر خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام معاوية على ستمائة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف درهم.
وكان خراج السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وخراج فارس سبعين ألف ألف، وخراج الأهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف، وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم، وخراج كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم، وخراج نهاوند وماه الكوفة، وهو الدينور، وماه البصرة، وهو همذان، وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم، وخراج الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم، وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وخراج آذربيجان ثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن أخرج معاوية من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه لأنفسها من الضياع العامرة وجعله صافية لنفسه، فأقطعه جماعة من أهل بيته.
وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم، فمنها كانت صلاته وجوائزه، واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص يحمل منها إليه الشيء اليسير، فلما مات عمرو حمل المال إلى معاوية، فكان يفرق في الناس أعطياتهم، ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الأردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج جند حمص على ثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وخراج قنسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج الجزيرة، وهي ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف ومائتي ألف دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار.
وكان معاوية قد ولي اليمن، لما استقامت له الأمور، فيروز الديلمي، ثم استعمل مكانه عثمان بن عفان الثقفي، ثم استعمل ابن بشير الأنصاري. وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل بيته وخاصته. وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا، حتى بمكة والمدينة، فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أوساق التمر والحنطة.
وكان معاوية وجه إلى ثغر الهند ابن سوار بن همام، فشخص في أربعة آلاف حتى أتى مكران، فأقام بها شهوراً، ثم غزا القيقان، فقاتلهم، وصبر على قتالهم، فقتل ابن سوار وعامة ذلك الجيش، ورجع من بقي معه إلى مكران، فكتب معاوية إلى زياد أن يوجه رجلاً له حزم وجزالة. فوجه سنان بن سلمة الهذلي فأتى مكران، فلم يزل بها مقيما ثم صرفه زياد، وولى راشد بن عمرو الجديدي الأزدي، فغزا القيقان، فظفر وغنم، وغزا بعض بلاد السند، وفتح بلاد الهند، وكانت الهند يومئذ أهون شوكة من السند، فقتل راشد ببلاد السند. وأقام زياد على ولاية العراق اثنتي عشرة سنة، وكان لزياد دهاء ورجله وصولة، وكان أول من دون الدواوين ووضع النسخ للكتب، وأفرد كتاب الرسائل من العرب والموالي المتفصحين.
وكان زياد يقول: ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج.
وكان زياد يقول: ملاك السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان. وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم.
وكان زياد يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! تعرفني؟ فقال: نعم المعرفة الجامعة! أعرفك باسمك واسم أبيك، وكنيتك، وعريفك، وعشيرتك، وفصيلتك، ولقد بلغ من معرفتي بكم أني أرى البرد على أحدكم، ثم آخر عارية، فأعرفه.
واختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الأمير! إنه يدل بناحية ذكر أنها له من الأمير. قال: صدق! سأخبرك بما ينفعه من ذلك، ويضرك، إن وجب له الحق عليك أخذتك له أخذاً عنيفاً، وإن وجب عليه حكمت وأديت عنه.
وقال زياد وهو على المنبر: إن أعظم الناس كذباً أمير يقف على المنبر وتحته مائة ألف من الناس، فيكذبهم، وإني والله لا أعدكم أجراً إلا انجزته، ولا أعاقبكم حتى أتقدم عليكم.
وكان زياد يقول لأصحابه: ليس كل يصل إلي ولا كل من وصل إلى أمكنه الكلام، فاستشفعوا لمن وراءكم، فإني من ورائكم أمنع إن أردت أن أمنع.
وكان زياد يقول: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذة: الثغر، والصائفة، والشرط، والقضاء. وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسناً، عفيفاً، مأموناً، لا يطعن عليه. وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وأحكام للعمل وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه. وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا، فطنا، قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم وتوفي زياد بالكوفة سنة أربع وخمسين.
وروي أنه كان أحضر قوماً بلغه انهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجلاً، فصعد المنبر، وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد، فنام بعض القوم، وهو جالس، فقال له بعض أصحابه: تنام وقد أحضرت لتقتل؟ فقال: من عمود إلى عمود فرقان، لقد رأيت في نومتي هذه عجباً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت رجلاً أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف، فقلت: من أنت يا هذا؟ فقال: أنا النقاد داق الرقبة. قلت: وأين تريد؟ قال: أدق عنق هذا الجبار الذي يتكلم على هذه الأعواد.
فبينا زياد يتكلم على المنبر إذ قبض على إصبعه، ثم صاح: يدي! وسقط عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل القصر، وقد طعن في خنصرة اليمنى، فجعل لا يتغاذ، فأحضر الطبيب، فقال له: اقطع يدي! قال: أيها الأمير! أخبرني عن الوجع تجده في يدك، أو في قلبك؟ قال: والله إلا في قلبي. قال: فعش سويا.
فلما نزل به الموت كتب إلى معاوية أني كتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وقد استخلفت على عملي خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
فلما توفي زياد ووضع نعشه ليصلي عليه تقدم عبيد الله ابنه فنحاه، وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه، فلما فرغ من دفنه خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية، فلما قيل لمعاوية هذا عبيد الله قال: يا بني! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت. فقال: نشدتك الله، يا أمير المؤمنين، أن يقولها لي أحد بعدك ما منع أباه وعمه أن يستعملاه؟ فولاه خراسان، وصير إليه ثغرى الهند. وتوفي المنذر فولى مكانه سنان بن سلمة، فقاتل القيقان والبوقان، وظفر، ورزقه الله النصر عليهم. وصار عبيد الله بن زياد إلى خراسان، فبدأ ببخارى، وعليها ملكة يقال لها خاتون فقاتلهم حتى فتحها، ثم قطع نهر بلخ، وكان أول عربي قطع نهر بلخ، وحاربه القوم محاربة شديدة، وكان الظفر له، ثم انصرف من خراسان إلى معاوية فولاه البصرة سنة ست وخمسين، وقيل أول سنة سبع وخمسين.
وولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان، فاستضعفه، فعزله، وولي عبد الرحمن بن زياد، فلم يحمده، فعزله، فقدم عبد الرحمن بمال عظيم، فقيل إنه قال: قدمت معي بمال يكفيني مائة سنة لكل يوم ألف درهم، فذهب ذلك المال، حتى نظر إليه في أيام الحجاج على حمار فقيل له: أين المال؟ فقال: لا يكفي إلا وجه الله، والحمار أيضاً ليس لي، إنما هو عارية.
وولى معاوية خراسان بعد عبد الرحمن بن زياد سعيد بن عثمان بن عفان، فقطع النهر، وصار إلى بخارى، فطلبت خاتون ملكة بخارى الصلح، فأجابها إلى ذلك، ثم رجعت عن الصلح، وطمعت في سعيد، فحاربهم سعيد، فظفر، وقتل مقتلة عظيمة. وسار إلى سمرقند، فحاصرها، فلم يكن له طاقة بها، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح، فحلف ألا يبرح حتى يدخل المدينة، ففتح له باب المدينة، فدخلها، ورمى القهندز بحجر، وكان معه قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند. فلما بلغ عبد الله بن عباس موته قال: ما أبعد ما بين مولده ومقبرة، مولده بمكة، وقبره بسمرقند، فانصرف سعيد بن عثمان إلى معاوية، فولى معاوية مكانه أسلم بن زرعة.
وصار سعيد إلى المدينة، ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد، فوثبوا عليه، وقتلوه، وقتل بعضهم بعضا، حتى لم يبق منهم أحد. وأقام أسلم بن زرعة شهورا، وكان عمال خراسان ينزلون هراة، ثم ولى معاوية خليد بن عبد الله الحنفي، فكان آخر ولاته على خراسان.
وأراد سعد بن أبي وقاص أن يعمل له، فامتنع عليه، ولزم منزله، وكان يسكن قصرا له خارج المدينة على عشرة أميال فلم يزل نازلا به حتى توفي، وكانت وفاته سنة خمس وخمسين، وحمل على أيدي الرجال من قصره إلى المدينة، حتى دفن بالبقيع.
وتوفي أيام معاوية أربع من أزواج رسول الله: حفصة بنت عمر، توفيت سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو عامل المدينة، وصفية بنت حيي بن أخطب توفيت سنة خمسين، وخولة بنت الحارث توفيت سنة ست وخمسين، وعائشة بنت أبي بكر توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة لمروان على المدينة، فقال بعض من حضر: صلى عليها أعدى الناس لها. وتوفي أبو هريرة سنة تسع وخمسين.
وكان لمعاوية حلم ودهاء، وجود بالمال على المداراة من رجل يبخل على طعامه. وقال سعيد بن العاص: سمعت معاوية يوماً يقول: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها. وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء، وربما احتال عليه فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان أكثر فعله المكر والحيلة.
وحج بالناس، في جميع سني ولايته، حجتين سنة أربع وأربعين وسنة خمسين، وأراد أن يحمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنال المنبر زلزلة، حتى ظن أنه آخر الدنيا، فتركه ثم زاد فيه خمس مراق من أسفله، واعتمر عمرة رجب في سنة ست وخمسين. وكان أول من كسا الكعبة الديباج، واشترى لها العبيد.
وكان يغلب عليه عمرو بن العاص، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري وكان الضحاك على شرطته، وعلى حرسه أبو مخارق مولى حمير، وحاجبه رباح، مولاه. وكان معاوية جهم الوجه جاحظ العين، وافر اللحية، عريض الصدر، عظيم الأليتين، قصير الساقين والفخذين، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي مستهل رجب، ويقال للنصف من رجب سنة ستين، وهو ابن سبع وسبعين سنة، ويقال ثمانين سنة، وقد كان ضعف ونحل، وسقطت ثنيتاه.
قال صالح بن عمرو: ورأيت معاوية على المنبر معتما بعمامة سوداء، قد سدلها على فيه، وهو يقول: معشر الناس! كبرت سني، وضعفت قوتي، وأصبت في أحسني، فرحم الله من دعا لي! ثم بكى، فبكى معه الناس. وخرج الضحاك بن قيس، لما مات معاوية، فوضع أكفانه على المنبر، ثم قال: إن معاوية كان ناب العرب وحبلها، وقد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، وموردوه قبره، ثم هو آخر اللقاء.
وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري لغيبة يزيد في ذلك الوقت، ودفن بدمشق، وخلف من الذكور أربعة: يزيد وعبد الله ومحمداً، وعبد الرحمن. وأقام الحج في أيامه سنة واحد وأربعون واثنان وأربعون عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة ثلاث وأربعون مروان ابن الحكم، وفي سنة أربع وأربعون معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة خمس وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة ست وأربعون عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وأربعون عتبة بن أبي سفيان وفي سنة ثمان وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة تسع وأربعون سعيد بن العاص، وفي سنة خمسين معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة وحد وخمسين يزيد بن معاوية، وفي سنة اثنان وخمسين سعيد بن العاص، وفي سنة ثلاث وخمسون سعيد بن العاص أيضاً، وفي سنة أربع وخمسون مروان بن
الحكم، وفي سنة خمس وخمسون مروان ابن الحكم أيضاً، وفي سنة ست وخمسون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وخمسون الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان أيضاً، وفي سنة ثمان وخمسون الوليد بن عتبة أيضاً، وفي سنة تسع وخمسون عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وغزا بالناس في ولايته سنة واحد وأربعون، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح صاحب الروم، وكره أن يشغله. وسنة ثلاث وأربعون غزا بسر بن أبي أرطأة أرض الروم ومشتاة بها. سنة أربع وأربعون غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى بلغ قلونية. سنة خمس وأربعون عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشتا بأرض الروم وبلغ أنطاكية سنة ست وأربعون مالك بن عبد الله الخثعمي، وقيل مالك بن هبيرة السكوني، وشتا بأرض الروم سنة سبع وأربعون مالك بن هبيرة السكوني وشتا بأرض الروم سنة ثمان وأربعون عبد الرحمن العتبي وبلغ أنطاكية السوداء. سنة تسع وأربعون فضالة بن عبيد، ففتح الله على يده، وسبى سبياً كثيراً. سنة خمسين غزا بسر بن أبي أرطأة، وشتا سفيان بن عوف. سنة واحد وخمسين غزا محمد بن عبد الرحمن، وشتا فضالة بن عبيد الأنصاري. سنة اثنان وخمسين سفيان بن عوف، فتوفي، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري. سنة ثلاث وخمسين محمد بن مالك، وقيل فتحت طرسوس في هذه السنة، فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي. سنة خمس وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، وشتا بأرض الروم سنة ست وخمسين يزيد بن معاوية، فبلغ القسطنطينية، وشتا مسعود بن أبي مسعود، وكان على البر يزيد بن شجرة، وعلى البحر عياض بن الحارث، كل هذا يقال سنة سبع وخمسين عبد الله بن قيس. سنة ثمان وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وقيل يزيد بن شجرة في البحر. سنة تسع وخمسين عمرو بن مرة الجهني في البر، لم يكن عامئذ غزوة بحر. وكان الفقهاء في أيام معاوية عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر بن الخطاب، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، عبد الرحمن بن حاطب، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء ابن يسار، القاسم بن محمد بن أبي بكر، عبيدة بن قيس السلماني، الربيع ابن خشيم الثوري، زر بن حبيش، الحارث بن قيس الجعفي، عمرو بن عتبة بن فرقد، الأحنف بن قيس، الحارث بن عمير الزبيدي، سويد بن غفلة الجعفي، عمرو بن ميمون الأودي، مطرف بن عبد الله بن الشخير شقيق بن سلمة، عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن يزيد الخطمي، الحارث الأعور الهمداني، مسروق بن الأجدع، علقمة بن قيس الخثعمي، شريح بن الحارث الكندي، زيد بن وهب الهمداني.
أيام يزيد بن معاويةوملك يزيد بن معاوية، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبي، في مستهل رجب سنة ستون، وكانت الشمس يومئذ في الثور درجة وعشرين دقيقة، والقمر في العقرب... درجات وثلاثين دقيقة، وزحل في السرطان إحدى عشرة درجة، والمشتري في الجدي تسع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الجوزاء ثماني درجات وخمسين دقيقة، وعطارد في الثور عشرين درجة وثلاثين دقيقة، وكان غائباً فلما قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو عامل المدينة: إذا أتاك كتابي هذا، فأحضر الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لي برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، والسلام. فورد الكتاب على الوليد ليلاً، فوجه إلى الحسين وإلى عبد الله بن الزبير، فأخبرهما الخبر، فقالا: نصبح ونأتيك مع الناس. فقال له مروان: إنهما والله إن خرجا لم ترهما، فخذهما بأن يبايعا، وإلا فاضرب أعناقهما. فقال: والله ما كنت لأقطع أرحامهما! فخرجا من عنده وتنحيا من تحت ليلتهما، فخرج الحسين إلى مكة، فأقام بها أياماً، وكتب أهل العراق إليه، ووجهوا بالرسل على أثر الرسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم كتاب هانئ بن أبي هانئ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحي هلا، فإن الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل ثم العجل والسلام.
فوجه إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكتب إليهم، وأعلمهم أنه أثر كتابه فلما قدم مسلم الكوفة اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة والوفاء. وأقبل الحسين من مكة يريد العراق، وكان يزيد قد ولى عبيد الله بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أن أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنه قد خرج من مكة متوجها نحوهم، وقد بلي به بلدك من بين البلدان، وأيامك من بين الأيام، فإن قتلته، وإلا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عبيد، فاحذر أن يفوتك.
مقتل الحسين بن عليوقدم عبيد الله بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانئ بن عروة، وهانئ شديد العلة، وكان صديقا لابن زياد، فلما قدم ابن زياد الكوفة أخبر بعلة هانئ، فأتاه ليعوده، فقال هانئ لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة: إذا جلس ابن زياد عندي وتمكن، فإني سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم البيت وجلس في الرواق.
وأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فلما تمكن قال هانئ بن عروة: اسقوني! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني، ما يؤخركم؟ ثم قال: اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، ففهم ابن زياد، فقام فخرج من عنده، ووجه بالشرط يطلبون مسلماً، وخرج وأصحابه، وهو لا يشك في وفاء القوم، وصحة نياتهم، فقاتل عبيد الله، فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجر برجله في السوق وقتل هانئ ابن عروة لنزول مسلم منزله وإعانته إياه.
وسار الحسين يريد العراق، فلما بلغ القطقطانة أتاه الخبر بقتل مسلم بن عقيل، ووجه عبيد الله بن زياد، لما بلغه قربه من الكوفة، بالحر بن يزيد، فمنعه من أن يعدل، ثم بعث إليه بعمر بن سعد بن أبي وقاص في جيش، فلقي الحسين بموضع على الفرات يقال له كربلاء وكان الحسين في اثنين وستين، أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه، وعمر بن سعد في أربعة آلاف، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين الفرات، فناشدهم الله عز وجل، فأبوا إلا قتاله أو يستسلم، فمضوا به إلى عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيه، وينفذ فيه حكم يزيد، فروي عن علي بن الحسين أنه قال: إني لجالس في العشية التي قتل أبي الحسين ابن علي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ دخل أبي، وهو يقول:
يا دهر أف لك من خليل ... كم لك في الإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حي سألك السبيل
ففهمت ما قال: وعرفت ما أراد، وخنقتني عبرتي، ورددت دمعي، وعرفت أن البلاء قد نزل بنا، فأما عمتي زينب، فإنها لما سمعت ما سمعت، والنساء من شأنهن الرقة والجزع، لم تملك إن وثبت تجر ثوبها حاسرة، وهي تقول: ووا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم! ماتت فاطمة وعلي والحسن بن علي أخي، فنظر إليها فردد غصته، ثم قال: يا أختي اتقي الله، فإن الموت نازل لا محالة! فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشياً عليها، وصاحت: واويلاه! وواثكلاه! فتقدم إليها، فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، تعزي بعزاء الله، فإن لي ولكل مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: إني أقسم عليك، فأبرى قسمي، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، فإني لمريض مدنف، وخرج إلى أصحابه.
فلما كان من الغد خرج فكلم القوم، وعظم عليهم حقه، وذكرهم الله عز وجل ورسوله، وسألهم أن يخلوا بينه وبين الرجوع، فأبوا إلا قتاله، أو أخذه حتى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجعل يكلم القوم بعد القوم والرجل بعد الرجل، فيقولون: ما ندري ما تقول، فأقبل على أصحابه فقال: إن القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل. فقالوا: لا والله، يا ابن رسول الله، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، فجزاهم الخير. وخرج زهير بن القين على فرس له فنادى: يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله! نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سمية، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم. أيها الناس! إنه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله الدنيا، وعذبه أشد عذاب الآخرة.
ثم تقدموا رجلاً رجلاً، حتى بقي وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنه لواقف على فرسه إذ أتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه، وجعل يحنكه، إذ أتاه سهم، فوقع في حلق الصبي، فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطخه بدمه يقول: والله لأنت أكرم على الله من الناقة، ولمحمد أكرم على الله من صالح! ثم أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه، ثم حمل عليهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وأتاه سهم فوقع في لبته، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟ وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرم سنة واحد وستون، واختلفوا في اليوم، فقالوا: يوم السبت، وقالوا: يوم الإثنين، وقالوا: يوم الجمعة، وكان من شهور العجم في تشرين الأول.
قال الخوارزمي: وكانت الشمس يومئذ في الميزان سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة، وزحل في السرطان تسعاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الجدي اثنتي عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في السنبلة خمس درجات وخمسين دقيقة، وعطارد في الميزان خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الجوزاء درجة وخمساً وأربعين دقيقة.
ووضع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول الله، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: وا حسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سمع بمثلها قط.
وكانت سن الحسين يوم قتل ستاً وخمسين سنة، وذلك أنه ولد في سنة أربعة من الهجرة.
وقيل للحسين: ما سمعت من رسول الله؟ قال: سمعته يقول: إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وعقلت عنه أنه يكبر فأكبر خلفه، فإذا سمع تكبيري أعاد التكبير حتى يكبر سبعاً، وعلمني: قل هو الله أحد، وعلمني الصلوات الخمس، وسمعته يقول: من يطع الله يرفعه، ومن يعص الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنه، ومن يتعزز على الله يذله. ئ قال بعضهم: سمعت الحسين يقول: الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة والجوار قرابة، والمعونة صداقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر والسخاء غنى، والرفق لب.
ووقف الحسين بن علي بالحسن البصري، والحسن لا يعرفه، فقال له الحسين: يا شيخ هل ترضى لنفسك يوم بعثك؟ قال: لا! قال: فتحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك من نفسك يوم بعثك؟ قال: نعم بلا حقيقة. قال: فمن أغش لنفسه منك يوم بعثك، وأنت لا تحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك بحقيقة؟ ثم مضى الحسين، فقال الحسن البصري: من هذا؟ فقيل له: الحسين بن علي. فقال: سهلتم علي.
وكان للحسين من الولد: علي الأكبر، لا بقية له، قتل بالطف، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وعلي الأصغر، وأمه حرار بنت يزدجرد، وكان الحسين سماها غزالة.
وقيل لعلي بن الحسين: ما أقل ولد أبيك! قال: العجب كيف ولدت له، إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء؟ وأقام عبد الله بن الزبير بمكة خالعاً يزيد، ودعا إلى نفسه، وأخرج عامل يزيد. ووجه إليه يزيد ابن عضاة الأشعري، وكتب إليه يعطيه الأمان، ويعلمه أنه كان حلف ألا يقبل بيعته إلا وهو في جامعة حديد، حتى يبايع ثم يطلقه. وكان مروان بن الحكم عامل المدينة، فكره ابن الزبير أن يجيب إلى ذلك، وداخله الهلع عندما بلغه من قتل الحسين، فوجه إليه مع بعض ثقاته بشعر يقول فيه:
فخذها فليست للعزيز بخطه ... وفيها مقال لامرئ متذلل
وكان ابن الزبير شديد العزة، فلم يفعل، وأجاب ابن عضاة بجواب غليظ، فقال ابن عضاة: إن الحسين بن علي كان أجل قدراً في الإسلام وأهله من قبل، وقد رأيت حاله، فقال له ابن الزبير: إن الحسين بن علي خرج إلى من لا يعرف حقه، وإن المسلمين قد اجتمعوا علي. فقال له: فهذا ابن عباس، وابن عمر لم يبايعك، وانصرف.
وأخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا، وإنك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزى به الواصلين لأرحامهم، فإني ما آنس من الأشياء فلست بناس برك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر، رحمك الله، فيمن قبلك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام.
فكتب إليه عبد الله بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردت، ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم. وزعمت أنك لست بناس ودي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذ لهم عن ابن الزبير، فلا، ولا سروراً، ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنك إن تمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهور. لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرعين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنشى بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد.
وما آنس من الأشياء، فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر، ابن العاهر، البعيد رحما، اللئيم أبا وأما الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والأولى، وفي الممات والمحيا، إن نبي الله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلاً وأحيا البدع والأحداث المضلة عمداً.
وما آنس من الأشياء، فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرم الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعز أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث الحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت؟ لأنت المستحل فيما أظن بل لا شك فيه إنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملأه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضرابا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته، والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجاس، وطهرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كأبائك الأجلاف قاه الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً. فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم، فو الله لنظفرن بك يوماً.
فأما ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإني لأعلم أن ابني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم، معاشر قريش، كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من يجترئ على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا. فبعدا لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح يدي، إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعش لا أبا لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله.
وولى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا، عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنه أراد حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر، وأن أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثم قص عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين! وجهني إليهم فو الله لأدعن أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرسول، فوجهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديدا، وخندقوا على المدينة، فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة فارس، فاتبعه الخيل حتى دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد إلا قتل، وأباح حرم رسول الله، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن، ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على انهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع آية إنك عبد قن ليزيد، فيقول: لا! فيضرب عنقه، فأتاه علي بن الحسين فقال: علام يريد يزيد أن أبايعك؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت أن أبايعك على أني عبد قن، فعلت فقال: ما أحشمك هذا، فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد، وكان ذلك سنة اثنان وستون.
وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح ابن زنباع الجذامي، ومن الأردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي. وكان المدبر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري.
وخرج مسلم بن عقبة من المدينة يريد مكة لمحاربة ابن الزبير، فلما صار بثنية المشلل احتضر، واستخلف الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار! لو لا حبيش بن دلجة القيني لما وليتك، فإذا قدمت مكة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثم الثقاف، ثم الانصراف، ثم قال: اللهم إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة، فإني إذا لشقي. ثم خرجت نفسه فدفن بثنية المشلل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المشلل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه، وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحداً.
وقدم الحصين بن نمير مكة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة. وكان عبد الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله، يا أهل الشام! فيصيح الشاميون: الطاعة الطاعة! الكرة الكرة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتى أحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نطفئ النار، فمنعهم، وأراد أن يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام إن الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة ثلاث وستون.
وولى يزيد سلم بن زياد خراسان، وبعث معه بعده من الأشراف، أحدهم طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب ابن أبي صفرة، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السلمي فصار إلى خراسان، فأقام بنيسابور، ثم صار إلى خوارزم، ففتحها.
ثم صار إلى بخارى، وملكتها خاتون، فلما رأت كثرة جمعه هالها ذلك، وكتبت إلى طرخون ملك السغد: أني متزوجتك، فأقبل إلي لتملك بخارى، فأقبل إليها في مائة ألف وعشرين ألفاً، فوجه سلم المهلب بن أبي صفرة طليعة له لما بلغه إقبال طرخون، فخرج وتبعه الناس، فلما أشرفوا على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم، والتحم القتال، ورشقهم المسلمون بالنبل، فقتل طرخون وانهزم أصحابه، فقتل منهم بشر كثير، فبلغت سهام المسلمين يومئذ للفارس ألفين وأربعمائة، وللراجل ألفاً ومائتين، ولم يزل ابن زياد بخراسان حتى توفي يزيد، وكان يكتم موته حتى ذاع في الناس، فانصرف سلم من خراسان، فاستخلف عليها ابن خازم السلمي، وذلك أنه خاف أن يثب به، فداراه وبلغه اختلاط الناس، فأعطاه عهده ومضى.
وأقام ابن خازم بخراسان فعمل العجائب، ولم يكن يرد عليه، وسار سليمان إلى هراة، ووثب أوس بن ثعلبة بالطالقان، فلم يزل يحاربهما ويحارب الترك، وهو في كل ذلك منصور عليهم. وتوفي يزيد بن معاوية في صفر سنة أربع وستون بموضع يقال له حوارين وحمل إلى دمشق، فدفن بها، وصلى عليه معاوية بن يزيد. وكان له من الولد الذكور أربعة: معاوية، وخالد، وأبو سفيان، وعبد الله، وكان الغالب عليه حسان بن بحدل الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن رياح، وكان على شرطة عبد الله بن عامر الهمداني، وعلى حرسه سعيد مولى كلب، وحاجبه صفوان مولاه.
وكتب مروان بن الحكم إلى الحصين بن نمير، وهو في محاربة ابن الزبير: لا يهولنك ما حدث، وامض لشأنك. وبلغ الخبر ابن الزبير وذاع في العسكر، فانكسرت شوكة القوم، وأرسل الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: نلتقي الليلة على الأمان، فالتقيا، فقال له الحصين بن نمير: إن يزيد قد مات، وابنه صبي، فهل لك أن أحملك إلى الشام، فليس بالشام أحد، فأبايع لك، فليس يختلف عليك اثنان؟ فقال ابن الزبير، رافعا صوته: لا والله الذي لا إله إلا هو، أو تقتل بأهل الحرة أمثالهم من أهل الشام فقال له الحصين: من زعم أنك داهية فهو أحمق. أقول لك ما لك سراً، وتقول لي ما عليك علانية؟ ثم انصرف. وكان سعيد بن المسيب يسمى سني يزيد بن معاوية بالشؤم: في السنة الأولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهكت حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة.
وأقام الحج في ولاية يزيد بن معاوية سنة ستون عمرو بن سعيد بن العاص، وفي سنة واحد وستون الوليد بن عتبة، وفي سنة اثنان وستون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وغزا في الناس في ولايته سنة واحد وستون، غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الصائفة، وهي غزاة سورية.
أيام معاوية بن يزيد بن معاوية
ثم ملك معاوية بن يزيد بن معاوية، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوماً، وقيل: بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمد الله والثناء عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وإن جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول الله، وأحق في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين، وأبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتى أتته منيته وصار رهنا بعمله، ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلت منعته، وانقطعت مدته، وصار أحفرته رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه. ثم بكى، وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة وحرق الكعبة، وما أنا المتقلد أموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فو الله لئن كانت الدنيا مغنماً لقد نلنا منها حظاً، وإن تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: سنها فينا عمرية! قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر. وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وصلى عليه خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل بل عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ودفن بدمشق، وكان بها ينزل.
أيام مروان بن الحكموعبد الله بن الزبير وأيام من أيام عبد الملك وكان عبد الله بن الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلب على مكة، وتسمى بأمير المؤمنين، ومال إليه أكثر النواحي، وكان ابتداء أمره في أيام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلما توفي يزيد بن معاوية مال الناس من البلدان جميعاً إلى ابن الزبير، وكان بمصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري عاملاً لابن الزبير، وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري، وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وبالكوفة عبد الله بن مطيع، وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان عبد الله بن خازم السلمي، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن، ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي.
وأخرج ابن الزبير بني أمية من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتى عبد الملك ابنه، وهو عليل مجدر، فقال له: يا بني إن ابن الزبير قد أخرجني! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك؟ قال: كيف أخرجك وأنت على هذا الحال؟ قال: لفني في القطن، فإن هذا رأي لم يتعقبه ابن الزبير. فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقب ابن الزبير الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فوجه يردهم ففاتوه.
وقدم مروان، وقد مات معاوية بن يزيد، وأمر الشام مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع الناس بالجابية من أرض دمشق، فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم لبني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل مع مروان، فقام خطيباً، فقال: يا أهل الشام! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفين، فبايعوا الكبير، واستنيبوا للصغير، ثم لعمرو بن سعيد.
فبايعوا لمروان بن الحكم، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون، فقالوا: نقصد دمشق، فإنها دار الملك، ومنزل الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس. فقصدوا دمشق، فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتينهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشر حبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بن حسان الهلالي، والتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك بن قيس وخلق من أصحابه، وهرب من بقي من جيشه.
وبلغ الخبر النعمان بن بشير، وهو بحمص، فخرج هارباً، ومعه امرأته الكنانية وثقله وولده، فتبعه قوم من حمير وباهلة، فقتلوه في البرية، واحتزوا رأسه. ووجهوا به إلى مروان بن الحكم.
وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا وبها عياض الحرشي من مذحج فأغلق أبوابها دونه. فلم يزل يخدعه حتى دخلها.
ووجه مروان حبيش بن دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير، فسار حتى أتى المدينة، وعليها جابر بن الأسود بن عوف الزهري عامل ابن الزبير، وكتب ابن الزبير إلى الحارث بن عبد الله عامله على البصرة أن يوجه إليهم بجيش، فلقوا حبيشا فقتلوه وقتلوا عامة أصحابه فلم يفلت منهم إلا الشريد فكان فيمن أفلت منهم: يوسف بن الحكم الثقفي، وابنه الحجاج بن يوسف. ثم خرج مروان يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس الجذامي متغلباً على البلد، وأخرج روح بن زنباع، فحاربه، فلما لم يكن لناتل قوة على محاربة مروان هرب، فلحق بابن الزبير، وسار مروان يريد مصر حتى دخلها، فصالحه أهلها، وأعطوه الطاعة، وأخرج ابن جحدم الفهري، عامل ابن الزبير، وقيل اغتاله فقتله، وقتل أكيدر بن حمام اللخمي، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز بن مروان وانصرف.
وقام سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخرجا في جماعة معهما من الشيعة بالعراق، بموضع يقال له عين الوردة، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني إسرائيل، إذ قال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم، واتبعهم خلق من الناس، فوجه إليهم مروان عبيد الله بن زياد، وقال: إن غلبت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صرد، فلم يزل يحاربه حتى قتله، وقيل لم يقتل سليمان في أيام مروان، ولكنه قتل في أيام عبد الملك.
ولما صار مروان إلى الصنبرة من أرض الأردن، منصرفا من مصر، بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد، فأحضره فقال له: قد بلغني أنك بايعت عمرو بن سعيد، فأنكر ذلك، فقال له: بايع لعبد الملك، فبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، ولم يبرح مروان من الصنبرة حتى توفي.
وكان سبب وفاته أنه تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل إليه يوماً فأفحش له في القول، ثم أعاد عليه في يوم آخر مثل ذلك، فدخل خالد إلى أمه مغضبا، فخبرها، فقالت: والله لا يشرب البارد بعدها! فصيرت له سما في لبن، فلما دخل سقته إياه. وقال بعضهم: بل وضعت على وجهه وسادة حتى قتلته. وقال قوم: إنه توفي بدمشق ودفن بها.
وكانت ولاية مروان تسعة أشهر، فتوفي في شهر رمضان سنة خمس وستون، وهو ابن إحدى وستين سنة، وكان صاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وحاجبه أبو سهل الأسود، وصلى عليه عبد الملك ابنه، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا وهم: عبد الملك وعبد العزيز، ومعاوية، وبشر، وعمر، وأبان، وعبد الله، وعبيد الله، وأيوب، وداود، وعثمان، ومحمد.
وخلف أهل الشام عبد الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومن إلى المنبر، أو لنضربن عنقك! فصعد المنبر وبايعوه.
وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي أقبل في جماعة عليهم السلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عبيد الله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية وكتب يزيد إلى عبيد الله: إن خل سبيله، فخلى سبيله، ونفاه، فخرج المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزبير، فلما لم ير ابن الزبير يستعمله شخص إلى العراق، فوافى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلما صار إلى الكوفة اجتمعت إليه الشيعة، فقال لهم: إن محمد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم أميرا، وأمرني بقتل المحلين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمهم. فصدقه طائفة من الشيعة، وقالت طائفة: نخرج إلى محمد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أحب إلينا من طلب بثأرنا، وأخذ لنا بحقنا، وقتل عدونا، فانصرفوا إلى المختار، فبايعوه وعاقدوه، واجتمعت طائفة.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5*
======
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق