أقسام الكتاب 1 2 3 4*
المعتصم محمد بن هارون الرشيد 218هـ ـ 227هـ
المعتصم بالله : أبو إسحاق محمد بن الرشيد ولد سنة ثمانين و مائة كذا قال الذهبي و قال الصولي : في شعبان سنة ثمان و سبعين و أمة أم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة و كانت أحظى الناس عند الرشيد
روى عن أبيه و أخيه المأمون و روى عنه : إسحاق الموصلي و حمدون بن إسماعيل و آخرون
و كان ذا شجاعة وقوة وهمة و كان عريا من العلم
فروى الصولي عن محمد بن سعيد عن إبراهيم بن محمد الهاشمي قال : كان مع المعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه فمات الغلام فقال له الرشيد أبوه : يا محمد مات غلامك قال : نعم يا سيدي و استرح من الكتاب فقال : و إن الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعلموه قال : فكان يكتب و يقرأ قراءة ضعيفة
و قال الذهبي : كان المعتصم من أعظم الخلفاء و أهيبهم لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن
و قال نفطوية و الصولي : للمعتصم مناقب و كان يقال له : المثمن لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس و الثامن من ولد العباس و ثامن أولاد الرشيد و ملك سنة ثمان عشرة و ملك ثمان سنين و ثمانية أشهر و ثمانية أيام و مولده سنة ثمان و سبعين و عاش ثمانيا و أربعين سنة و طالعه العقرب و هو ثامن برج و فتح ثمانية فتوح و قتل ثمانية أعداء و خلف ثمانية أولاد و من الإناث كذلك و مات لثمان بقين من ربيع الأول
و له محاسن و كلمات فصيحة و شعر لا بأس به غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل
و قال ابن أبي دؤاد : كان المعتصم يخرج ساعده إلي و يقول : يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك فأمتنع فيقول : إنه لا يضرني فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلا عن الأسنان
و قال نفطويه : و كان من أشد الناس بطشا كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره
و قال غيره : هو أول خليفة أدخل الأتراك الديوان
و كان يتشبه بملوك الأعاجم و يمشي مشيهم و بلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفا
و قال ابن يونس هجا دعبل المعتصم ثم نذر به فخاف و هرب حتى قدم مصر ثم خرج إلى المغرب و الأبيات التي هجاه بها هذه :
( ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... و لم يأتينا في ثامن منهم الكتب )
( كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... غداة ثووا فيها و ثامنهم كلب )
( و إني لأزهى كلبهم عنك رغبة ... لأنك ذو ذنب وليس له ذنب )
( لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم ... و صيف و أشناس و قد عظم الخطب )
( و إني لأرجو أن ترى من مغيبها ... مطالع شمس قد يغص الشرب )
( و همك تركي عليه مهانة ... فأنت له أم و أنت له أب )
بويع له بالخلافة بعد المأمون وفي شهر رجب سنة ثمان عشرة و مائتين فسلك ما كان المأمون عليه و ختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن فكتب إلى البلاد بذلك و أمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك و قاسى الناس منه مشقة في ذلك و قتل عليه خلقا من العلماء و ضرب الإمام أحمد بن حنبل و كان ضربه في سنة عشرين
و فيها تحول المعتصم من بغداد و بنى [ سر من رأى ] و ذلك أنه اعتنى باقتناء الترك فبعث إلى سمرقند و فرغانة و النواحي في شرائهم و بذل فيهم الأموال و ألبسهم أنواع الديباج و مناطق الذهب فكانوا يطردون خيلهم في بغداد و يؤذون الناس و ضاقت بهم البلد فاجتمع إليه أهل بغداد و قالوا : إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك قال : و كيف تحاربونني ؟ قالوا : بسهام الأسهار قال : لا طاقة لي بذلك فكان ذلك سبب بنائه [ سر من رأى ] و تحوله إليها
و في سنة ثلاث و عشرين غزا المعتصم الروم فكأنهم نكاية عظيمة لم يسمع بمثلها لخليفة و شتت جموعهم و خرب ديارهم و فتح عمورية بالسيف و قتل منها ثلاثين ألفا و سبى مثلهم و كان لما تجهز لغزوها حكم المنجون أن ذلك طالع نحس و أنه يكسر فكان من نصره و ظفره ما لم يخف فقال في ذلك أبو تمام قصيدته المشهورة و هي هذه :
( السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد و اللعب )
( و العلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب )
( أين الرواية ؟ أم أين النحوم ؟ و ما ... صاغوه من زخرف فيها و من كذب )
( تخرصا و أحاديثا ملفقة ... ليست بعجم إذا عدت و لا عرب )
مات المعتصم يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع و عشرين و كان قد ذلل العدو بالنواحي و يقال : إنه قال في مرض موته : [ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ] و لما احتضر جعل يقول : ذهبت الحيلة فليس حيلة و قيل : جعل يقول : أوخذ من بين هذا الخلق و قيل : إنه قال : اللهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي و لا أخافك من قبلك و أرجوك من قبلك و لا أرجوك من قبلي و من شعره :
( قرب النحام و اعجل يا غلام ... و اطرح السرج عليه و اللجام )
( أعلم الأتراك أني خائض ... لجة الموت فمن شاء أقام )
و كان قد عزم على المسير إلى أقصى الغرب ليملك البلاد التي لم تدخل في ملك بني العباس لاستيلاء الأموي عليها فروى الصولي عن أحمد بن الخصيب قال : قال لي المعتصم : إن بني أمية ملكوا و ما لأحد منا ملك و ملكنا نحن و لهم بالأندلس هذا الأموي فقدر ما يحتاج إليه لمحاربته و شرع في ذلك فاشتدت علته و مات
و قال الصولي : سمعت المغيرة بن محمد يقول : يقال : إنه لم يجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم و لا ظفر ملك قط كظفره أسر ملك أذربيجان و ملك طبرستان وملك استيسان و ملك الشياصح و ملك فرغانة و ملك طخارستان و ملك الصفة و ملك كابل
و قال الصولي : و كان نقش خاتمه [ الحمد لله الذي ليس كمثله شيء ]
و من أخبار المعتصم : أخرج الصولي عن أحمد اليزيدي قال : لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان و جلس فيه دخل عليه الناس فعمل إسحاق الموصلي قصيدة فيه ما سمع أحد بمثلها في حسنها إلا أنه افتتحها بقوله :
( يا دار غيرك البلى و محاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك ؟ )
فتطير المعتصم و تطير الناس و تغامزوا و يعجبوا كيف ذهب هذا على إسحاق مع فهمه و علمه و طول خدمته للملوك ؟ و خرب المعتصم القصر بعد ذلك
و أخرج عن إبراهيم بن العباس قال : كان المعتصم إذا تكلم بلغ ما أراد و زاد عليه
و كان أول من ثرد الطعام و كثره حتى بلغ ألف دينار إلى اليوم
و أخرج عن أبي العيناء قال : سمعت المعتصم يقول : إذا نصر الهوى بطل الرأي
و أخرج عن إسحاق قال : كان المعتصم يقول : من طلب الحق بما له و عليه أدركه
و أخرج عن محمد بن عمر الرومي قال : كان المعتصم غلام يقال له عجيب لم يرى الناس مثله قط و كان مشغوفا به فعمل فيه أبيات ثم دعاني و قال : قد علمت أني دون أخوتي في الأدب لحب أمير المؤمنين لي و ميلي إلى اللعب و أنا حدث فلم أنل ما نالوا و قد عملت في عجيب أبياتا فإن كانت حسنة و إلا فاصدقني حتى أكتمها ثم أنشد شعرا :
( لقد رأيت عجيبا ... يحكي الغزال الربيبا )
( الوجه منه كبدر ... و القد يحكي القضيبا )
( و إن تناول سيفا ... رأيت ليثا حريبا )
( و إن رمى بسهام ... كان المجيد المصيبا )
( طبيب ما بي من الحب ... فلا عدمت الطبيبا )
( إني هويت عجيبا ... هوى أراه عجيبا )
فحلفت له بأيمان البيعة أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء فطابت نفسه و أمر لي بخمسين ألف درهم
و قال الصولي : حدثنا عبد الواحد بن العباس الرياشي قال : كتب ملك الروم إلى المعتصم كتابا يهدده فيه فلما قرئ عليه قال للكاتب : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك و سمعت خطابك و الجواب ما ترى لا ما تسمع و سيعلم الكفار لمن عقبى الدار
و أخرج الصولي عن الفضل اليزيدي قال : وجه المعتصم إلى الشعراء ببابه : من منكم يحسن أن يقول فينا كما قال منصور النمري في الرشيد ؟ :
( إن المكارم و المعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع )
( من لم يكن بأمين الله معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع )
( إن أخلف القطر لم تخلف فواضله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع )
فقال أبو وهيب : فينا من يقول خيرا منه فيك و قال :
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها : ... شمس الضحى و أبو إسحاق و القمر )
( تحكي أفاعيله في كل نائبة ... الليث و الغيث و الصمصامة الذكر )
و لما مات رثاه وزيره محمد بن عبد الملك جامعا بين العزاء و الهناء فقال :
( قد قلت إذ غيبوك و اصطفت ... عليك أيد بالترب و الطين )
( اذهب فنعم الحفيظ كنت على ال ... دنيا و نعم الظهير للدين )
( ما يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون )
حديث رواه المعتصم
قال الصولي : [ حدثنا العلائي حدثنا عبد الملك بن الضحاك حدثني هشام بن محمد حدثني المعتصم قال : حدثني أبي الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله عنهما [ عن أبيه ] : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نظر إلى القوم من بني فلان يتبخترون في مشيهم فعرف الغضب في وجهه ثم قرأ : { والشجرة الملعونة في القرآن } فقيل له : أي شجرة هي يا رسول الله حتى نجتثها ؟ فقال : ليست بشجرة نبات إنما هم بنو أمية إذا ملكوا جاروا وإذا اؤتمنوا خانوا و ضرب بيده على ظهر عمه العباس فقال : يخرج الله من ظهرك يا عم رجلا يكون هلاكهم على يده ]
قلت : الحديث موضوع و آفته العلائي
و قال ابن عساكر : أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن أحمد حدثني علي بن الحسين الحافظ حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن طالب البغدادي حدثنا ابن خلاد حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الضبيعي حدثنا إسحاق بن يحيى بن معاذ قال : كنت عند المعتصم أعوده فقلت : أنت في عافية فقال : كيف و قد سمعت الرشيد يحدث عن أبيه المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس مرفوعا : [ من احتجم في يوم الخميس فمرض فيه مات فيه ]
قال ابن عساكر : سقط منه رجلان بين ابن الضبيعي و إسحاق ثم أخرجه من طريق أخرى عن الضبيعي عن أحمد بن محمد بن الليث عن منصور بن النضر عن إسحاق
و ممن مات في أيام المعتصم من الأعلام : الحميدي شيخ البخاري و أبو نعيم الفضل بن دكين و أبو غسان المهدي و قالون المقرئ و خلاد المقرئ و آدم بن أبي إياس و عفان و القعنبي و عبدان المروزي و عبد الله بن صالح كاتب الليث و إبراهيم بن المهدي و سليمان بن حرب و علي بن محمد المدائني و أبو عبيد القاسم بن سلام و قرة بن حبيب و عارم و محمد بن عيسى الطباع الحافظ و أصبغ بن الفرج الفقيه المالكي و سعدويه الواسطي و أبو عمر الجرمي النحوي و محمد بن سلام البيكندي و سنيد و سعيد بن كثير بن عفير و يحيى بن يحيى التميمي و آخرون
الواثق بالله هارون بن المعتصم بن الرشيد 227 هـ ـ 232 ه
الواثق بالله : هارون أبو جعفر و قيل : أبو القاسم بن المعتصم بن الرشيد
أمه أم ولد رومية اسمها قراطيس ولد لعشر بقين من شعبان سنة ست و تسعين و مائة و ولي الخلافة بعهد من أبيه بويع له في تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع و عشرين
و في سنة ثمان و عشرين استخلف على السلطنة أشناس التركي و ألبسه وشاحين مجوهرين و تاجا مجوهرا و أظن أنه أول خليفة استخلف سلطانا فإن الترك إنما كثروا في أيام أبيه
و في سنة إحدى و ثلاثين ورد كتابه إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة و المؤذنين بخلق القرآن و كان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخره أمره
و في هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي و كان من أهل الحديث قائما بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أحضره من بغداد إلى سامرا مقيدا و سأله عن القرآن فقال : ليس بمخلوق و عن الرؤية في القيامة فقال : كذا جاءت الرواية و روى له الحديث فقال الواثق له : تكذب فقال للواثق : بل تكذب أنت فقال : ويحك ! يرى كما يرى المحدود المتجسم و يحويه مكان و يحصره الناظر ؟ إنما كفرت برب صفته ما تقولون فيه ؟ فقال جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله : هو حلال الضرب فدعا بالسيف و قال : إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا لا نعبده و لا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ثم أمر بالنطع فأجلس عليه و هو مقيد فمشى إليه فضرب عنقه و أمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها و صلبت جثته في سر من رأى و استمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله و دفنه و لما صلب كتب ورقة و علقت في أذنه فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن و نفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره و وكل بالرأس من يحفظه و يصرفه عن القبلة برمح فذكر الموكل به أنه رآه بالليل يستدبر إلى القبلة بوجهه فيقرأ سورة يس بلسان طلق رويت هذه الحكاية من غير وجه
و في هذه السنة استفك من الروم ألفا و ستمائة أسير مسلم فقال ابن أبي دؤاد قبحه الله : من قال من الأسارى : [ القرآن مخلوق ] خلصوه و أعطوه دينارين و من امتنع دعوه في الأسر
قال الخطيب : كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق و حمله على التشدد في المنحة و دعا الناس إلى القول بخلق القرآن و يقال : إنه رجع عنه قبل موته
و قال غيره : حمل إليه رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فلما دخل ـ و ابن أبي دؤاد حاضر ـ قال المقيد : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه أعلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يدع الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ قال ابن أبي دؤاد : بل علمه قال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه و أنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا و ضحك الواثق و قام قابضا على فمه و دخل بيتا و مد رجليه و هو يقول : وسع النبي صلى الله عليه و سلم أن يسكت عنه و لا يسعنا فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار و أن يرد إلى بلده و لم يمتحن أحدا بعدها و مقت ابن أبي دؤاد من يومئذ
و الرجل المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود و النسائي
قال ابن أبي الدنيا : كان الواثق أبيض تعلوه صفرة حسن اللحية في عينه نكتة
قال يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ما مات و فيهم فقير
و قال غيره : كان الواثق وافر الأدب مليح الشعر و كان يحب خادما أهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوما ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم و الله إنه ليروم أن أكلمه من أمس فما أفعل فقال الواثق :
( يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ... ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا )
( لولا الهوى لتجارينا على قدر ... و إن أفق منه يوما ما فسوف ترى )
و من شعر الواثق في خادمه :
( مهج يملك المهج ... بسجي اللحظ و الدعج )
( حسن القد مخطف ... ذو دلال و ذو غنج )
( ليس للعين إن بدا ... عنه باللحظ منعرج )
و قال الصولي : كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه و فضله و كان المأمون يعظمه و يقدمه على ولده و كان الواثق أعلم الناس بكل شيء و كان شاعرا و كان أعلم الخلفاء بالغناء
و له أصوات و ألحان عملها نحو مائة صوت و كان حاذقا بضرب العود راوية للأشعار و الأخبار
و قال الفضل اليزيدي : لم يكن في خلفاء بني العباس أكثر رواية للشعر من الواثق فقيل له : كان أروى من المأمون ؟ فقال : نعم كان المأمون قد مزج بعلم العرب علم الأوائل من النجوم و الطب و المنطق و كان الواثق لا يخلط بعلم العرب شيئا
و قال يزيد المهلبي : كان الواثق كثير الأكل جدا
و قال ابن فهم : كان للواثق خوان من ذهب مؤلف من أربع قطع يحمل كل قطعة عشرون رجلا و كل ما على الخوان من غضارة و صفحة و سكرجة من ذهب فسأله ابن أبي دؤاد أن لا يأكل عليه للنهي عنه فأمر أن يكسر ذلك و يضرب و يحمل إلى بيت المال
و قال الحسين بن يحيى : رأى الواثق في النوم كأنه يسأل الله الجنة و أن قائلا يقول له : لا يهلك على الله إلا من قبله مرت فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك فلم عرفوا معناه فوجه إلى أبي محلم و أحضره فسأله عن الرؤيا و المرت فقال أبو المحلم : المرت القفر الذي لا ينبت شيئا فالمعنى على هذا لا يهلك على الله إلا من قبله خال من الإيمان خلو المرت من النبات فقال له الواثق : أريد شاهدا من الشعر في المرت فبادر بعض من حضر فأنشد بيتا لبني أسد :
( و مرت مروتاة يحار بها القطا ... و يصبح ذو علم بها و هو جاهل )
فضحك أبو محمل و قال : و الله لا أبرح حتى أنشدك فأنشده للعرب مائة قافية معروفة لمائة شاعر معروف في كل بيت ذكر المرت فأمر له الواثق بمائة ألف دينار
و قال حمدون بن إسماعيل : ما كان في الخلفاء أحد أحلم من الواثق و لا أصبر على أذى و لا خلاف منه
و قال أحمد بن حمدون : دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق إليه فأكرمه إلى الغاية فقيل له : من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل ؟ فقال : هذا أول من فتق لساني بذكر الله و أدناني من رحمة الله
و من مديح علي بن الجهم فيه :
( و ثقت بالملك ال ... واثق بالله النفوس )
( و ملك يشقى به الما ... ل و لا يشقى الجليس )
( أسد يضحك عن شد ... اته الحرب العبوس )
( أنس السيف به واس ... توحش الطلق النفيس )
( يا بني العباس يأبى الل ... ه إلا أن تروسوا )
مات الواثق بسر من رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة مائتين و اثنتين و ثلاثين و لما احتضر جعل يردد هذين البيتين :
( الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى و لا ملك )
( ما ضر أهل قليل في تفارقهم ... و ليس يغني عن الأملاك ما ملكوا )
و حكي أنه لما مات ترك وحده و اشتغل الناس بالبيعة للمتوكل فجاء جرذون فاستل عينه فأكلها
مات في أيامه من الأعلام : مسدد و خلف بن هشام البزار المقرئ و إسماعيل بن سعيد الشالخي شيخ أهل طبرستان و محمد بن سعد كاتب الواقدي و أبو تمام الطائي الشاعر و محمد بن زياد ابن الأعرابي اللغوي و البوطي صاحب الشافغي مسجونا مقيدا في المحنة و علي بن المغيرة الأثرم اللغوي و آخرون
و من أخبار الواثق : أسند الصولي عن جعفر بن الرشيد قال : كنا بين يدي الواثق و قد اصطبح فناوله خادمه مهج وردا و نرجسا فأنشد ذلك بعد يوم لنفسه :
( حياك بالنرجس و الورد ... معتدل القامة و القد )
( فألهبت عيناه نار الهوى ... و زاد في اللوعة و الوجد )
( أملت بالملك له قربه ... فصال ملكي سبب البعد )
( و رئحته سكرات الهوى ... فمال بالوصل إلى الصد )
( إن سئل البذل ثنى عطفه ... و أسبل الدمع على الخد )
( غر بما تجنيه ألحاظه ... لا يعرف الإنجاز للوعد )
( مولى تشكى الظلم من عبده ... فأنصفوا المولى من العبد )
قال : فأجمعوا أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات
و قال الصولي : حدثني عبد الله بن العتز قال : أنشدني بعض أهلنا للواثق و كان يهوى خادمين لهذا يوم يخدمه فيه و لهذا يوم يخدمه فيه :
( قلبي قسيم بين نفسين ... فمن رأى روحا بجسمين )
( يغضب ذا غن جاد ذا بالرضا ... فالقلب مشغول بشجوين )
و أخرج عن الحزنبل قال : غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل :
( و شادن مربح بالكاس نادمني ... لا بالحصور و لا فيها بسوار )
فقال : أسوار أو سار ؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك ؟ فقال : سوار وثاب يقول : لا يثب على ندمائه و سآر مفصل في اكأس سؤرا و قد رويا جميعا فأمر الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم
و قال : حدثني ميمون بن إبراهيم حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال : تلاحى الحسين بن الضحاك و مخارق يوما في مجلس الواثق في أبي نواس و أبي العتاهية أيهما أشعر ؟ فقال الواثق : اجعلا بينكما خطرا فجعلا بينهما مائتي دينار فقال الواثق : من ههنا من العلماء ؟ فقيل : أبو محلم فأحضره فسئل عن ذلك ؟ فقال : أبو النواس أشعر و أذهب في فنون العرب و أكثر افتنانا من أفانين الشعر فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين
المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد 232 هـ ـ 247 ه
المتوكل على الله : جعفر أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد أمه أم ولد اسمها شجاع ولد سنة خمس ـ و قيل : سبع ـ و مائتين و بويع له في ذي الحجة سنة اثنتين و ثلاثين و مائتين بعد الواثق فأظهر الميل إلى السنة و نصر أهلها و رفع المحنة و كتب بذلك إلى الآفاق و ذلك في سنة أربع و ثلاثين و استقدم المحدثين إلى سامرا و أجزل عطاياهم و أكرمهم و أمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات و الرؤية و جلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس و جلس أخوه عثمان في جامع المنصور فاجتمع إليه أيضا نحو من ثلاثين ألف نفس و توفر دعاء الخلق للمتوكل و بالغوا في الثناء عليه و التعظيم له حتى قال قائلهم : الخلفاء ثلاثة : أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة و عمر بن عبد العزيز في رد المظالم و المتوكل في إحياء السنة و إماتة التجهم و قال أبو بكر بن الخبازة في ذلك :
( و بعد فإن السنة اليوم أصبحت ... معززة حتى كأن لم تذلل )
( تصول و تسطو إذ أقيم منارها ... وحط منار الإفك و الزور من عل )
( و ولى أخو الإبداع في الدين هاربا ... إلى النار يهوي مدبرا غير مقبل )
( شفى الله منهم بالخليفة جعفر ... خليفته ذي السنة المتوكل )
( خليفة ربي و ابن عم نبيه ... و خير بني العباس من منهم ولي )
( و جامع شمل الدين بعد تشتت ... و فاري رؤوس المارقين بمنصل )
( أطال لنا رب العباد بقاءه ... سليما من الأهوال غير مبدل )
( و بوأه بالنصر للدين جنة ... يجاور في روضاتها خير مرسل )
و في هذه السنة أصاب ابن أبي دؤاد فالج صيره حجرا ملقى فلا آجره الله
و من عجائب هذه السنة أنه هبت ريح بالعراق شديدة السموم و لم يعهد مثلها أحرقت زرع الكوفة و البصرة و بغداد و قتلت المسافرين و دامت خمسين يوما و اتصلت بهمذان و أحرقت الزرع و المواشي و اتصلت بالموصل و سنجار و منعت الناس من المعاش في الأسواق و من المشي في الطرقات و أهلكت خلقا عظيما
و في السنة التي قبلها جاءت زلزلة مهولة بدمشق سقطت منها دور و هلك تحتها خلق وامتدت إلى أنطاكية فهدمتها و إلى الجزيرة فأحرقتها و إلى الموصل فيقال : هلك من أهلها خمسون ألفا
و في سنة خمس و ثلاثين ألزم المتوكل كل النصارى بلبس الغل
و في سنة ست و ثلاثين أمرهم بهدم قبر الحسين و هدم ما حوله من الدور و أن يعمل مزارع و منع الناس من زيارته و خرب و بقي صحراء و كان المتوكل معروفا بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك و كتب أهل بغداد شتمه على الحيطان و المساجد و هجاه الشعراء فمما قيل في ذلك :
( بالله إن كانت أمية قد أتت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوما )
( فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمري قبره مهدوما )
( أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما )
و في سنة سبع و ثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر : أبي بكر محمد بن أبي الليث و أن يضربه و يطوف به على حمار ففعل ـ و نعم ما فعل ـ فإنه كان ظالما من رؤوس الجهمية و ولي القضاء بدله الحارث بن سكين من أصحاب مالك بعد تمنع و أهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطا ليرد الظلمات إلى أهلها
و في هذه السنة ظهرت نار بعسقلان أحرقت البيوت و البيادر و لم تزل تحرق إلى ثلث الليل ثم كفت
و في سنة ثمان و ثلاثين كبست الروم دمياط و نهبوا و أحرقوا و سبوا منها ستمائة امرأة و ولوا مسرعين في البحر
و في سنة أربعين سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء فمات منها خلق كثير و وقع برد بالعراق كبيض الدجاج و خسف بثلاث عشر قرية بالمغرب
و في سنة إحدى و أربعين ماجت النجوم في السماء و تناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل و كان أمرا مزعجا لم يعهد
و في سنة اثنتين و أربعين زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس و أعمالها و الري و خراسان و نيسابور و طبرستان و أصبهان و تقطعت الجبال و تشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق و رجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء و وزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال و سار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين و وقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة في رمضان فصاح : يا معشر الناس اتقوا الله الله الله و صاح أربعين صوتا ثم طار و جاء من الغد ففعل كذلك و كتب البريد بذلك و أشهد عليه خمسمائة إنسان سمعوه
و فيها حج من البصرة إبراهيم بن مطهر الكاتب على عجلة تجرها الإبل و تعجب الناس من ذلك
و في سنة ثلاث و أربعين قدم المتوكل دمشق فأعجبته و بنى له القصر بداريا و عزم على سكناها فقال يزيد بن محمد المهلبي :
( أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق )
( فإن تدع العراق و ساكنيه ... فقد تبلى المليحة بالطلاق )
فبدا له و رجع بعد شهرين أو ثلاثة
و في سنة أربع و أربعين قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده فنظر المتوكل يوما إلى ولديه المعتز و المؤيد فقال لابن السكيت : من أحب إليك هما أو الحسن و الحسين ؟ فقال : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات و قيل : أمر بسل لسانه و أرسل إلى ابنه بديته و كان المتوكل رافضيا
و في سنة خمس و أربعين عمت الزلازل الدنيا فأخربت المدن و القلاع و القناطر و سقط من أنطاكية جبل في البحر و سمع من السماء أصواتا هائلة و زلزلت مصر و سمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة فمات خلق من أهل بلبيس و غارت عيون مكة فأرسل المتوكل مائة ألف دينار لإجراء الماء من عرفات إليها و كان المتوكل جوادا ممدحا يقال : ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطى المتوكل و فيه يقول مروان بن أبي الجنوب :
( فأمسك ندى كفيك عني و لا تزد ... فقد خفت أن أطغى و أن أتجبرا )
فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي و كان أجازه على قصيدة بمائة ألف و عشرين ألفا
و دخل عليه علي بن الجهم يوما و بيديه درتان يقلبهما فأنشده قصيدة له فرمى إليه بدرة فقلبها فقال : تستنقص بها و هي و الله خير من مائة ألف و لكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى فقال : قل فقال :
( بسر من را إمام عدل ... تغرف من بحره البحار )
( الملك فيه و في بنيه ... ما اختلف الليل و النهار )
( يرجى و يخشى لكل خطب ... كأنه جنة و نار )
( يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار )
( لم تأت منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثلها اليسار )
فرمى إليه بالدرة الأخرى
قال بعضهم : سلم على المتوكل بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة : منصور بن المهدي و العباس بن الهادي و أبو أحمد بن الرشيد و عبد الله بن الأمين و موسى بن المأمون و أحمد بن المعتصم و محمد بن الواثق و ابنه المنتصر
و قال المسعودي : لا يعلم أحد متقدم في جد و لا هزل إلا و قد حظي في دولته و وصل إليه نصيب وافر من المال و كان منهمكا في اللذات و الشراب و كان له أربعة آلاف سرية و وطئ الجميع
وقال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفا بقبيحة أم ولده المعتز لا يصبر عنها فوقفت له يوما ـ و قد كتبت على خديها بالغالية جعفرا ـ فتأملها و أنشأ يقول :
( و كاتبه بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي محط المسك من حيث أثرا )
( لئن أودعت سطرا من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا )
و في كتاب المحن للسلمي أن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال و مقامات أهل الولاية فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم ـ و كان رئيس مصر و من جلة أصحاب مالك ـ و أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف و رماه بالزندقة فدعاه أمير مصر و سأله عن اعتقاده فتكلم فرضي أمره و كتب به إلى المتوكل فأمر بإحضاره فحمل على البريد فلما سمع كلامه أولع به و أحبه و أكرمه حتى كان يقول : إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذي النون
كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة و يحط منزلته و يتهدده و يشتمه و يتوعده و اتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه فدخل عليه خمسة و هو في جوف الليل في مجلس لهوه فقتلوه هو و وزيره الفتح بن خاقان و ذلك في خامس شوال سنة سبع أربعين و مائتين
و رئي في النوم فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بقليل من السنة أحييتها و لما قتل رئته الشعراء و من ذلك قول يزيد المهلبي :
( جاءت منيته و العين هاجعة ... هلا أتته المنايا و القنا قصد )
( خليفة لم ينل ما ناله أحد ... و لم يضع مثله روح و لا جسد )
و كان من حظاياه وصيفة تسمى محبوبة شاعرة عالمة بصنوف العلم عوادة فلما قتل ضمت إلى بغا الكبير فأمر بها يوما للمنادمة فجلست منكسة فقال : غني فاعتلت فأقسم عليها و أمر بالعود فوضع في حجرها فغنت ارتجالا :
( أي عيش يلذ لي ... لا أرى فيه جعفرا ؟ )
( ملك قد رأيته ... في نجيع معفرا )
( كل من كان ذا هيا ... م و سقم فقد برا )
( غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى )
( لاشترته بماحـ ... وته يداها لتقبرا )
( إن موت الحزين أط ... يب من أن يعمرا )
فغضب بغا و أمر بها فسجنت فكان آخر العهد بها
و من الغرائب أن المتوكل قال للبحتري : قل شعرا و في الفتح بن خاقان فإني أحب أن يحيا معي و لا أفقده فيذهب عيشي و لا يفقدني فقل في هذا المعنى فقال :
( يا سيدي كيف أخلفت وعدي ... و تثاقلت عن وفاء بعهدي ؟ )
( لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح و لا عرفتك ما عشت فقدي )
( أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... و من الرزء أن تؤخر بعدي )
( حذرا أن تكون إلفا لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي )
فقتلا معا كما تقدم
و من أخبار المتوكل : أخرج ابن عساكر أن المتوكل رأى في النوم كأن سكرا سليما نيئا سقط عليه من السماء مكتوبا عليه جعفر المتوكل على الله فلما بويع خاض الناس في تسميته فقال بعضهم : نسميه المنتصر فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رأى في منامه فوجده موافقا فأمضى و كتب به إلى الآفاق
و أخرج عن هشام بن عمار قال : سمعت المتوكل يقول : واحسرتا على محمد بن إدريس الشافعي كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه و أشاهده و أتعلم منه فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام و هو يقول : يا أيها الناس إن محمد بن إدريس المطلبي قد صار إلى رحمة الله و خلف فيكم علما حسنا فاتبعوه تهدوا ثم قال : اللهم ارحم محمد بن إدريس رحمه واسعة و سهل على حفظ مذهبه و انفعني بذلك
قلت استفدنا من أن المتوكل كان متمذهبا بمذهب الشافعي و هو أول من تمذهب له من الخلفاء
و أخرج عن أحمد بن علي البصري قال : وجه المتوكل إلى أحمد بن المعدل و غيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم له غير أحمد بن المعدل فقال المتوكل لعبيد الله : إن هذا لا يرى بيعتنا فقال له : بلى يا أمير المؤمنين و لكن في بصره سوءا فقال أحمد بن المعدل : يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء و لكن نزهتك من عذاب الله قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ] فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه
و أخرج عن يزيد المهلبي قال : قال لي المتوكل : يا مهلبي إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها و أنا ألين لهم ليحبوني و يطيعوني
و أخرج عن عبد الأعلى بن حماد النرسي قال : دخلت على المتوكل فقال : يا أبا يحيى ما أبطأك عنا ! منذ ثلاث لم نرك كنا هممنا لك بشيء فصرفناه إلى غيرك فقلت : يا أمير المؤمنين جزاك الله على هذا الهم خيرا ألا أنشدك بهذا المعنى بيتين ؟ قال : بلى فأنشدته :
( لأشكرنك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف )
( و لا ألومك إذا لم يمضه قدر ... فالرزق بالقدر المحتوم مصروف )
فأمر لي بألف دينار
و أخرج عن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال : دخلت على المتوكل لما توفيت أمه فقال : يا جعفر ربما قلت البيت الواحد فإذا جاوزته خلطت و قد قلت :
( تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فندبت نفسي بالنبي محمد )
فأجازه بعض من حضر المجلس بقوله :
( و قلت لها : إن المنايا سبيلنا ... فمن لم تمت في يومه مات في غد )
و أخرج عن الفتح بن خاقان قال : دخلت يوما على المتوكل فرأيته مطرقا متفكرا فقلت : يا أمير المؤمنين ما هذا الفكر ؟ فو الله ما ظهر على الأرض أطيب منك عيشا و لا أنعم منك بالا فقال : يا فتح أطيب عيشا مني رجل له دار واسعة و زوجة صالحة و معيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه و لا يحتاج إلينا فنزدريه و أخرج عن أبي العيناء قال : أهديت إلى المتوكل جارية شاعرة اسمها فضل فقال لها : أشاعرة أنت ؟ قالت : هكذا زعم من باعني و اشتراني فقال : أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته :
( استقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث و ثلاثينا )
( خلافة أفضت إلى جعفر ... و هو ابن سبع بعد عشرينا )
( إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا )
( لا قدس الله أمرا لم يقل ... عند دعائي لك : آمينا )
و أخرج عن علي بن الجهم قال : أهدي إلى المتوكل جارية يقال لها محبوبة قد نشأت بالطائف و تعلمت الأدب و روت الأشعار فأغري المتوكل بها ثم إنه غضب عليها و منع جواري القصر من كلامها فدخلت عليه يوما فقال لي : قد رأيت محبوبة في منامي كأني قد صالحتها فقلت : خيرا يا أمير المؤمنين فقال : قم بنا للنظر ما هي عليه فقمنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب على العود و تقول :
( أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه و لا يكلمني )
( حتى كأني أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلصني )
( فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى و صالحني )
( حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجرة فصارمني )
فصاح المتوكل فخرجت فأكبت على رجليه تقبلهما فقالت : يا سيدي رأيتك في ليلتي هذه كأنك قد صالحتني قال : و أنا و الله قد رأيتك فردها إلى مرتبتها فلما قتل المتوكل صارت إلى بغا و ذكر الأبيات السابقة
و أخرج عن علي أن البحتري قال يمدح المتوكل فيما رفع من المحنة و يهجو ابن أبي دؤاد بقوله :
( أمير المؤمنين لقد شكرنا ... إلى آبائك الغر الحسان )
( رددت الدين فذا بعد أن قد ... أراه فرقتين تخاصمان )
( قصمت الظالمين بكل أرض ... فأضحى الظلم مجهول المكان )
( و في سنة رمت متجبريهم ... على قدر بداهية عيان )
( فما أبقت من ابن أبي دؤاد ... سوى حسد يخاطب بالمعاني )
( تحير فيه سابور بن سهل ... فطاوله و مناه الأماني )
( إذا أصحابه اصطحبوا بليل ... أطالوا الخوض في خلق القران )
و أخرج عن أحمد بن حنبل قال : سهرت ليلة ثم نمت فرأيت في نومي كأن رجلا يعرج بي إلى السماء و قائلا يقول :
( ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضل في العفو ليس بجائر )
ثم أصبحنا فجاء نعي المتوكل من [ سر من رأى ] إلى بغداد
و أخرج عن عمرو بن شيبان الجهني قال : رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في المنام قائلا يقول :
( يا نائم العين في أوطار جسمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان )
( أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي و بالفتح بن خاقان ؟ )
( وافى إلى الله مظلوما تضج له ... أهل السموات من مثنى و وحدان )
( و سوف يأتيكم أخرى مسومة ... توقعوا لها شأن من الشان )
( فابكوا على جعفر و ارثوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس و الجان )
ثم رأيت المتوكل في النوم بعد أشهر فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بقليل من السنة أحييتها قلت : فما تصنع ههنا ؟ قال : أنتظر محمدا ابني أخاصمه إلى الله
قال الخطيب : أخبرنا أبو الحسين الأهوازي حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم القاضي حدثنا محمد بن هارون الهاشمي حدثنا محمد بن شجاع الأحمر قال : سمعت المتوكل يحدث [ عن يحيى بن أكثم عن محمد بن عبد المطلب عن سفيان عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حرم الرفق حرم الخير ] أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من وجه آخر عن جرير
و قال ابن عساكر : أخبرنا نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي حدثنا جدي أبو محمد حدثنا أبو علي الحسين بن علي الأهوازي حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الأزدي حدثنا أبو الطيب محمد بن جعفر بن داران غندر حدثنا هارون بن عبد العزيز بن أحمد العباسي حدثنا أحمد بن الحسن المقرىء البزار حدثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى الكسائي و أحمد بن زهير و إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق فقالوا : حدثنا علي بن الجهم قال : كنت عند المتوكل فتذاكروا عنده الجمال فقال : إن حسن الشعر لمن الجمال ثم قال : حدثني المعتصم حدثني المأمون حدثنا الرشيد حدثنا المهدي حدثنا المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم جمة إلى شحمة أذنيه كأنها نظام اللؤلؤ و كان من أجمل الناس و كان أسمر رقيق اللون لا بالطويل و لا بالقصير و كان لعبد المطلب جمة إلى شحمة أذنيه و كان لهاشم جمة إلى شحمة أذنيه قال علي بن الجهم : و كان للمتوكل جمة إلى شحمة أذنيه و قال لنا المتوكل : كان للمعتصم جمة و كذلك للمأمون و الرشيد و المهدي و المنصور ولأبيه محمد و لجده علي و لأبيه عبد الله بن عباس
قلت : هذا الحديث مسلسل من ثلاثة أوجه بذكر الجمة و الآباء و بالخلفاء ففي إسناده ست خلفاء
مات في أيام خلافة المتوكل من الأعلام : أبو ثور و الإمام أحمد بن حنبل و إبراهيم بن المنذر الخزامي و إسحاق بن راهوية النديم و روح المقرىء و زهير بن حرب و سحنون و سليمان الشاذكوني و أبو مسعود العسكري و أبو جعفر النفيلي و أبو بكر بن أبي شيبة و أخوه وديك الجن الشاعر و عبد الملك بن حبيب إمام المالكية و عبد العزيز بن يحيى الغول أحد أصحاب الشافعي و عبيد الله بن عمر القواريري و علي بن المديني و محمد بن عبد الله بن نمير و يحيى بن معين و يحيى بن بكير و يحيى بن يحيى و يوسف الأزرق المقرىء و بشر بن الوليد الكندي المالكي و ابن أبي دؤاد ذاك الكلب لا رحمه الله و أبو بكر الهذلي العلاف شيخ الاعتزال و رأس أهل الضلال و جعفر بن حرب من كبار المعتزلة و ابن كلاب المتكلم و القاضي يحيى بن أكثم و الحارث المحاسبي و حرملة صاحب الشافعي و ابن السكيت و أحمد بن منيع و ذم النون المصري الزاهد و أبو تراب النخشبي و أبو عمر الدوري المقرىء و دعبل الشاعر و أبو عثمان المازني النحوي و خلائق آخرون
المنتصر بالله محمد بن المتوكل بن المعتصم 247هـ ـ 248ه
المنتصر بالله : محمد أبو جعفر و قيل : أبو عبد الله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد أمه أم ولد رومية اسمها حبشية و كان مليح الوجه أسمر أعين أقنى ربعة جسيما بطينا مليحا مهيبا وافر العقل راغبا في الخير قليل الظلم محسنا إلى العلويين و صولا لهم أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف و المحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين ورد على آل الحسين فدك فقال يزيد المهلبي في ذلك :
( و لقد بررت الطالبية بعد ما ... ذموا زمانا بعدها و زمانا )
( و رددت ألفة هاشم فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانا )
بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة سبع و أربعين و مائتين فخلع أخويه المعتز و المؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده و أظهر العدل و الإنصاف في الرعية فمالت إليه القلوب مع شدة هيبتهم له و كان كريما حليما
و من كلامه : لذة العفو أعذب من لذة التشفي و أقبح أفعال المقتدر الانتقام
و لما ولي صار يسب الأتراك و يقول : هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه و هموا به فعجزوا عنه لأنه كان مهيبا شجاعا فطنا متحرزا فتحيلوا إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات و يقال : إن ابن طيفور نسي ذلك و مرض فأمر غلامه ففصده بتلك الريشة فمات أيضا و قيل : بل سم في كمثراة و قيل : مات بالخوانيق و لما احتضر قال : يا أماه ذهبت مني الدنيا و الآخرة عاجلت أبي فعوجلت
مات في خامس ربيع الآخر سنة ثمان و أربعين عن ست و عشرين سنة أو دونها فلم يمتع بالخلافة إلا أشهرا معدودة دون ستة أشهر و قيل : إنه جلس في بعض الأيام للهو و قد استخرج من خزائن أبيه فرشا فأمر بفرشها في المجلس فرأى في بعض البسط دائرة فيها فارس و عليه تاج و حوله كتابة فاريسية فطلب من يقرأ ذلك فأحضر رجل فنظره فقطب فقال : ما هذه ؟ قال : لا معنى لها فألح عليه فقال : أنا شيرويه ابن كسرى بن هرمز قتلت أبي فلم أتمتع بالملك إلا ستة أشهر فتغير وجه المنتصر و أمر بإحراق البساط و كان منسوجا بالذهب
و في لطائف المعارف للثعالبي : أعرق الخلفاء في الخلافة المنتصر فإنه هو و آباؤه الخمسة خلفاء و كذلك أخواه المعتز و المعتمد
قلت : أعرق منه المستعصم الذي قتله التتار فإن آباءه الثمانية خلفاء
قال الثعالبي : و من العجائب أن أعرق الأكاسرة في الملك ـ و هو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلا ستة أشهر و أعرق الخلفاء في الخلافة ـ و هو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتع بعده سوى ستة أشهر
المستعين بالله أحمد بن المعتصم 248هـ ـ 252ه
المستعين بالله : أبو العباس أحمد بن المعتصم بن الرشيد و هو أخو المتوكل ولد سنة إحدى و عشرين و مائتين و أمه أم ولد اسمها مخارق و كان مليحا أبيض بوجهه أثر جدري ألثغ و لما مات المنتصر اجتمع القواد و تشاوروا و قالوا : متى وليتم أحدا من أولاد المتوكل لا يبقى منا باقية فقالوا : مالها إلا أحمد بن المعتصم ولد أستاذنا فبايعوه و له ثمان و عشرون سنة و استمر إلى أول سنة إحدى و خمسين فتنكر له الأتراك لما قتل وصيفا و بغا و نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل و لم يكن للمستعين مع وصيف و بغا أمر حتى قيل في ذلك :
( خليفة في قفص ... بين وصيف و بغا )
( يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا )
و لما تنكر له الأتراك خاف و انحدر من سامرا إلى بغداد فأرسلوا إليه يعتذرون و يخضعون له و يسألونه الرجوع فامتنع فقصدوا الحبس و أخرجوا المعتز بالله و بايعوه و خلعوا المستعين ثم جهز المعتز جيشا كثيفا لمحاربة المستعين و استعد أهل بغداد للقتال مع المستعين فوقعت بينهما وقعات و دام القتال أشهرا و كثر القتل و غلت الأسعار و عظم البلاء و انحل أمر المستعين فسعوا في الصلح على خلع المستعين و قام في ذلك إسماعيل القاضي و غيره بشروط مؤكدة فخلع المستعين نفسه في أول سنة اثنتين و خمسين و أشهد عليه القضاة و غيرهم فأحدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوسا موكلا به أمين ثم رد إلى سامراء و أرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال : و الله لا أقتل أولاد الخلفاء فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة و له إحدى و ثلاثون سنة و كان خيرا فاضلا بليغا أديبا و هو أول من أحدث لبس الأكمام الواسعة فجعل عرضها نحو ثلاثة أشبار و صغر القلانس و كانت قبله طوالا
مات في أيامه من الأعلام : عبد بن حميد و أبو الطاهر بن السرح و الحارث بن مسكين و البزي المقرئ و أبو حاتم السجستاني و الجاحظ و آخرون
المعتز بالله محمد بن المتوكل بن المعتصم 252 هـ ـ 255 ه
المعتز بالله : محمد ـ و قيل الزبير ـ أبو عبد الله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولد سنة اثنتين و ثلاثين ومائتين و أمه أم ولد رومية تسمى قبيحة و بويع له عند خلع المستعين في سنة اثنتين و خمسين و له تسع عشرة سنة و لم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه و كان بديع الحسن قال علي بن حرب ـ أحد شيوخ ابن المعتز في الحديث : ما رأيت خليفة أحسن منه و هو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب و كان الخلفاء قبل يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة
و أول سنة تولى مات أشناس الذي كان الواثق استخلفه على السلطنة و خلف خمسمائة ألف دينار فأخزها المعتز و خلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر و قلده سيفين ثم عزله و خلع خلعة الملك على أخيه ـ أعني أخ المعتز أبا أحمد ـ و توجه بتاج من ذهب و قلنسوة مجوهرة و وشاحين مجوهرين و قلده سيفين ثم عزله من عامه و نفاه إلى واسط و خلع على بغا الشرابي و ألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه
و في رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد و ضربه وقيده فمات بعد أيام فخشي المعتز أن يتحدث عنه أنه قتله أو احتال عليه فأحضر القضاة حتى شاهدوه و ليس به أثر و كان المعتز مستضعفا مع الأتراك فاتفق أن جماعة من كبارهم أتوه و قالوا : يا أمير المؤمنين أعطينا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف و كان المعتز يخاف منه فطلب من أمه مالا لينفقه فيهم فأبت عليه و شحت نفسها و لم يكن بقي في بيوت المال شيء فاجتمع الأتراك على خلعه و وافقهم صالح بن وصيف و محمد بن بغا فلبسوا السلاح و جاؤوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن أخرج إلينا فبعث يقول : قد شربت دواء و أنا ضعيف فهجم عليه جماعة و جروا برجله و ضربوه بالدبابيس و أقاموه في الشمس في يوم صائف و هم يلطمون وجهه و يقولون : اخلع نفسك ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب و الشهود و خلعوه ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة ـ و هو يومئذ سامرا ـ محمد بن الواثق و كان المعتز قد أبعده إلى بغداد فسلم المعتز إليه الخلافة و بايعه ثم إن الملأ أخذوا المعتز بعد خمس ليال من خلعه فأدخلوه الحمام فلم اغتسل عطش فمنعوه الماء ثم أخرج ـ و هو أول ميت مات عطشا ـ فسقوه ماء بثلج فشربه و سقط ميتا و ذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين و مائتين و اختفت أمه قبيحة ثم ظهرت في رمضان و أعطت صالح بن وصيف مالا عظيما من ذلك ألف ألف دينار و ثلاثمائة ألف دينار و سفط فيه مكوك زمرد و سفط فيه لؤلؤ حب كبار و كيلجة ياقوت أحمر و غير ذلك فقومت السفاط بألفي ألف دينار فلما رأى ابن وصيف ذلك قال : قبحها الله ! عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار و عندها هذا فأخذ الجميع و نفاها إلى مكة فبقيت بها إلى أن تولى المعتمد فردها إلى سامراء و ماتت سنة أربع و ستين
مات في أيام المعتز من الأعلام : سري السقطي الزاهد و هارون بن سعيد الأيلي و الدارمي صاحب [ المسند ] و العتبي صاحب [ المسائل العتبية في مذهب مالك ] و آخرون رحمهم الله تعالى
المهتدي بالله محمد بن الواثق بن المعتصم 255 هـ ـ 256 ه
المهتدي باله الخليفة الصالح : محمد أبو إسحاق ـ و قيل : أبو عبد الله ـ بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد أمه أم ولد تسمى وردة ولد في خلافة جده سنة بضع عشرة و مائتين و بويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس و خمسين و مائتين و ما قبل بيعته أحد حتى أتي بالمعتز فقام المهتدي له و سلم عليه بالخلافة و جلس بين يديه فجيء بالشهود فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة فاعترف بذلك و مد يده فبايع المهتدي فارتفع حينئذ المهتدي الى صدر المجلس
و كان المهتدي أسمر رقيقا مليح الوجه ورعا متعبدا عادلا قويا في أمر الله بطلا شجاعا لكنه لم يجد ناصرا و لا معينا
قال الخطيب : لم يزل صائما منذ ولي إلى أن قتل و قال هاشم بن القاسم : كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان فوثبت لأنصرف فقال لي : اجلس فجلست و تقدم فصلى بنا ثم دعا بالطعام فأحضر طبق خلاف و عليه رغيف من الخبز النقي و فيه آنية فيها ملح و خل و زيت دعاني إلى الأكل فابتدأت آكل ظانا أنه سيؤتى بطعام فنظر إلي و قال : ألم تك صائما ؟ قلت : بلى قال : أفلست عازما على الصوم ؟ فقلت : كيف لا و هو رمضان ؟ فقال : كل و استوف فليس ههنا من الطعام غير ما ترى فعجبت ثم قلت : و لم يا أمير المؤمنين و قد أسبغ الله نعمته عليك ؟ فقال : إن الأمر ما وصفت و لكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز ـ و كان من التقلل و التقشف على ما بلغك ـ فغرت على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت
و قال جعفر بن عبد الواحد : ذاكرت المهتدي بشيء فقلت له : كان أحمد بن حنبل يقول به و لكنه كان يخالف ـ أشير إلى من مضى من آبائه ـ فقال : رحم الله أحمد ابن حنبل ! و الله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه ثم قال لي : تكلم بالحق و قل به فإن وقال نفطويه : حدثني بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي سفط فيه جبة صوف و كساء كان يلبسه بالليل و يصلي فيه و كان قد اطرح الملاهي و حرم الغناء و حسم أصحاب السلطان عن الظلم و كان شديد الإشراف على أمر الدواوين يجلس بنفسه و يجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب و كان لا يخل بالجلوس الاثنين و الخميس و ضرب جماعة من الرؤساء و نفي جعفر بن محمود إلى بغداد و كره مكانه لأنه نسب عنده إلى الرفض
و قدم موسى بن بغا من الري يريد سامرا لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز و أخذ أموال أمه و معه جيشه فصاحت العامة على ابن وصيف : يا فرعون قد جاءك موسى فطلب موسى بن بغا الإذن على المهتدي فلم يأذن له فهجم بمن معه عليه ـ و هو جالس في دار العدل ـ فأقاموه و حملوه على فرس ضعيفة و انتهبوا القصر و أدخلوا المهتدي إلى دار ناجود و هو يقول : يا موسى اتق الله ويحك ! ما تريد ؟ قال : و الله ما نريد إلا خيرا فاحلف لنا أن لا تمالىء صالح بن وصيف فحلف لهم فبايعوه حينئذ ثم طلبوا صالحا ليناظروه على أفعاله فاختفى و ندبهم المهتدي إلى الصلح فاتهموه أنه يدري مكانه فجري في ذلك كلام ثم تكلموا في خلعه فخرج إليهم المهتدي من الغد متقلدا بسيفه فقال : قد بلغني شأنكم و لست كمن تقدمني مثل المستعين و المعتز و الله ما خرجت إليكم إلا و أنا متحنط و قد أوصيت و هذا سيفي و الله لأضربن به ما استمسكت قائمته بيدي أما دين أما حياء أما دعة ؟ لم يكن الخلاف على الخلفاء و الجرأة على الله ؟ ثم قال : ما أعلم علم صالح فرضوا و انفضوا و نادى موسى بن بغا : من جاء بصالح فله عشرة ألاف دينار فلم يظفر به أحد و اتفق أن بعض الغلمان دخل زقاقا وقت الحر فرأى بابا مفتوحا فدخل فمشي في دهليز مظلم فرأى صالحا نائما فعرفه ـ و ليس عنده أحد ـ فجاء إلى موسى فأخبره فبعث جماعة فأخذوه و قطعت رأسه و طيف به و تألم المهتدي لذلك في الباطن ثم رحل موسى و معه بكيال الى السن في طلب مساور فكتب المهتدي الى بكيال أن يقتل موسى و مفلحا أحد أمراء الأتراك أيضا أو يمسكهما و يكون هو الأمير على الأتراك كلهم فأوقف بكيال موسى على كتابه و قال : إني لست أفرح بهذا و إنما هذا يعمل علينا كلنا فاجمعوا على قتل المهتدي و ساروا إليه فقاتل عن المهتدي المغاربة و الفراغنة و الأشروسنية و قتل من الأتراك في يوم أربة آلاف و دام القتال الى أن هزم جيش الخليفة و أمسك هو فعصر على خصيتيه فمات و ذلك في رجب سنة ست و خمسين فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوما و كان لما قامت الأتراك عليه ثار العوام و كتبوا رقاعا و ألقوها في المساجد : يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه
المعتمد على الله أحمد بن المتوكل بن المعتصم أبو العباس 256 هـ ـ 279 ه
المعتمد على الله أبو العباس ـ و قيل : أبو جعفر ـ أحمد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد ولد سنة تسع و عشرين و مائتين أمه رومية اسمها فتيان و لما قتل المهتدي و كان المعتمد محبوسا بالجوسق فأخرجوه و بايعوه ثم إنه استعمل أخاه الموفق طلحة على المشرق و صير ابنه جعفرا ولي عهده و ولاه مصر و المغرب و لقبه المفوض إلى الله و انهمك المعتمد في اللهو و اللذات واشتغل عن الرعية فكرهه الناس و أحبوا أخاه طلحة
و في أيامه دخلت الزنج البصرة و أعمالها و أخربوها و بذلوا السيف و أحرقوا و خربوا و سبوا و جرى بينهم و بين عسكره عدة وقعات و أمير عسكره في أكثرها الموفق أخوه و أعقب ذلك الوباء الذي لا يكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق فمات خلق لا يحصون ثم أعقبه هدات و زلازل فمات تحت الردم ألوف من الناس و استمر القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد سنة ست و خمسين إلى سنة سبعين فقتل فيه رأس الزنج لعنه الله و اسمه بهبوذ و كان ادعى أنه أرسل إلى الخلق فرد الرسالة و أنه مطلع على المغيبات
و ذكر الصولي أنه قتل من المسلمين ألف ألف و خمسمائة ألف آدمي و قتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف و كان له منبر في مدينته يصعد عليه و يسب عثمان و عليا و معاوية و طلحة و الزبير و عائشة رضي الله عنهم
و كان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين و ثلاثة و كان عند الواحد من الزنج العشر من العلويات يطؤهن و يستخدمهن
و لما قتل هذا الخبيث دخل برأسه بغداد على رمح و عملت قباب الزينة و ضج الناس بالدعاء للموفق و مدحه الشعراء و كان يوما مشهودا و أمن الناس و تراجعوا الى المدن التي أخذها و هي كثيرة كواسط و رامهرمز
و في سنة ستين من أيامه وقع غلاء مفرط بالحجاز و العراق و بلغ كر الحنطة في بغداد مائة و خمسين دينارا و فيها أخذت الروم بلد لؤلؤة
و في سنة إحدى و ستين بايع المعتمد بولاية العهد بعده لابنه المفوض إلى الله جعفر ثم من بعده لأخيه الموفق طلحة و ولى ولده المغرب و الشام و الجزيرة و أرمنية و ولى أخاه المشرق و العراق و بغداد و الحجاز و اليمن و فارس و أصبهان و الري و خراسان و طبرستان و سجستان و السند و عقد لكل منها لواءين : أبيض و أسود و شرط إن حدث به حدث أن الأمر لأخيه إن لم يكن ابنه جعفر قد بلغ و كتب العهد و أنفذه مع قاضي القضاء ابن أبي الشوارب ليعلقه في الكعبة
و في سن ست و ستين وصلت عساكر الروم إلى ديار بكر ففتكوا و هرب أهل الجزيرة و الموصل و فيها وثبت الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها
و في سنة سبع و ستين استولى أحمد بن عبد الله الحجابي على خرسان و كرمان و سجستان و عزم على قصد العراق و ضرب السكة باسمه و على الوجه الآخر اسم المعتمد و هذا محل الغرابة ثم إنه آخر السنة قتله غلمانه فكفى الله شره
و في سنة تسع و ستين اشتد تخيل المعتمد من أخيه الموفق فإنه كان خرج عليه في سنة أربع و ستين ثم اصطلحا فلما استد تخيله منه هذا العام كاتب المعتمد ابن طولون نائبه بمصر و اتفقا على أمر فخرج ابن طولون حتى قدم دمشق و خرج المعتمد من سامرا على وجه التنزه و قصده دمشق فلما بلغ ذلك الموفق كتب إلى إسحاق بن كنداج ليرده فركب ابن كنداج من نصيبين إلى المعتمد فلقيه بين الموصل و الحديثة فقال : يا أمير المؤمنين أخوك في وجه العدو و أنت تخرج عن مستقرك و دار ملكك و متى صح هذا عنده رجع عن مقاومة الخارجي فيغلب عدوك على ديار آباك في كلمات أخر ثم وكل بالمعتمد جماعة و رسم على طائفة من خواصه ثم بعث إلى المعتمد يقول : ما هذا بمقام فارجع فقال المعتمد : فاحلف لي أنك تنحدر معي و لا تسلمني فحلف له و انحدر إلى سامرا فتلقاه صاعد بن مخلد كاتب الموفق فسلمه إسحاق إليه فأنزل في دار أحمد بن الخصيب و منعه من نزول دار الخلافة و وكل به خمسمائة رجل يمنعون من الدخول إليه و لما بلغ الموفق ذلك بعث إلى إسحاق بخلع و أموال و أقطعه ضياع القواد الذين كانوا مع المعتمد و لقبه ذا السندين و لقب صاعدا ذا الوزارتين و أقام صاعد في خدمة المعتمد و لكن ليس للمعتمد حل و لا ربط و قال المعتمد في ذلك
( أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه ؟ )
( و تؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... و ما من ذاك شيء في يديه )
( إليه تحمل الأموال طرا ... و يمنع بعض ما يجبى إليه )
و هو أول خليفة قهر و حجر عليه و وكل به ثم أدخل المعتمد واسط و لما بلغ ابن طولون ذلك جمع الفقهاء و القضاة و الأعيان و قال : قد نكث الموفق بأمير المؤمنين فاخلعوه من العهد فخلعوه إلا القاضي بكار بن قتيبة فإنه قال : أنت أوردت علي من المعتمد كتابا بولايته العهد فأورد علي كتابا آخر منه بخلعه فقال إنه محجور عليه و مقهور فقال : لا أدري فقال ابن طولون : غرك الناس بقولهم في الدنيا مثل بكار أنت شيخ قد خرقت و حبسه و قيده و أخذ منه جميع عطاياه من سنين فكانت عشرة آلاف دينار فقيل : إنها وجدت في بيت بكار بختمها و بلغ الموفق ذلك فأمر بلعن ابن طولون على المنابر
ثم في شعبان من سنة سبعين أعيد المعتمد إلى سامرا و دخل بغداد و محمد بن طاهر بين يديه بالحرية و الجيش في خدمته كأنه لم يحجر عليه و مات بن طولون في هذه السنة فولى الموفق ابنه أبا العباس أعماله و جهزه إلى مصر في جنود العراق و كان خمارويه ابن أحمد بن طولون أقام على ولايات أبيه بعده فوقع بينه و بين أبي العباس بن الموفق وقعة عظيمة بحيث جرت الأرض من الدماء و كان النصر للمصريين
و في السنة انبثق ببغداد في نهر عيسى بثق فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار
و فيها نازلت الروم طرسوس في مائة ألف فكانت النصرة للمسلمين و غنموا مالا يحصى و كان فتحا عظيما عديم المثل
و فيها ظهرت دعوة المهدي عبيد الله بن عبيد جد بني عبيد خلفاء المصريين الروافض في اليمن و أقام على ذلك إلى سنة ثمان و سبعين فحج تلك السنة و اجتمع بقبيلة من كتامة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر و رأى منهم طاعة و قوة فصحبهم إلى المغرب فكان ذلك أول شأن المهدي
و في سنة سنة إحدى و سبعين قال الصولي : و لي هارون بن إبراهيم الهاشمي الحسبة فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس فتعاملوا بها على كره ثم تركوها
و في سنة ثمان و سبعين غار نيل مصر فلم يبق منه شيء و غلت الأسعار و فيها مات الموفق و استراح منه المعتمد
و فيها ظهرت القرامطة بالكوفة و هم نوع من الملاحدة يدعون أنه لا غسل من الجنابة و أن الخمر حلال و يزيدون في أذانهم [ و أن محمد ابن الحنيفة رسول الله ] و أن الصوم في السنة يومان : يوم النيروز و يوم المهرجان و أن الحج و القبلة إلى بيت المقدس و أشياء أخرى و نفق قولهم على الجهال و أهل البر و تعب الناس بهم
و في سنة تسع و سبعين ضعف أمر المعتمد جدا لتمكن أبي العباس بن الموفق من الأمور و طاعة الجيش له فجلس المعتمد مجلسا عاما و أشهد فيه على نفسه أنه خلع ولده المفوض من ولاية العهد و بايع لأبي العباس و لقبه المعتضد و أمر المعتضد في هذه السنة أن لا يقعد في الطريق منجم و لا قصاص و استحلف الوارقين أن لا يبيعوا كتب الفلاسفة و الجدل
و مات المعتمد بعد أشهر من هذه السنة فجأه فقيل : إنه سم و قيل : بل نام فغم في بساط و ذلك ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب و كانت خلافته ثلاثا و عشرين سنة إلا أنه كان مقهورا مع أخيه الموفق لاستلائه على الأمور و مات و هو كالمحجور عليه من بعض الوجوه من جهة المعتضد أيضا
و ممن مات في أيامه من الأعلام : البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الربيع الجيزي و الربيع المرادي و المزني و يونس بن عبد الأعلى و الزبير بن بكار و أبو الفضل الرياشي و محمد بن يحيى الذهلي و حجاج بن يوسف الشاعر و العجلي الحافظ و قاضي القضاة ابن أبي الشوارب و السوسي المقرئ و عمر بن شبة و أبو زرعة الرازي و محمد بن عبد الله بن عبد الحكم و القاضي بكار و داود الظاهري و ابن دارة و بقي بن مخلد و ابن قتيبة و أبو الحاتم الرازي و آخرون و من قول عبد الله بن المعتز في المعتمد يمدحه :
( يا خير من تزجى المطي له ... و يمر حبل العهد موثقه )
( أضحى عنان الملك مقتسرا ... بيديك تحسبه و تطلقه )
( فاحكم لك الدنيا و ساكنها ... ما طاش سهم أنت موفقه )
و من شعر المعتمد لما حجر عليه :
( أصبحت لا أملك دفعا لما ... أسام من خسف و من ذلة )
( تمضي أمور الناس دوني و لا ... يشعرني في ذكرها قلتي )
( إذا اشتهيت الشيء و لوا به ... عني و قالوا : ههنا علتي )
قال الصولي : كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب
و رثاه أبو سعيد الحسن بن سعيد النيسابوري بقوله :
( لقد قر طرف الزمان النكد ... و كان سخيا كليلا رمد )
( و بلغت الحادثات المنى ... بموت إمام الهدى المعتمد )
( و لم يبق لي حذر بعده ... فدون المصائب فلتجهد )
المعتضد بالله بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم 279 هـ ـ 289 ه
المعتضد بالله : أحمد أبو العباس ابن ولي العهد الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولد في ذي القعدة سنة اثنتين و أربعين و مائتين
و قال الصولي : في ربيع الأول سنة ثلاث و أربعين و مائتين و أمه أم ولد اسمها صواب و قيل : حرز و قيل ضرار و بويع له رجب سنة تسع و سبعين و مائتين بعد عمه المعتمد و كان ملكا شجاعا مهيبا ظاهر الجبروت وافر العقل شديد الوطأة من أفراد خلفاء بني العباس و كان يقدم على الأسد وحده لشجاعته و كان قليل الرحمة : إذا غضب على قائد أمر بأن يلقى في حفيره و يطم عليه و كان ذا سياسة عظيمة
قال عبد الله بي حمدون : خرج المعتضد يتصيد فنزل إلى جانب مقثأة ـ و أنا معه ـ فصاح الناطور فقال : علي به فأحضر فسأله فقال : ثلاثة غلمان نزلوا المقثأة فأخربوها فجيء بهم فضربت أعناقهم من الغد المقثأة ثم كلمني بعد مدة فقال : أصدقني فيما ينكر علي الناس قلت : الدماء قال : و الله ما سفكت دما حراما منذ وليت قلت أحمد بن الطيب ؟ قال : دعاني إلى الإلحاد قلت : فالثلاثة الذين نزلوا المقثأة ؟ قال : و الله ما قتلتهم و إنما قتلت لصوصا قد قتلوا و أوهمت أنهم هم
و قال إسماعيل القاضي : دخلت على المعتضد و على رأسه أحداث صباح الوجوه روم فنظرت إليهم فلما أردت القيام قال لي : أيها القاضي و الله ما حللت سراويلي على حرام قط
و دخلت مرة فدفع إلي كتابا فنظرت فيه فإذا هو قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء فقلت : مصنف هذا زنديق فقال : أمختلق ؟ قلت : لا و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة و من أباح المتعة لم يبح الغناء و ما من عالم إلا و له زله و من أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه فأمر بالكتاب فأحرق
و كان المعتضد شهما جلدا موصوفا بالرجلة قد لقي الحروب و عرف فضله فقام بالأمر أحسن قيام و هابه الناس و رهبوه أحسن رهبة و سكنت الفتن في أيامه لفرط هيبته
و كانت أيامه طيبة كثيرة الأمن و الرخاء
و كان قد أسقط المكوس و نشر العدل و رفع الظلم عن الرعية
و كان يسمى [ السفاح الثاني ] لأنه جدد ملك بني العباس و كان قد خلق و ضعف و كاد يزول و كان في اضطرب من وقت قتل المتوكل و في ذلك يقول ابن الرومي يمدحه :
( هنيئا بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى و البأس و الجود أحمد )
( كما بأبي العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس أيضا يجدد )
( إمام يظل الأمس يعمل نحوه ... تلهف ملهوف و يشتاقه الغد )
و قال في ذلك ابن المعتز أيضا :
( أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزا بعدما ذللا )
( يا طالبا للملك كن مثله ... تستوجب الملك و إلا فلا )
و في أول سنة استخلف فيه منع الوارقين من بيع كتب الفلاسفة و ما شاكلها و منع القصاص و المنجمين من القعود في الطريق و صلى بالناس صلاة الأضحى فكبر في الأولى ستا و في الثانية واحدة و لم تسمع منه الخطبة
و في سنة ثمانين دخل داعي المهدي إلى القيروان و فشا أمره و وقع القتال بينه و بين صاحب إفريقية و صار أمره في زيادة
و فيها ورد كتاب من الدبيل أن القمر كسف في شوال و أن الدنيا أصبحت مظلمة إلى العصر فبهت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل و أعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة المدينة فكان عدة من أخرج من تحت الردم مائة ألف و خمسين ألفا
و في سنة إحدى و ثمانين فتحت مكورية في بلاد الروم
و فيها غارت مياه الري و طبرستان حتى بيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم و قحط الناس و أكلوا الجيف
و فيها هدم المعتضد دار الندوة بمكة وصيرها مسجدا إلى جانب المسجد الحرام
و في سنة اثنتين و ثمانين أبطل ما يفعل في النيروز : من وقيد النيران و صب الماء على الناس و أزال سنة المجوس
و فيها زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون فدخل عليها في ربيع الأول و كان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة و عشر صناديق جوهر
و في سنة ثلاث و ثمانين كتب إلى الآفاق بأن يورث ذوو الأرحام و أن يبطل ديوان المواريث و كثر الدعاء للمعتضد
و في سنة أربع و ثمانين ظهرت بمصر حمرة عظيمة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الرجل فيراه أحمر و كذا الحيطان فتضرع الناس بالدعاء إلى الله تعالى و كانت من العصر إلى الليل
قال ابن جرير : و فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر فخوفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة فلم يلتفت و كتب كتابا في ذلك ذكر فيه كثيرا من مناقب علي و مثالب معاوية فقال له القاضي يوسف : يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه فقال : إن تحركت العامة وضعت السيف فيها قال : فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك ؟ و إذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل فأمسك المعتضد عن ذلك
و في سنة خمس و ثمانين هبت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء ثم صارت سوداء و امتدت في الأمصار و وقع عقبها برد زنة البردة مائة و خمسون درهما و قلعت الريح نحو خمسمائة نخلة و مطرت قرية حجارة سودا و بيضا
و في سنة ست و ثمانين ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي و قويت شوكته ـ و هو أبو أبي طاهر سليمان الذي يأتي أنه قلع الحجر الأسود ـ و وقع القتال بينه و بين عسكر الخليفة و أغار على البصرة و نواحيها و هزم جيش الخليفة مرات
و من أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب و ابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي قال : وجه المعتضد إلى القاضي أبي حازم يقول : إن لي على فلان مالا و قد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك و قد قسطت لهم من ماله فاجعلنا كأحدهم فقال أبو حازم : قل له : أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ذاكر لما قال لي وقت قلدني إنه قد أخرج الأمر من عنقه و جعله في عنقي و لا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة فرجع إليه فأخبره فقال : قل له : فلان و فلان يشهدان ـ يعني رجلين جليلين ـ فقال : يشهدان عندي و أسأل عنهما ؟ فإن زكيا قبلت شهادتهما و إلا أمضيت ما قد ثبت عندي فامتنع أولئك من الشهادة فزعا و لم يدفع إلى المعتضد شيئا
و قال ابن حمدون النديم : غرم المعتضد على عمارة البحيرة ستين ألف دينار و كان يخلوا فيها مع جواريه و فيهن محبوبته دريرة فقال ابن بسام :
( ترك الناس بحيره ... و تخلى في البحيره )
( قاعدا يضرب بالطبـ ... ل على حر دريره )
فبلغ ذلك المعتضد فلم يظهر أنه بلغه ثم أمر بتخريب تلك العمارات ثم ماتت دريرة في أيام المعتضد فجزع عليها شديدا و قال يرثيها :
( يا حبيبا لم يكن يعـ ... دله عندي حبيب )
( أنت عن عيني بعيد ... و من القلب قريب )
( ليس لي بعدك في شـ ... يء من اللهو نصيب )
( لك من قلبي على قلـ ... بي و إن بنت رقيب )
( و خيال منك مذ عبـ ... ت خيال لا يغيب )
( لو تراني كيف لي بعـ ... دك عول و نحيب ؟ )
( و فؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب )
( لتيقنت بأني ... فيك محزون كئيب )
( ما أرى نفسي و إن سلـ ... يتها عنك تطيب )
( لي دمع ليس يعصيـ ... ني و صبر ما يجيب )
و قال بعضهم يمدح المعتضد و هي على جزء جزء :
( طيف ألم ... بذي سلم )
( بين الخيم ... يطوي الأكم )
( جاد نعم ... يشفي السقم )
( ممن لئم ... و ملتزم )
( فيه هضم ... إذا يضم )
( داوى الألم ... ثم انصرم )
( فلم أنم ... شوقا و هم )
( اللوم ذم ... كم ثم كم )
( لوم الأصم ؟ ... أحمد لم )
( كل الثلم ... مما انهدم )
( هو العلم ... و المعتصم )
( خير النسم ... خالا و عم )
( حوى الهمم ... و ما احتلم )
( طود أشم ... شمح الشيم )
( جلا الظلم ... كالبدر تم )
( رعى الذمم ... حمى الحرم )
( فلم يؤم ... خص و عم )
( بما قسم ... له النعم )
( مع النقم ... و الخير جم )
( إذا ابتسم ... و الماء دم )
( إذا انتقم )
اعتل المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع و ثمانين علة صعبة و كان مزاجه تغير من كثرة إفراطه في الجماع ثم تماسك فقال ابن المعتز :
( طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعا من حادثات الخطوب )
( و حذارا أن يشاك بسوء ... أسد الملك و سيف الحروب )
ثم انتكس و مات يوم الاثنين لثمان بقين منه
و حكى المسعودي قال : شكوا في موت المعتضد فتقدم إليه الطبيب و جس نبضه ففتح عينيه و رفس الطبيب برجله فتدحاه أذرعا فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته و لما احتضر أنشد :
( تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... و خذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا )
( و لا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا و لم يرع لي حقا )
( قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا و لم أمهل على ظنة خلقا )
( و أخيلت دور الملك من كل بازل ... و شتتهم غربا و مزقتهم شرقا )
( فلما بلغت النجم عزا و رفعة ... و دانت رقاب الخلق أجمع لي رقا )
( رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى )
( فأفسدت دنياي و ديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى ؟ )
( فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة الله أم نارة ألقى ؟ )
و من شعر المعتضد :
( يا لا حظي بالفتور و الدعج ... و قاتلي بالدلال و الغنج )
( أشكو إليك الذي لقيت من ال ... وجد فهل لي إليك من فرج )
( حللت بالطرف و الجمال من الن ... اس محل العيون و المهج )
و له أنشده الصولي
( لم يلق من حر الفراق ... أحد كما أنا منه لاق )
( يا سائلي عن طعمه ... ألفيته مر المذاق )
( جسمي يذوب و مقلتي ... عبرى و قلبي ذو احتراق )
( ما لي أليف بعدكم ... إلا اكتئابي و اشتياقي )
( فالله يحفظكم جميعـ ... ا في مقام و انطلاق )
و لابن المعتز يرثيه :
( يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ... و أنت والد سوء تأكل الولدا )
( أستغفر الله بل ذا كله قدر ... رضيت بالله ربا واحدا صمدا )
( يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بالظاهرية مفصى الدار منفردا )
( أين الجيوش التي قد كنت تنجبها ؟ ... أين الكنوز التي أحصيتها عددا )
( أين السرير الذي قد كنت تملؤه ؟ ... مهابة من رأته عينه ارتعدا )
( أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم ؟ ... أين الليوث التي صيرتها بددا )
( أين الجياد التي حجلتها بدم ؟ ... و كن يحملن منك الضيغم الأسدا )
( أين الرماح التي غديتها مهجا ؟ ... مذ مت ما وردت قلبا و لا كبدا )
( أين الجنان التي تجري جداولها ؟ ... و تستجيب إليها الطائر الغردا )
( أين الوصائف كالغزلان راتعة ؟ ... يسحبن من حلل موشية جددا )
( أين الملاهي ؟ و أين الراح تحسبها ؟ ... يا قوتة كسيت من فضة زردا )
( أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ؟ ... صلاح ملك بني العباس إذ فسدا )
( ما زلت تقسر منهم كل قسورة ... و تحطم العالي الجبار معتمدا )
( ثم انقضيت فلا عين و لا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا )
مات في أيام المعتضد من الأعلام : ابن المواز المالكي و ابن أبي الدنيا و إسماعيل القاضي و الحارث بن أبي أسامة و أبو العيناء و المبرد و أبو سعيد الخراز شيخ الصوفية و البحتري الشاعر و خلائق آخرون
و خلف المعتضد من الأولاد أربعة ذكور و من الإناث إحدى عشرة
المكتفي بالله علي بن المعتضد 289 هـ ـ 295 ه
المكتفي بالله : أبو محمد علي بن المعتضد ولد في غرة ربيع الآخر سنة أربع و ستين و مائتين و أمه تركية اسمها جيجك و كان يضرب بحسنها المثل حتى قال بعضهم :
( قايست بين جمالها و فعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي )
( و الله لا كلمتها و لوانها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي )
و عهد إليه أبوه فبويع في مرضه يوم الجمعة بعد العصر لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع و ثمانين
قال الصولي : و ليس من الخلفاء من اسمه علي إلا هو و علي بن أبي طالب رضي الله عنه و لا من يكنى أبا محمد سوى الحسن بن علي و الهادي و المكتفي
و لما بويع له عند موت أبيه كان غائبا بالرقة فنهض بأعباء البيعة الوزير أبو الحسن القاسم بن عبيد الله و كتب له فوافى بغداد في سابع جمادى الأولى و مر بدجلة في سمارية و كان يوما عظيما و سقط أبو عمر القاضي من الزحمة في الجسر و أخرج سالما و نزل المكتفي بدار الخلافة و قالت الشعراء و خلع على قاسم الوزير سبع خلع و هدم المطامير التي اتخذها أبوه و صيرها مساجد و أمر برد البساتين و الحوانيت التي أخذها أبوه من الناس ليعملها قصرا إلى أهلها و سار سيرة جميلة فأحبه الناس و دعوا له
و في هذه السنة زلزلت بغداد زلزلة عظيمة دامت أياما و فيها هبت ريح عظيمة بالبصرة قلعة عامة نخلها و لم يسمع بمثل ذلك
و فيها خرج يحيى بن زكرويه القرمطي فاستمر القتال بينه و بين عسكر الخليفة إلى أن قتل في سنة تسعين فقام عوضه أخوه الحسين و أظهر شامة في وجهه زعم أنها آيته و جاءه ابن عمه عيسى بن مهرويه و زعم أن لقبه المدثر و أنه المعني في السورة و لقب غلاما له [ المطوق بالنور ] و ظهر على الشام وعاث و أفسد و تسمى بأمير المؤمنين المهدي و دعي له على المنابر ثم قتل الثلاثة في سنة إحدى و تسعين
و في هذه السنة فتحت أنطالية ـ باللام ـ من بلاد الروم عنوة و غنم منها ما لا يحصى من الأموال
و في سنة اثنتين زادت دجلة زيادة لم يرى مثلها حتى خربت بغداد و بلغت الزيادة أحدا و عشرين ذراعا
و من شعر الصولي يمدح المكتفي و يذكر القرمطي :
( قد كفى المكتفي االخلي ... فة ما كان قد حذر )
إلى أن قال :
( آل عباس انتم ... سادة الناس و الغرر )
( حكم الله أنكم ... حكماء على البشر )
( و أولو الأمر منكم ... صفوة الله و الخير )
( من رأى أن مؤمنا ... من عصكم فقد كفر )
( أنزل الله ذاكم ... قبل في محكم السور )
قال الصولي : سمعت المكتفي يقول في علته : و الله ما آسي إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين في أبنية ما احتجت إليها و كنت مستغنيا عنها أخاف أن أسأل عنها و إني أستغفر الله منها
مات المكتفي شابا في ليلة الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس و تسعين و خلف ثمانية أولاد ذكور و ثمان بنات
و ممن مات في أيامه من الأعلام : عبد الله بن أحمد بن حنبل و ثعلب إمام العربية و قنبل المقرئ و أبو عبد الله البوشنجي الفقيه و البزار صاحب المسند و أبو مسلم الكجي و القاضي أبو حازم و صالح جزرة و محمد بن نصر المروزي الإمام و أبو الحسين النوري شيخ الصوفية و أبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق
و رأيت في تاريخ نيسابور لعبد الغافر عن أبي الدنيا قال : لما أفضت الخلافة إلى المكتفي كتبت إليه بيتين :
( إن حق التأديب حق الأبوه ... عند أهل الحجى و أهل المروه )
( و أحق الرجال أن يحفظوا ذا ... ك و يرعوه أهل البيت النبوه )
قال : فحمل إلي عشرة آلاف درهم و هذا يدل على تأخر ابن أبي الدنيا إلى أيام المكتفي
المقتدر بالله جعفر بن المعتضد 295 هـ ـ 319 ه
المقتدر بالله : أبو الفضل جعفر بن المعتضد ولد في رمضان سنة اثنتين و ثمانين و مائتين و أمه رومية و قيل : تركية اسمها غريب و قيل : شغب
و لما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه فصح عنه أنه احتلم فعهد إليه و لم يل الخلافة قبله أصغر منه فإنه وليها و له ثلاثة عشر سنة فاستصباه الوزير العباس بن الحسن فعمل على خلعه و وافقه جماعة على أن يولوا عبد الله بن المعتز فأجاب ابن المعتز بشرط أن لا يكون فيها دم فبلغ المقتدر ذلك فأصلح حال العباس و دفع إليه أموالا أرضته فرجع عن ذلك و أما الباقون فإنهم ركبوا عليه في العشرين من ربيع الأول سنة ست و المقتدر يلعب الأكرة فهرب و دخل و أغلقت الأبواب و قتل الوزير و جماعة و أرسل إلى ابن المعتز فجاء و حضر القواد و القضاة و الأعيان و بايعوه بالخلافة و لقبوه [ الغالب بالله ] فاستوزر محمد بن داود بن الجراح و استقضى أبا المثنى أحمد بن يعقوب و نفذت الكتب بخلافة ابن المعتز
قال المعافى بن زكريا الجريري : لما خلع المقتدر و بويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري فقال : ما الخبر ؟ قيل : بويع ابن المعتز قال : فمن رشح للوزارة ؟ قيل : محمد بن داود قال : فمن ذكر للقضاة ؟ قيل : أبو المثنى فأطرق ثم قال : هذا الأمر لا يتم قيل له : و كيف ؟ قال : كل واحد ممن سميتم متقدم في معناه عالي الرتبة و الزمان مدبر و الدنيا مولية و ما أرى هذا إلا إلى اضمحلال و ما أرى لمدته طولا
و بعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل ابن المعتز إلى دار الخلافة فأجاب و لم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة فقالوا : يا قوم نسلم هذا الأمر و لا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا فلبسوا السلاح و قصدوا المخرم و به ابن المعتز فلما رآهم من حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا منهزمين بلا قتال و هرب ابن المعتز و وزيره و قاضيه و وقع النهب و القتل في بغداد و قبض المقتدر على الفقهاء و الأمراء الذين خلعوه و سلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة منهم القاضي أبو عمر سلموا من القتل و حبس ابن المعتز ثم أخرج فيما بعد ميتا و استقام الأمر للمقتدر فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فسار أحسن سير و كشف المظالم و حض المقتدر على العدل ففوض إليه الأمور لصغره و اشتغل باللعب و اللهو و أتلف الخزائن
و في هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستخدم اليهود و النصارى و أن يركبوا بالأكف
و فيها غلب أمر المهدي بالمغرب و سلم عليه بالإمامة و دعي له بالخلافة و بسط في الناس العدل و الإحسان فانحرفوا إليه و تمهدت له المغرب و عظم ملكه و بنى المهدية و هرب أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب إلى مصر ثم أتى العراق و خرجت المغرب عن أمر بني العباس من هذا التاريخ فكانت مدة ملكهم جميع الممالك الإسلامية مائة و بضعا و ستين سنة و من هنا دخل النقص عليهم
قال الذهبي : اختل النظام كثيرا في أيام المقتدر لصغره
و في سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض و خرج من تحته ماء كثير أغرق القرى
و فيها ولدت بغلة فلوا فسبحان القادر على ما يشاء !
و في سنة إحدى و ثلاثمائة ولي الوزارة علي بن عيسى فسار بعفة و عدل و تقوى و أبطل الخمور و أبطل من المكوس ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار
و فيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء و ركب المقتدر من داره إلى الشماسية و هي أول ركبة ركبها و ظهر فيها للعامة
و فيها أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل إلى بغداد فصلب حيا و نودي عليه : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع و أشيع عنه أنه ادعى الإلهية و أنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف و يكتب إلى أصحابه من النور الشعشعاني و نوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن و لا الحديث و لا الفقه
و فيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفا من البربر فحال النيل بينه و بينها فرجع إلى الإسكندرية و أفسد فيها و قتل ثم رجع فسار إلى جيش المقتدر إلى برقة و جرت لهم حروب ثم ملك الفاطمي الإسكندرية و الفيوم من هذا العام
و في سنة اثنتين ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار و ختن معهم طائفة من الأيتام و أحسن إليهم
و فيها صلي العيد في جامع مصر و لم يكن يصلي فيه العيد قبل ذلك فخطب بالناس علي بن أبي شيخة من الكتاب نظرا و كان من غلطه أن قال : اتقوا الله حق تقاته و لا تموين إلا و أنتم مشركون
و فيها أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش و كان مجوسيا
و في سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له الزيزب ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة و أنه يأكل الأطفال و يقطع ثدي المرأة فكانوا يتحارسون و يضربون بالطاسات ليهرب و اتخذ الناس لأطفالهم مكاب و دام عدة ليال
و في سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا و طلبت عقد هدنة فعمل المقتدر موكبا عظيما فأقام العسكر وصفهم بالسلاح ـ و هم مائة و ستون ألفا ـ من باب الشماسية إلى دار الخلافة و بعدهم الخدام و هم سبعة آلاف خادم و يليهم الحجاب و هم سبعمائة حاجب و كانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية و ثلاثين ستر من الديباج و البسط اثنين و عشرين ألفا و في الحضرة مائة سبع في السلاسل إلى غير ذلك
و في هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان و فيها طير أسود يتكلم بالفارسية و الهندية أفصح من الببغا
و في سنة ست فتح مارستان أم المقتدر و كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار
و فيها صار الأمر و النهي لحرم الخليفة و لنسائه لركاكته و آل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم و تنظر في رقاع الناس كل جمعة فكانت تجلس و تحضر القضاة و الأعيان و تبرز التواقيع و عليها خطها
و فيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد
و في سنة ثمان غلت الأسعار ببغداد و سغبت العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد و جدد المظالم و وقع النهب و ركب الجند فيها و شتتهم العامة و دام القتال أياما و أحرق العامة الحبس و فتحوا السجون و نهبوا الناس و رجموا الوزير و اختلفت أحوال الدولة العباسية جدا
و فيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط و اشتد قلق أهل مصر و تأهبوا للحروب و جرت أمور و حروب يطول شرحها
و في سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبي عمر و الفقهاء و العلماء أنه حلال الدم و له في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتنصيف
و في سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المورايث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي الأرحام
و في سنة ثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خراسان
و في سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف
و فيها جمدت دجلة بالموصل و عبرت عليها الدواب و هذا لم يعهد
و في سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط و أخذوا من فيها و ما فيها و ضربوا الناقوس في جامعها
و فيها ظهرت الديلم على الري و الجبال فقتل خلق و ذبحت الأطفال
و في سنة ست عشرة بني القرمطي دارا سماها [ دار الهجرة ] و كان في هذه السنين قد كثر فساده و أخذه البلاد و فتكه بالمسلمين و اشتد الخطب به و تمكنت هيبته في القلوب و كثر أتباعه و بث السريا و تزلزل له الخليفة و هزم جيش المقتدر غير مرة و انقطع الحج في هذه السنين خوفا من القرامطة و نزح أهل مكة عنها و قصدت الروم ناحية خلاط و أخرجوا المنبر من جامعها و جعلوا الصليب مكانه
و في سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر لكونه بلغه أنه يريد أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان مؤنس و ركب معه سائر الجيش و الأمراء و الجنود و جاؤوا إلى دار الخلافة فهربت خواص المقتدر و أخرج المقتدر بعد العشاء و ذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره و أمه و خالته و حرمه و نهب لأمه ستمائة ألف دينار و أشهد عليه بالخلع و أحضر محمد بن المعتضد و بايعه مؤنس و الأمراء و لقبوه [ القاهر بالله ] و فوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة و ذلك يوم السبت و جلس القاهر يوم الأحد و كتب الوزير عنه إلى البلاد و عمل الموكب يوم الاثنين فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة و رزق السنة و لم يكن مؤنس يطلبون المقتدر ليردوه إلى الخلافة فحملوه على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة و أخذ القاهر فجيء به و هو يبكي و يقول : الله الله في نفسي فاستدناه و قبله و قال له : يا أخي أنت و الله لا ذنب لك و الله لا جرى عليك مني سوء أبدا فطب نفسا و سكن الناس و عاد الوزير فكتب إلى الأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته و بذل المقتدر الأموال في الجند
و في هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلا ذريعا و طرح القتلى في بئر زمزم و ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه و أقام بها أحد عشر يوما ثم رحلوا و بقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة و دفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع
و قيل : إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملا من مكة إلى هجر فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن
قال محمد بن الربيع بن سليمان : كنت بمكة سنة القرامطة فصعد رجل لقلع الميزاب و أنا أراه فعيا صبري و قلت : يا رب ما أحلمك فسقط الرجل على دماغه فمات و صعد القرمطي على باب الكعبة و هو يقول :
( أنا بالله و بالله أنا ... يخلق الخلق و أفنيهم أنا )
و لم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها و تقطع جسده بالجدري
و في هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة : معناها يقعده الله على عرشه و قال غيرهم : بل هي الشفاعة و دام الخصام و اقتتلوا جماعة كثيرة
و في سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة و خاف أهل بغداد من دخوله إليها فاستغاثوا و رفعوا أصواتهم و المصاحف و سبوا المقتدر
و فيها دخلت الديلم الدينور فسبوا و قتلوا
و في سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر فكان معظم جند مؤنس البربر فلما التقى الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها إلى الأرض ثم ذبحه بالسيف و شيل رأسه على رمح و سلب ما عليه و بقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع و دفن و ذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال
و قيل : إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعا فقال له المقتدر : أي وقت هو قال : وقت الزوال فتطير و هم بالرجوع فأشرفت خيل مؤنس و نشبت الحرب و أما البربري الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل شوك فزحمه إلى دكان لحام فعلقه كلاب و خرج الفرس من مشواره من تحته فمات فحطه الناس و أحرقوه بالحمل الشوك
و كان المقتدر جيد العقل صحيح الرأي لكنه كان مؤثرا للشهوات و الشراب مبذرا و كان النساء غلبن عليه فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة و نفائسها و أعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة و وزنها ثلاثة مثاقيل و أعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها و أتلف أموالا كثيرة و كان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة و الروم و السود و خلف اثني عشر ولدا ذكر و ولي الخلافة من أولاده ثلاثة : الراضي و المتقي و المطيع و كذلك اتفق للمتوكل و الرشيد و أما عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة و لا نظير لذلك إلا في الملوك كذا قال الذهبي
قلت : في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة : المستعين العباس و المعتضد داود و المستكفي سليمان و القائم حمزة و المستنجد يوسف و لا نظير لذلك
و في لطائف المعارف للثعالبي ـ نادرة : لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل و المقتدر فقتلا جميعا : المتوكل ليلة الأربعاء و المقتدر يوم الأربعاء
و من محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن صاعد و بين أبي بكر بن أبي داود السجستاني فقال الوزير : يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه قال : لا أفعل فقال الوزير : أنت شيخ زيف فقال ابن أبي داود : الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من ؟ فقال : هذا ثم قام ابن أبي داود و قال : تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إلي على يدك و الله لا أخذت من يدك شيئا أبدا فبلغ المقتدر ذلك فصار يزن رزقه بيده و يبعث به في طبق على يد الخادم
مات في أيام المقتدر من الأعلام : محمد بن أبي داود الظاهري و يوسف بن يعقوب القاضي و ابن شريح شيخ الشافعية و الجنيد شيخ الصوفية و أبو عثمان الحيري الزاهد و أبو بكر البرديجي و جعفر الفريابي و ابن بسام الشاعر و النسائي صاحب السنن و الجبائي شيخ المعتزلة و ابن المواز النحوي و ابن الجلاء شيخ الصوفية و أبو يعلى الموصلي صاحب المسند و الأشناني المقرئ و أبن سيف من كبار قراء مصر و أبو بكر الروياني صاحب المسند و ابن المنذر الإمام و ابن جريري الطبري و الزجاج النحوي و ابن خزيمة و ابن زكريا الطبيب و الأخفش الصغير و بنان الجمال و أبو بكر بن أبي داود السجستاني و ابن السراج النحوي و أبو عوانة صاحب الصحيح و أبو القاسم البغوي المسند و أبو عبيد بن حربوية و الكعبي شيخ المعتزلة و أبو عمر القاضي و قدامة الكاتب و خلائق آخرون
القاهر بالله محمد بن المعتضد 319هـ ـ 322ه
القاهر بالله : أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل
أمه أم ولد اسمها فتنة لما قتل المقتدر أحضر هو و محمد بن المكتفي فسألوا ابن المكتفي أن يتولى فقال : لا حاجة لي في ذلك و عمي هذا أحق به فكلم القاهر فأجاب : فبويع و لقب [ القاهر بالله ] كما لقب به في سنة سبع عشرة فأول ما فعل أن صادر آل المقتدر و عذبهم و ضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب
و في سنة إحدى و عشرين شغب عليه الجند و اتفق مؤنس و ابن مقلة و آخرون على خلعه بابن المكتفي فتحيل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم و ذبحهم و طين على ابن المكتفي بين حيطتين
و أما ابن مقلة فاختفى فأحرقت داره و نهبت دور المخالفين ثم أطلق أرزاق الجند فسكنوا و استقام الأمر للقاهر و عظم في القلوب و زيد في ألقابه [ المنتقم من أعداء دين الله ] و نقش ذلك على السكة
و في هذه السنة أمر بتحريم القيان و الخمر و قبض على المغنين و نفى المخانبث و كسر آلات اللهو و أمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج و كان مع ذلك و لا يصحو من السكر و لا يفتر عن سماع الغناء
و في سنة اثنتين و عشرين ظهرت الديلم و ذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان و كان من قواده علي بن بوية فاقتطع مالا جليلا فانفرد عن مخدومه ثم التقى هو و محمد بن ياقوت نائب الخليفة فهزم محمد و استولى ابن بويه على فارس و كان بويه فقيرا صعلوكا يصيد السمك رأى كأنه بال فخرج من ذكره عمود نار ثم تشعب العمود حتى ملأ الدنيا فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا و يبلغ سلطانهم على قدر ما احتوت عليه النار فمضت السنون و آل الأمر على هذا إلى أن صار قائدا لمرداويج ابن زياد الديلمي فأرسله يستخرج له مالا من الكرخ فاستخرج خمسمائة ألف درهم و أتى همذان ليملكها فغلق أهلها في وجهه الأبواب فقاتلهم و فتحها عنوة و قيل صلحا ثم صار سيراز
ثم إنه قل ما عنده من المال فنام على ظهره فخرجت حية من سقف المجلس فأمر بنقضه فخرجت صناديق ملأى ذهبا فأنفقها في جنده
و طلب خياطا يخيط له شيئا ـ و كان أطروشا فظن أنه قد سعى به فقال : و الله ما عندي سوى اثني عشر صندوقا و لا أعلم ما فيها فأحضرت فوجد فيها مالا عظيما
و ركب يوما فساخت قوائم فرسه فحفروه فوجدوا فيه كنزا
و استولى على البلاد و خرجت خراسان و فارس عن حكم الخلافة
و في هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي قد أشار بخلافة القاهر ألقاه على رأسه في بئر و طمت و ذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية و اشتراها فحقد عليه
و فيها تحرك الجند عليه أن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه و يقول لهم : إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم و غير ذلك فأجمعوا على الفتك به فدخلوا عليه بالسيوف فهرب فأدركوه و قبضوا عليه في سادس جمادى الآخرة و بايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر و لقبوه [ الراضي بالله ] ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير و القضاة أبو الحسن ابن القاضي أبي عمر والحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب و أبا طالب بن البهلول فجاؤوه فقيل له : ما تقول ؟ قال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد لي في أعناقهم بيعة و في أعناق الناس و لست أبرئكم و لا أحللكم منها فقوموا فقاموا فقال الوزير : يخلع و لا يخلع و لا نفكر فيه أفعاله مشهورة و قال القاضي أبو الحسين : فدخلت على الراضي و أعدت عليه ما جرى و أعلمته أني أرى إمامته فرضا فقال : انصرف و دعني و إياه فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي بسمله فكحله بمسمار محمى
قال محمود الأصبهاني : كان سبب خلع القاهر سوء سيرته و سفكه الدماء فامتنع من الخلع فسلموا عينيه حتى سالتا على خديه
و قال الصولي : كان أهوج سفاكا للدماء قبيح السيرة كثير التلون و الاستحالة مدمن الخمر و لولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث و النسل
و كان قد صنع حربة يحميها فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانا
قال علي بن محمد الخراساني : أحضرني القاهر يوما و الحرية بين يديه فقال : أسألك عن خلفاء بني العباس عن أخلاقهم و شيمهم قلت : أما السفاح : فكان مسارعا إلى سفك الدماء و أتبعه عماله على مثل ذلك و كان مع ذلك سمحا وصولا بالمال قال : فالمنصور ؟ قلت : كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد أبي طالب و كانوا قبلها متفقين و هو أول خليفة قرب المنجمين و أول خليفة ترجمت له المتب السريانية و الأعجمية كـ [ كتاب كليلة و دمنة ] و [ كتاب إقليدس ] و كتب اليونان فنظر الناس فيها و تعلقوا بها فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي و السير و المنصور أول من استعمل مواليه و قدمهم على العرب قال : فالمهدي ؟ قلت : كان جوادا عادلا منصفا رد ما أخذ أبوه من الناس غصبا و بالغ في إتلاف الزنادقة و بنى المسجد الحرام و مسجد المدينة و المسجد الأقصى قال : فالهادي ؟ قلت : كان جبارا متكبرا فسلك عماله طريقه على قصر أيامه قال : فالرشيد ؟ قلت : كان مواظبا على الغزو و الحج و عمر القصور و البرك بطريق مكة و بنى الثغور كأذنه و طرطوس و المصيعته و مرعش و عم الناس إحسانه و كان في أيامه البرامكة و ما اشتهر من كرمهم و هو أول خليفة لعب بالصوالجة و رمي النشاب في البرجاس و لعب الشطرنج من بني العباس قال : فالأمين ؟ قلت : كان جوادا إلا أنه أنهمك في لذاته ففسدت الأمور قال : المأمون ؟ قلت : غلب عليه النجوم و الفلسفة و كان حليما جوادا قال : فالمعتصم ؟ قلت : سلك طريقه و غلب عليه حب الفروسية و التشبه بملوك الأعاجم و اشتغل بالغزو و الفتوح قال : فالواثق ؟ قلت : سلك طريقة أبيه قال : فالمتوكل ؟ قلت : خالف ما كان عليه المأمون و الواثق من الاعتقادات و نهى عن الجدال و المناظرات و الأهواء و عاقب عليها و أمر بقراءة الحديث و سماعه و نهى عن القول بخلق القرآن فأحبه الناس ثم سأل عن باقي الخلفاء ؟ و أنا أجيبه بما فيهم فقال لي : سمعت كلامك و كأني أشاهد القوم ثم قام
و قال المسعودي : أخذ القاهر من مؤنس و أصحابه مالا عظيما فلما خلع و سمل طولب بها فأنكر فعذب بأنواع العذاب فلم يقر بشيء فأخذه الراضي بالله فقربه و أدناه و قال له : قد ترى مطالبة الجند بالمال و ليس عندي شيء و الذي عندك فليس بنافع لك فاعترف به فقال : أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان و كان قد أنشأ بستانا فيه أصناف الشجر حملت إليه من البلاد و زخرفه و عمل فيه قصرا و كان الراضي مغرما بالبستان و القصر فقال : و في أي مكان المال منه ؟ فقال : أنا مكفوف لا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان تجده ؟ فحفر الراضي البستان و أساسات القصر و قلع الشجر فلم يجد شيئا فقال له : و أين المال ؟ فقال : و هل عندي مال ؟ و إنما كان حسرتي في جلوسك في البستان و تنعمك فأردت أن أفجعك فيه فندم الراضي و حبسه فأقام إلى سنة ثلاث و ثلاثين ثم أطلقوه و أهملوه فوقف يوما بجامع المنصور بين الصفوف و عليه مبطنه بيضاء و قال : تصدقوا علي فأنا من عرفتم و ذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه فمنع من الخروج إلى أن مات سنة تسع و ثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث و خمسين سنة
و كان له من الولد : عبد الصمد أبو القاسم و أبو الفضل و عبد العزيز
و مات في أيامه من الأعلام : الطحاوي شيخ الحنفية و ابن دريد و أبو هاشم الجبائي و آخرون
الراضي بالله محمد بن المقتدر بن المعتضد 322هـ ـ 329 ه
الراضي بالله : أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل
ولد سنة سبع و تسعين و مائتين و أمه أم ولد رومية اسمها ظلوم بويع له يوم خلع القاهر فأمر ابن مقلة أن يكتب كتابا في مثالب القاهر و يقرأ على الناس
و في هذا العام ـ أي عام اثنتين و عشرين و ثلاثمائة ـ من خلافته مات مرداويج مقدم الديلم بأصبهان و كان قد عظم أمره و تحدثوا أنه يريد قصد بغداد و أنه مسالم لصاحب المجوس و كان يقول : أنا أرد دولة العجم و أمحق دولة العرب
و فيها بعث علي بن بويه إلى الراضي يقاطعه على البلاد التي استولى عليها بثمان مائة ألف ألف درهم كل سنة فبعثه له لواء و خلعا ثم أخذ ابن بويه يماطل بحمل المال
و فيها مات المهدي صاحب المغرب و كانت أيامه خمسا و عشرين سنة و هو جد خلفاء المصريين الذين يسمونهم الجهلة الفاطميين فإن المهدي هذا ادعى أنه علوي و إنما جده مجوسي قال القاضي أبو بكر الباقلاني : جد عبيد الله الملقب بالمهدي مجوسي دخل عبيد الله المغرب و ادعى أنه علوي و لم يعرفه أحد من علماء النسب و كان باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام أعدم العلماء و الفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق و جاء أولاده على أسلوبه : أباحوا الخمور و الفروج و أشاعوا الرفض و قام بالأمر بعد موت هذا ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد
و في هذه السنة ظهر محمد بن علي الشمغاني المعروف بابن أبي القراقر و قد شاع عنه يدعي الإلهية ؟ و أنه يحيى الموتى فقتل وصلت و قتل معه جماعة من أصحابه
و فيها توفى أبو بكر جعفر السجزي أحد الحجاب قيل : بلغ من العمر مائة و أربعين سنة و حواسه جيدة
و فيها انقطع الحج من بغداد إلى سنة سبع و عشرين
و في سنة ثلاث و عشرين تمكن الراضي بالله و قلد ابنيه أبا الفضل و أنا جعفر المشرق و المغرب
و فيها كانت واقعة ابن شنبوذ المشهورة و استتابته عن القراءة بالشاذ و المحضر الذي كتب عليه و ذلك بحضرة الوزير أبي علي بن مقلة و فيها في جمادى الأولى ريح عظيمة ببغداد و اسودت الدنيا و أظلمت من العصر إلى المغرب
و فيها في ذي القعدة انقضت النجوم سائر الليل انقضاضا عظيما ما رثي مثله
و في سنة أربع و عشرين تغلب محمد بن رائق أمير واسط و نواحيها و حكم على البلاد و بطل أمر الوازرة و الدواوين و تولى هو الجميع و كتابه و صارت الأموال تحمل إليه و بطلت بيوت المال و بقي الراضي معه صورة و ليس من الخلافة إلا الاسم
و في سنة خمس و عشرين اختل الأمر جدا و صارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها أو عامل لا يحمل مالا و صاروا مثل ملوك الطوائف و لم يبق بيد الراضي غير بغداد و السواد مع كون يد ابن رائق عليه و لما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان و وهت أركان الدولة العباسية و تغلبت القراطمة و المبتدعة على الأقاليم قويت همة صاحب الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني و قال : أنا أولى الناس بالخلافة و تسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين اله و استولى على أكثر الأندلس و كانت له الهيبة الزائدة و الجهاد و الغزو و السيرة المحمودة استأصل المتغلبين و فتح سبعين حصنا فصار المسمون بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة : العباسي ببغداد و هذا بالأندلس و المهدي بالقيروان
و في سنة ست و عشرين خرج بحكم على ابن رائق فظهر عليه و اختفى ابن رائق فدخل بحكم بغداد فأكرمه الراضي و رفع منزلته و لقبه أمير الأمراء و قلده إمارة بغداد و خراسان
و في سنة سبع و عشرين كتب أبو علي عمر بن يحيى العلوي إلى القرمطي و كان يحبه أن يطلق طريق الحاج و يعطيه عن كل جمل خمسة دنانير فأذن و حج الناس و هي أول سنة أخذ فيها المكس من الحجاج
و في سنة ثمان و عشرين بغداد غرقا عظيما حتى بلغت زيادة الماء تسعة عشر ذراعا و غرق الناس و البهائم و انهدمت الدور
و في سنة تسع اعتل الراضي و مات في شهر ربيع الآخر و له إحدى و ثلاثون سنة و نصف و كان سمحا كريما أديبا شاعرا فصيحا محبا للعلماء و له شعر مدون و سمع الحديث من البغوي و غيره
قال الخطيب : للراضي فضائل : منها آخر خليفة له شعر مدون و آخر خليفة خطب يوم الجمعة و آخر خليفة جالس الندماء و كانت جوائزه و أموره على ترتيب المتقدمين و آخر خليفة سافر بزي القدماء و من شعره :
( كل صفو إلى كدر ... كل أمر إلى حذر )
( و مصير الشباب للـ ... موت فيه أو الكدر )
( در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر )
( أيها الآمل الذي ... تاه في لجه الغرر )
( أين من كان قبلنا ؟ ... ذهب الشخص و الأثر )
( رب فاغفر خطيئتي ... أنت يا خير من غفر )
ذكر أبو الحسن بن زرقويه عن إسماعيل الخطبي قال : وجه إلي الراضي ليلة الفطر فجئت إليه فقال : يا إسماعيل قد عزمت في غد على الصلاة بالناس فما الذي أقول إذا انتهيت إلى لنفسي ؟ فأطرقت ساعة ثم قلت : قل يا أمير المؤمنين { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } الآية فقال لي : حسبك ثم تبعني خادم فأعطاني أربعمائة دينار
مات في أيامه من الأعلام : نفطويه و ابن مجاهد المقرئ و ابن كاس الحنفي و ابن أبي حاتم و مبرمان و ابن عبد ربه صاحب العقد و الإصطخري شيخ الشافعية و ابن شنبوذ و أبو بكر الأنباري
المتقي بالله إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد 329 هـ ـ 333 ه
المتقي لله : أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل
بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي و هو ابن أربع و ثلاثين سنة و أمه أمة اسمها خلوب و قيل : زهرة و لم يغير شيئا قط و لا تسرى على جاريته التي كانت له و كان كثير الصوم و التعبد و لم يشرب نبيذا قط و كان يقول : لا أريد نديما غير المصحف و لم يكن سوى له الاسم و التدبير لأبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي كاتب بجكم
و في هذه السنة من ولايته سقطت القبة الخضراء بمدينة المنصورة و كانت تاج بغداد و مأثرة بني العباس و هي من بناء المنصور ارتفاعها ثمانون ذراعا و تحتها إيوان طوله عشرون ذراعا في عشرين ذراعا و عليها تمثال فارس بيده رمح فإذا استقبل بوجهه جهة علم أن خارجيا يظهر من تلك الجهة فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر و رعد
و في هذه السنة قتل بحكم التركي فولي إمرة الأمراء مكانه كورتكين الديلمي و أخذ المتقي حواصل بحكم التي كانت ببغداد و هي زيادة على ألف ألف دينار
ثم في هذا العام ظهر ابن رائق فقاتل كورتكين ببغداد فهزم كورتكين و اختفى و ولي ابن رائق إمرة الأمراء مكانه
و في سنة كان الغلاء ببغداد فبلغ كر الحنطة ثلاثمائة و ست عشر دينارا و اشتد القحط و أكلوا الميتات و كان قحطا لم ير ببغداد مثله أبدا
و فيها خرج أبو الحسن علي بن محمد اليزيدي فخرج لقتاله الخليفة و ابن رائق فهزما و هربا إلى الموصل و نهبت بغداد و دار الخلافة فلما وصل الخليفة إلى تكريت وجد هناك سيف الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان أخاه الحسن و قتل ابن رائق غلية فولى الخليفة مكانه الحسن بن حمدان و لقبه [ ناصر الدولة ] و خلع على أخيه و لقبه [ سيف الدولة ] و عاد إلى بغداد و هما معه فهرب اليزيدي إلى واسط ثم ورد الخبر في ذي القعدة أن اليزيدي يريد بغداد فاضطرب الناس و هرب وجوه أهل بغداد و خرج الخليفة ليكون مع ناصر الدولة و سار سيف الدولة لقتال اليزيدي فكانت بينهما وقعة هائلة بقرب المدائن و هزم اليزيدي فعاد بالويل إلى واسط فساق سيف الدولة إلى واسط فانهزم اليزيدي إلى البصرة
و في سنة إحدى و ثلاثين وصلت الروم إلى أرزن و ميافارقين و نصيبين فقتلوا و سبوا ثم طلبوا منديلا في كنيسة الرها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورته فيه على أنهم يطلقون جميع من سبوا فأرسل إليهم و أطلقوا الأسرى
و فيها هاج الأمراء بواسط على سيف الدولة فهرب في البريد يريد بغداد ثم سار إلى الموصل أخوه ناصر الدولة خائفا لهرب أخيه و سار من واسط تورون فقصد بغداد و قد هرب منه سيف الدولة إلى الموصل فدخل تورون بغداد في رمضان فخاع عليه المتقي و ولاه أمير الأمراء ثم وقعت الوحشة بين المتقي و تورون أبا جعفر بن شيرزاد من واسط إلى بغداد فحكم عليها و أمر و نهي فكاتب المتقي ابن حمدان بالقدوم عليه فقدم في جيش عظيم و استتر ابن شيرزاد في سار المتقي بأهله إلى تكريت و خرج ناصر الدولة بجيش كثير من الأعراب و الأكراد إلى قتال تورون فالتقيا بعكبرا فانهزم ابن حمدان و الخليفة إلى نصيبين فكتب الخليفة إلى الأخشد صاحب مصر أن يحضر إليه ثم بان له من بني حمدان الملل و الضجر فراسل الخليفة تورون في الصلح فأجاب و بالغ في الأيمان ثم حضر الأخشيد إلى المتقي و هو بالرقة و قد بلغه مصالحه تورون فقال : يا أمير المؤمنين أنا عبدك و ابن عبدك و قد عرفت الأتراك و فجورهم و غدرهم فالله في نفسك سر معي إلى مصر فهي لك و تأمن على نفسك فلم يقبل فرجع الأخشيد إلى بلاده و خرج المتقي من الرقة إلى بغداد في رابع المحرم سنة ثلاث و ثلاثين و خرج للقائه تورون فالتقيا بين الأنبار و هيت فترجل تورون و قبل الأرض فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل و مشى بين يديه إلى المخيم الذي ضربه له فلما نزل قبض عليه و على ابن مقلة و من معه ثم كحل الخليفة و أدخل بغداد مسمول العينين و قد أخذ منه الخاتم و البردة و القضيب و أحضر تورون عبد الله بن المكتفي و بايعه بالخلافة و لقب المستكفي بالله ثم بايعه المتقي المسمول و أشهد على نفسه بالخلع مع ذلك لعشر بقين من الحرم ـ و قيل : من صفر ـ و لما كحل قال القاهر :
( صرت و إبراهيم شيخي عمى ... لا بد للشيخين من مصدر )
( ما دام تورون له إمرة ... مطاعة فالميل في المجمر )
و لم يحل الحول على تورون حتى مات و أما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية فسجن بها فأقام بالسجن خمسا و عشرين سنة إلى أن مات في شعبان سنة سبع و خمسين
و في أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرزاد لما تغلب على بغداد اللصوصية بها بخمسة و عشرين ألف دينار في الشهر فكان يكبس بيوت الناس بالمشعل و الشمع و يأخذ الأموال و كان اسكورج الديلمي قد ولي شرطة بغداد فأخذ و وسطه و ذلك سنة ثنتين و ثلاثين
مات في أيام المتقي من الأعلام : أبو يعقوب النهرجوري أحد أصحاب الجنيد و القاضي أبو عبد الله المحاملي و أبو بكر الفرغاني الصوفي و الحافظ أبو العباس بن عقدة و ابن ولاد النحوي و آخرون
و لما بلغ القاهر أنه سمل قال : صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث فكان كذلك شمل المستكفي
المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بن المعتضد 333 هـ ـ 334 ه
المستكفي بالله : أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد أمه أم ولد اسمها أملح الناس بويع له بالخلافة عند خلع المتقي في صفر سنة ثلاث و ثلاثين و عمره إحدى و أربعون سنة و مات تورون في أيامه و معه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد فطمع في المملكة و حلف العساكر لنفسه فخلع عليه الخليفة ثم دخل أحمد بن بويه بغداد فاختفى ابن شيرزاد و دخل ابن بويه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة فخلع عليه و لقبه [ معز الدولة ] و لقب أخاه عليا [ عماد الدولة ] و أخاهما الحسن [ ركن الدولة ] و ضرب ألقابها على السكة و لقب المستكفي نفسه [ إمام الحق ] و ضرب ذلك على السكة ثم إن معز الدولة قوي أمره و حجر على الخليفة و قدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط و هو أول من ملك العراق من الديلم و أول من أظهر السعاة ببغداد و أغرى المصارعين و السباحين فانهمك شباب بغداد في تعلم المصارعة و السباحة حتى صار السباح يسبح و على يده كانون و فوقه قدرة فيسبح حتى ينضج اللحم
ثم أن معز الدولة تخيل من المستكفي فدخل عليه في جمادى الآخرة سنة أربع و ثلاثين فوقف ـ و الناس و وقوف على مراتبهم ـ فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يديه إليها ظنا أنهما يريدان تقبيلهما فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض و جراه بعمامته و هاجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم و نهبوها فلم يبق فيها شيء و مضى معز الدولة إلى منزله و ساقوا المستكفي ماشيا إليه و خلع و سملت عيناه يومئذ و كانت خلافته سنة و أربعة أشهر و أحضروا الفضل بن المقتدر و بايعوه ثم قدموا ابن عمه المستكفي فسلم عليه بالخلافة و أشهد على نفسه بالخلع ثم سجن إلى أن مات سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة و له ست و أربعون سنة و شهران و كان يتظاهر بالتشيع
المطيع لله الفضل بن المقتدر بن المعتضد 334 هـ ـ 363 ه
المطيع لله : أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن المعتضد أمه أم ولد اسمها شغلة ولد سنة إحدى و ثلاثمائة و بويع له بالخلافة عند خلع المستكفي في جمادى الآخرة سنة أربع و ثلاثين و ثلاثمائة و قرر له معز الدولة كل يوم نفقة مائة دينار فقط
و في هذه السنة من خلافته اشتد الغلاء ببغداد حتى أكلوا الجيف و الروث و ماتوا على الطرق و أكلت الكلاب لحومهم و بيع العقار بالرغفان و وجدت الصغار مشوية مع المساكين و اشترى لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم و الكر سبعة عشر قنطارا بالدمشقي
و فيها وقع بين معز الدولة و بين ناصر الدولة بن حمدان فخرج لقتاله و معه المطيع ثم رجع و المطيع معه كالأسير
و فيها مات الأخشيد صاحب مصر و هو محمد بن طغج الفرغاني و الأخشيد ملك الملوك و هو لقب لكل من ملك فرغانة كما أن الأصبهذ لقب ملك طبرستان وصول ملك جرجان و خاقان ملك الترك و الأفشين ملك أشروسنة و سليمان ملك سمرقند و كان الأخشيد شجاعا مهيبا ولي مصر من قبل القاهر و كان له ثمانية آلاف مملوك و هو أستاذ كافور
و فيها مات القائم العبيدي صاحب المغرب و قام بعده ولي عهد ابنه المنصور إسماعيل و كان القائم شرا من أبيه زنديقا ملعونا أظهر سب الأنباء و كان مناديه ينادي : العنوا الغار و ما حوى قتل خلقا من العلماء
و في سنة خمس و ثلاثين جدد معز الدولة الأيمان بينه و بين المطيع و أزال عنه التوكيل و أعاده إلى دار الخلافة
و في سنة ثمان و ثلاثين سأل معز الدولة أن يشرك معه في الأمر أخاه علي بن بويه عماد الدولة و يكون من بعده فأجابه المطيع ثم لم ينشب أن مات عماد الدولة من عامه فأقام المطيع أخاه ركن الدولة والد عضد الدولة
و في سنة تسع ثلاثين أعيد الحجر الأسود إلى موضعه و جعل له طوق فضة يشد به وزنه ثلاثة آلاف و سبعمائة و سبعة و ستون درهما و نصف
و قال محمد بن نافع الخزاعي : تأملت الحجر الأسود ـ و هو مقلوع ـ فإذا السواد في رأسه فقط و سائره أبيض و طوله قدر عظم الذراع
و في سنة سنة إحدى و أربعين ظهر قوم من التناسخية فيهم شاب يزعم أن روح علي انتقلت إليه و امرأته تزعم أن روح فاطمة انتقلت إليها و آخر يدعي أنه جبريل فضربوا فتعززوا يالانتماء إلى أهل البيت فأمر معز الدولة بإطلاقهم لميله إلى أهل البيت فكان هذا من أفعاله الملعونة
و فيها مات المنصور العبيدي صاحب المغرب بالمنصورية التي مصرها و قام بالأمر ولي عهد ابنه معد و لقب بالمعز لدين الله ـ و هو الذي بنى القاهرة ـ و كان المنصور حسن السيرة بعد أبيه و أبطل المظالم فأحبه الناس و أحسن أيضا ابنه السيرة وصفت له المغرب
و في سنة ثلاث و أربعين خطب صاحب خراسان للمطيع و لم يكن خطب له قبل ذلك فبعث إليه المطيع اللواء و الخلع
و في سنة أربع و أربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت و دامت ثلاث ساعات و فزع الناس إلى الله بالدعاء
و في سنة ست و أربعين نقص البحر ثمانين ذراعا و ظهر فيه جبال و جزائر و أشياء لم تعهد و كان بالري و نواحيها زلازل عظيمة و خسف ببلد الطالقان و لم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين رجلا و خسف بمائة و خمسين قرية من قرى الري و اتصل الأمر إلى حلوان فخسف بأكثرها و قذفت الأرض عظام الموتى و تفجرت منها المياه و تقطع بالري جبل و علقت قرية بين السماء و الأرض بمن فيها نصف النهار ثم خسف بها و انخرقت الأرض خروقا عظيمة و خرج منها مياه منتنة و دخان عظيم هكذا نقل ابن الجوزي
و في سنة سبع و أربعين عادت الزلازل بقم و حلوان و الجبال فأتلف خلقا عظيما و جاء جراد طبق الدنيا فأتى على جميع الغلات و الاشجار
و في سنة خمسين بنى معز الدولة ببغداد دارا هائلة عظيمة أساسها في الأرض ستة و ثلاثون ذراعا
و فيها قلد القضاء أبا العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب و ركب بالخلع من دار المعز الدولة و بين يديه الدبادب و البوقات و في خدمته الجيش و شرط على نفسه أن يحمل في كل سنة إلى خزانة معز الدولة مائتي ألف درهم و كطتب عليه بذلك سجلا و امتنع المطيع من تقلده و من دخوله عليه و أمر أن لا يمكن من الدخول إليه أبدا
و فيها وضمن معز الدولة الحسبة ببغداد و الشرطة و كل ذلك عقب ضعفه ضعفها و عوفي منها فلا كان الله عافاه
و فيها أخذت الروم جزيرة أقريطش من المسلمين و كانت فتحت في حدود الثلاثين و المائتين
و فيها توفى صاحب الأندلس الناصر لدين الله و قام بعده ابنه الحاكم
و في سنة إحدى و خمسين كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنه معاوية و لعنه من غضب فاطمة حقها من فدك و من منع الحسن أن يدفن مع جده و لعنة من نفى أبا ذر ثم إن ذلك محي في الليل فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه المهلبي أن يكتب مكان ما محي [ لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و صرحوا بلعنه معاوية فقط
و في سنة اثنتين و خمسين يوم عاشوراء ألزم معز الدولة الناس بغلق الأسواق و منع الطباخين من الطبيخ و نصبوا القباب في الأسواق و علقوا عليها المسوح و أخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع يقمن المأتم على الحسين و هذا أول يوم نيح عليه في بغداد و استمرت هذه البدعة سنين
و في ثاني عشر ذي الحجة منها عمل عيد غدير خم و ضربت الدبادب
و في هذه السنة بعث بعض بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين ملتصقين عمرها خمس و عشرون سنة و الالتصاق في الجنب و لهما بطنان و سرتان و معدتان و يختلف أوقات جوعها و عطشها و بولهما و لكل واحد كفان و ذراعان و يدان و فخذان و ساقان و إحليلان و كان أحدهما يميل إلى النساء و الآخر يميل إلى المرد و مات أحدهما و بقي أياما و أخوه حي فأتين و جمع ناصر الدولة الأطباء على أن يقدروا على فضل الميت من الحي قلم يقدروا ثم مرض الحي من رائحة الميت و مات
و في سنة ثلاث و خمسين عمل لسيف الدولة خيمة عظيمة ارتفاع عمودها خمسون ذراعا
و في سنة أربع و خمسين ماتت أخت معز الدولة فنزل المطيع في طيارة إلى دار معز الدولة يعزيه فخرج إليه معز الدولة و لم يكلفه الصعود من الطيارة و قبل الأرض مرات و رجع الخليفة إلى داره
و فيها بنى يعقوب ملك الروم قيسارته قريبا من بلاد المسلمين و سكنها ليغير كل وقت
و في سنة ست و خمسين مات معز الدولة فأقيم ابنه بختيار مكانه في السلطنة و لقبه المطيع [ عز الدولة ]
و في سنة سبع ملك القرامطة دمشق و لم يحج فيها لا من الشام و لا من مصر و عزموا على قصد مصر ليملكوها فجاء العبيديون فأخذوها و قامت دولة الرفض في الأقاليم : المغرب و مصر و العراق و ذلك أن كافورا الأخشيدي صاحب مصر لما مات اختل النظام و قلت الأموال على الجند فكتب جماعة إلى المعز يطلبون منه عسكرا ليسلموا إليه مصر فأرسل مولاه جوهرا القائد في مائة ألف فارس فملكها و نزل موضع القاهرة اليوم و اختلطها و بنى دار الإمارة للمعز و هي المعروفة الآن بالقصرين و قطع خطبة بني العباس و لبس السواد و ألبس الخطباء البياض فأمر أن يقال في الخطبة : اللهم صلي على محمد المصطفى و على علي المرتضى و على فاطمة البتول و على الحسن و الحسين سبطي الرسول و صل على الأئمة آباء أمير المؤمنين المعز بالله و ذلك كله في شهر شعبان سنة ثمان و خمسين
ثم في ربيع الآخر سنة تسع و خمسين أذنوا في مصر بحي على خير العمل و شرعوا في بناء الجامع الأزهر ففرغ في رمضان سنة إحدى و ستين
و في سنة تسع و خمسين انقض بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس و سمع بعد انقضائه كالرعد الشديد
و في سنة ستين أعلن المؤذن بدمشق في الآذن بحي على خير العمل و بأمر جعفر ابن فلاح نائب دمشق للمعز بالله و لم يجسر أحد على مخالفته
و في سنة اثنتين و ستين صادر السلطان بختيار المطيع فقال المطيع : أنا ليس لي غير الخطبة فإن أحببتم اعتزلت فشدد علبيه حتى باع قماشه و حمل أربعمائة ألف درهم و شاع في الألسنة أن الخليفة صودر
و فيها قتل رجل من اعوان الموالي ببغداد فبعث الوزير أبو الفضل الشيرازي من طرح النار من النحاسين إلى السماكين فاحترق حريم عظيم لم ير مثله و احترقت أموال و أناس كثيرون في الدور و الحمامات و هلك الوزير من عامه و لا رحمة لله
و في رمضان من هذه السنة دخل المعز إلى مصر و معه توابيت آبائه
و في سنة ثلاث و ستين قلد المطيع القضاء أبا الحسن محمد بن أم شيبان الهاشمي بعد تمنع و شرط لنفسه شروطا ومنها : أن لا يرتزق على القضاء و لا يخلع عليه و لا يشفع إليه فيما يخالف الشرع و قرر لكاتبه في كل شهر ثلاثمائة درهم و لحاجبه مائة و خمسين و للفارض على بابه مائة وللخازن ديوان الحكم و الأعوان ستمائة و كتب له عهد صورته :
هذا ما عهد به عبد الله الفضل المطيع لله أمير المؤمنين إلى محمد صالح الهاشمي حين دعاه إلى ما يتولاه من القضاء بين أهل مدينة السلام مدينة المنصور و المدينة الشرقية من الجانب الشرقي و الجانب الغربي و الكوفة و سقي الفرات و واسط و كرخي و طريق الفرات و دجلة و طريق خراسان و حلوان و قرميسين و ديار مضر و ديار ربيعة و ديار بكر و الموصل و الحرمين و اليمن و دمشق و حمص و جند قنسرين و العواصم و مصر و الإسكندرية و جند فلسطين و الأردن و أعمال ذلك كلها و من يجري من ذلك من الأشراف على من يختاره من العباسيين بالكوفة و سقي الفرات و أعمال ذلك و ما قلده إياه من قضاء القضاة و تصضفح أحوال الحكام و الاستشراف على ما يجري عليه أمر الأحكام من سائر الناحي و الأمصار التي تشمل عليه المملكة و تنتهي إليها الدعوة و إقرار من يحمد هديه و طريقه و الاستبدال بمن شيمته و سجيته احتياطا للخاصة و العامة و جنوا على الملة و الذمة و عن علم بأنه المقدم في بيته و شرفه المبرز في عفافته الزكي في دينه و أمانته الموصوف في ورعه و نزاعته المشار إليه بالعلم و الحجى المجمع عليه في الحلم و النهى البعيد من الأنادس اللابس من التقى أجمل اللباس النقي الجيب المحبو بصفاء الغيب العالم بمصالح الدنيا العارف بما يفسد سلامة العقبى أمره بتقوى الله فإنها الجنة الواقية و ليجعل كتاب الله في كل ما يعمل في رويته و يرتب عليه حكمه و قضيته إمامه الذي يفزع إليه و أن يتخذ سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم منارا يقصده و مثالا يتبعه و أن يراعي الإجماع و أن يقتدي بالأئمة الراشدين و أن يعمل اجتهاده فيما لا يوجد في كتاب و لا سنة و لا إجماع و إن يحضر مجلسه من يستظهر بعلمه و رأيه و أن يسوي بين الخصمين إذا تقدما إليه في لحظه و لفظه و يوفي كلا منها من إنصافه و عدله حتى يأمن الضعيف حيفه و ييأس القوي من ميله و أمره أن يشرف على أعةانه و أصحابه من يعتمد عليه من أمنائه و أسبابه إشرافا يمنع من التخطي إلى السيرة المحظورة و يدفع عن الإسفاف إلى المكاسب المحجورة
و ذكر هذا الجنس كلاما طويلا
قلت كان الخلفاء يولون القاضي المقيم ييلدهم القضاء بجميع الأقاليم و البلاد التي تحت ملكهم ثم يستنيب القاضي من تحت أمره من يشاء في كل إقليم و في كل بلد و لهذا كان يلقب قاضي القضاة و لا يلقب به إلا من هو بهذه الصفة و من عداه بالقاضي فقط أو قاضي بلد كذا و أما الآن فصار في البلد الواحد أربعة مشتركون كل منهم بلقب قاضي القضاة و لعل آحاد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد من قضاة القضاة الآن و لقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حكما من سلاطين هذا الزمان
و في هذه السنة ـ أعني سنة ثلاث و ستين ـ حصل للمطيع فالج و ثقل لسانه فدعاه حاجب عز الدولة الحاجب سبكتكين إلى خلع نفسه و تسليم الأمر إلى ولده الطائع لله ففعل و عقد له الأمر في يوم الأربعاء ثالث عشري ذي القعدة فكانت مدة خلافه المطيع تسعا و عشرين سنة و أشهرا و أثبت خلعه على القاضي ابن أم شيان و صار بعد خلعه يسمي الشيخ الفاضل
قال الذهبي : و كان المطيع و ابنه مستضعفين مع بني بويه و لم يزل أمر الخلفاء في ضعف إلى أن استخلف المقتفي لله فانصلح أمر الخلافة قليلا و كان دست الخلافة لبني عبيد الرافضة بمصر أميز و كلمتهم أنفذ و مملكتهم تناطح مملكة العباسيين في وقتهم و خرج المطيع إلى واسط مع ولده فمات في المحرم سنة أربع و ستين
قال ابن شاهين : خلع نفسه غير مكره فيما صح عندي
قال الخطيب : حدثني محمد بن يوسف القطان سمعت أبا الفضل التميمي سمعت المطيع لله سمعت شيخي ابن منيع سمعت أحمد ين حنبل يقول إذا مات أصدقاء رجل ذل
و ممن مات في أيام المطيع من الأعلام : الخرقي شيخ الحنابلة و أبو بكر الشبلي الصوفي و ابن القاص إمام الشافعية و أبو رجاء الأسواني و أبو بكر الصولي و الهيثم بن كليب الشاشي و أبو الطيب الصعلوكي و أبو جعفر النحاس النحوي و أبو نصر الفارابي و أبو إسحاق المروزي إمام الشافعية و أبو القاسم الزجاجي النحوي و الكرخي شيخ الحنفية و الدينوري صاحب المجالسة و أبو بكر الضبعي و القاضي أبو القاسم التنوخي و ابن الحداد صاحب [ الفروع ] و أبو علي بن أبي هريرة من كبار الشافعية و أبو عمر الزاهد و المسعودي صاحب [ مروج الذهب ] و ابن درستويه و أبو علي الطبري أول من جرد الخلاف و الفاكهي صاحب [ تاريخ مكة ] و المتنبي الشاعر و ابن حبان صاحب [ الصحيح ] و ابن شعبان من أئمة المالكية و أبو علي القالي و أبو الفرج صاحب [ الأغاني ]
الطائع بالله عبد الكريم بن المطيع بن المقتدر 363 هـ ـ 393 ه
الطائع بالله : أبو بكر بن المطيع أمه أم ولد اسمها هزار نزل له أبوه عن الخلافة و عمره ثلاث و أربعون سنة فركب و عليه البردة و معه الجيش و بين يديه سبكتكين و خلع من الغد على سبكتكين خلع السلطنة و عقد له اللواء و لقبه [ نصر الدولة ] ثم وقع بين عز الدولة و سبكتكين الأتراك لنفسه فأجابوه و جرى بينه و بين عز الدولة حروب و في ذي الحجة من هذه السنة ـ أي سنة ثلاث و ستين و ثلاثمائة ـ أقيمت الخطبة و الدعوة بالحرمين للمعز العبيدي و في سنة أربع و ستين قدم عضد الدولة بغداد لنصرة عز الدولة على سبكتكين فأعجبته بغداد و ملكها فعمل عليها و استمال الجند فشغبوا على عز الدولة فأغلق بابه و كتب عضد الدولة عن الطائع إلى الآفاق باستقرار الأمر لعضد الدولة فوقع بين الطائع و بين عضد الدولة فقطعت الخطبة للطائع بسبب ذلك ببغداد و غيرها من يوم العشرين من جمادى الأولى إلى أن أعيدت في عاشر رجب
و في هذه السنة و بعدها غلا الرفض و فار بمصر و الشام و المشرق و المغرب و نودي بقطع صلاة التراويح من جهة العبيدي
و في سنة خمس و ستين نزل ركن الدولة بن بويه عما بيده من الممالك لأولاده فجعل لعضد الدولة فارس و كرمان و لمؤيد الدولة الري و أصبهان و لفخر الدولة همذان و الدينور
و في رجب منها عمل مجلس الحكم دار السلطان عز الدولة و جلس قاضي القضاة ابن معروف و حكم لأن عز الدولة التمس ذلك ليشاهد مجلس حكمه كيف هو
و فيها كانت وقعة بين عز الدولة و عضد الدولة و أسر فيها غلام تركي لعز الدولة فجن عليه و اشتد حزنه و امتنع من الأكل و أخذ في البكاء و احتجب عن الناس و حرم على نفسه الجلوس في الدست و كتب إلى عضد الدولة يسأله أن يرد الغلام إليه و يتذلل فصار ضحكة بين الناس و عوتب فما ارعوى لذلك و بذل في فداء الغلام جاريتين عوديتين كان قد بذل له في الواحدة مائة ألف دينار و قال للرسول إن توقف عليك في رده فزد ما رأيت و لا تفكر فقد رضيت أن آخذه و أذهب إلى أقصى الأرض فرده عضد الدولة عليه
و فيها أسقط الخطبة من الكوفة لعز الدولة و أقيمت لعضد الدولة
و فيها مات المعز لدين الله العبيدي صاحب مصر و أول من ملكها من العبيدين و قام بالأمر بعده ابنه نزار و لقب [ العزيز ]
و في سنة ست و ستين مات المنتصر بالله الحكم بن الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس و قام بعده ابنه المؤيد بالله هشام
و في سنة سبع و ستين التقى عز الدولة و عضد الدولة فظفر عضد الدولة و أخذ عز الدولة أسيرا و قتله بعد ذلك و خلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة و توجه بتاج مجوهر و طوقه و سوره و قلده سيفا و عقد له لواءين بيده : أحدهما مفضض على رسم الأمراء و الآخر مذهب على رسم ولاة العهد و لم يعقد اللواء الثاني لغيره قبله و كتب له عهدا و قرئ بحضرته و لم يبق أحد إلا تعجب و لم تجر العادة بذلك و إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين فإذا أخذه قال أمير المؤمنين : هذا عهدي إليك فاعمل به
و في سنة ثمان و ستين أمر الطائع بأن تضرب الدبادب على باب عضد الدولة في وقت الصبح و المغرب و العشاء و أن يخطب له على منابر الحضرة
قال ابن الجوزي : و هذان أمران لم يكونا من قبله و لا أطلقا لولاة العهود و قد كان معز الدولة أحب أن تضرب له الدبادب بمدينة السلام فسأل المطيع في ذلك فلم يأذن له و ما حظي عضد الدولة بذلك إلا لضعف أمر الخلافة
و في سنة تسع و ستين ورد رسول العزيز صاحب مصر إلى بغداد و سأل عضد الدولة الطائع أن يزيد في ألقابه [ تاج الملة ] و يجدد الخلع عليه و يلبسه التاج فأجابه و جلس الطائع على السرير و حوله مائة بالسيوف و الزينة و بين يديه مصحف عثمان و على كتفه البردة و بيده القضيب و هو متقلد بسيف رسول الله صلى الله عليه و سلم و ضربت ستارة بعثها عضد الدولة و سأل أن يكون حجابا للطائع حتى لا يقع عليه الأشراف و أصحاب المراتب من الجانبين ثم أذن لعضد الدولة فدخل ثم رفعت الستارة و قبل عضد الدولة الأرض فارتاع زياد القائد لذلك و قال لعضد الدولة : ما هذا أيها الملك ؟ أهذا هو الله ؟ فالتفت إليه و قال : هذا خليفة الله في الأرض ثم استمر يمشي و يقبل الأرض سبع مرات فالتفت الطائع إلى خالص الخادم و قال : استدنه فصعد عضد الدولة فقبل الأرض مرتين فقال له ادن إلي فدنا و قبل رجله و ثنى الطائع يمينه عليه و آمره فجلس على الكرسي بعد أن كرر عليه : اجلس : و هو يستعفي فقال له : أقسمت عليك لتجلسن فقبل الكرسي و جلس فقال له الطائع : قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله إلي من أمور الرعية في شرق الأرض و غربها و تدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي و أسبابي فتول ذلك فقال : يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين و خدمته ثم أفاض عليه الخلع و انصرف
قلت : انظر إلى هذا الأمر و هو الخليفة المستضعف الذي لم تضعف الخلافة في زمن أحد ما ضعفت في زمنه و لا قوي أمر سلطان ما قوي أمر عضد الدولة و قد صار الأمر في زماننا إلى أن الخليفة يأتي السلطان يهنئه برأس الشهر فأكثر ما يقع من السلطان في حقه أن ينزل عن مرتبته و يجلسا معا خارج المرتبة ثم يقوم الخليفة يذهب كأحد الناس و يجلس السلطان في دست مملكته
و لقد حدثت أن السلطان الأشرف برسباي لما سافر إلى آمد لقتال العدو و صحب الخليفة معه كان الخليفة راكبا أمامه يحجبه و الهيبة و العظمة للسلطان و الخليفة كآحاد الأمراء الذين في خدمة السلطان
و في سنة سبعين خرج من همذان عضد الدولة و قدم بغداد فتلقاه الطائع و لم تجر عادة بخروج الخلفاء لتلقي أحد
فلما توفيت بنت معز الدولة ركب المطيع إليه فعزاه فقبل الأرض و جاء رسول عضد الدولة يطلب من الطائع أن يتلقاه فلما وسعه التأخر
و في سنة اثنتين و سبعين مات عضد الدولة فولى الطائع مكانه في السلطنة ابنه صمصام الدولة و لقبه [ شمس الملة ] و خلع عليه سبع خلع و توجه و عقد له لواءين
ثم في سنة ثلاث و سبعين مات مؤيد الدولة أخو عضد الدولة
و في سنة خمس و سبعين هم صمصام الدولة أن يجعل المكس على ثياب الحرير و القطن مما ينسج ببغداد و نواحيها و وقع له في ضمان ذلك ألف ألف درهم في السنة فاجتمع الناس في جامع المنصور و عزموا على منع صلاة الجمعة و كاد البلد يفتتن فأعفاهم من ضمان ذلك
و في سنة ست و سبعين قصد شرف الدولة أخاه صمصام الدولة فانتصر عليه و كحله و مال العسكر إلى شرف الدولة و قدم بغداد و ركب الطائع إليه يهنئه بالبلاد و عهد إليه بالسلطنة و توجه و قرئ عهده و الطائع يسمع
و في سنة ثمان و سبعين أمر شرف الدولة برصد الكواكب السبعة في سيرها كما فعل المأمون
و فيها اشتد الغلاء ببغداد جدا و ظهر الموت بها و لحق الناس بالبصرة حر و سموم تساقط منه
و جاءت ريح عظيمة بفم الصلح حرقت الدجلة حتى ذكر أنه بانت أرضها و أغرقت كثيرا من السفن و احتملت زورقا منحدرا و فيه دواب فطرحت ذلك في أرض جوخى فشوهد بعد أيام
و في سنة تسع و سبعين مات شرف الدولة و عهد إلى أخيه أبي نصر فجاءه الطائع و حضر الأعيان فخلع الطائع على أبي نصر سبع خلع أعلاها سوداء و عمامة سوداء و في عنقه طوق كبير و في يده سواران و مشى الحجاب بين يديه بالسيوف ثم قبل الأرض بين يدي الطائع و على كرسي و قرىء عهده و لقبه الطائع [ بهاء الدولة و ضياء الملة ]
و في سنة إحدى و ثمانين قبض على الطائع و سببه : أنه حبس رجلا من خواص بهاء الدولة فجاء بهاء الدولة و قد جلس الطائع في الرواق متقلدا سيفا فلما قرب بهاء الدولة قبل الأرض و جلس على كرسي و تقدم أصحاب بهاء الدولة فجذبوا الطائع من سريره و تكاثر الديلم فلفوه في كساء و أصعد إلى دار السلطنة و ارتج البلد و رجع بهاء الدولة و كتب على الطائع أيمانا بخلع نفسه و أنه سلم الأمر إلى القادر بالله و شهد عليه الأكابر و الأشراف و ذلك في تاسع عشر شهر شعبان و نفذ إلى القادر ليحضر و هو بالبطيحة
و استمر الطائع في دار القادر بالله مكرما محترما في أحسن حال حتى إنه حمل إليه شمعة قد أوقد نصفها فأنكر ذلك فحملوا إليه غيرها إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ثلاث و تسعين
و صلى عليه عبد القادر بالله في داره و شيعه الأكابر و الخدم و رثاه الشريف الرضي بقصيدة
و كان شديد الانحراف على آل أبي طالب و سقطت الهيبة في أيامه جدا حتى هجاه الشعراء
مات في أيام الطائع من الأعلام : ابن السني الحافظ و ابن عدي و القفال الكبير و السيرافي النحوي و أبو سهل الصعلوكي و أبو بكر الرازي الحنفي و ابن خالويه و الأزهري إمام اللغة و أبوا إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب و الرفاء الشاعر و أبوا زيد المرزوي الشافعي و الداركي و أبو علي الأبهري شيخ المالكية و أبو الليث السمرقندي إمام الحنفية و أبو علي الفارسي النحوي و ابن الجلاب المالكي
القادر بالله أحمد بن إسحاق بن المقتدر 393 هـ ـ 422 ه
القادر بالله : أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر
ولد سنة ست و ثلاثين و ثلاثمائة و أمه أمة و اسمها تمنى و قيل دمنة
بويع له بالخلافة بعد خلع الطائع و كان غائبا فقدم في عاشر رمضان و جلس من الغد جلوسا عاما و هنىء
و أنشد بين يديه الشعراء من ذلك قول الشريف الرضي :
( شرف الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباس )
( ذا الطود أبقاه الزمان ذخيرة ... من ذلك الجبل العظيم الراسي )
قال الخطيب : و كان القادر من الستر و الديانة و السيادة و إدامة التهجد بالليل و كثرة البر و الصدقات و حسن الطريقة على صفة اشتهرت عنه و عرف بها كل أحد مع حسن المذهب و صحة الاعتقاد تفقه على العلامة أبي بشر الهروي الشافعي و قد صنف كتابا في الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث و أورد في كتاب فضائل عمر بن عبد العزيز و إكفار المعتزلة و القائلين بخلق القرآن و كان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي و بحضرة الناس ترجمه ابن الصلاح في طبقات الشافعية
و قال الذهبي : في شوال من سنة ولايته عقد مجلس عظيم و حلف القادر و بهاء الدولة كل منهما لصاحبه بالوفاء و قلده القادر ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة
و فيها دعا صاحب مكة أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي إلى نفسه و تلقب بالراشد بالله و سلم عليه بالخلافة فانزعج صاحب مصر ثم ضعف أمر أبي الفتوح و عاد إلى طاعة العزيز العبيدي
و في سنة اثنتين و ثمانين ابتاع الوزير أبو نصر سابور أزدشير دارا بالكرخ و عمرها و سماها دار العلم و وقفها على العلماء و وقف بها كتبا كثيرة
و في سنة أربع و ثمانين عاد الحاج العراقي من الطريق اعترضهم الأصيفر الأعرابي و منعهم الجواز إلا برسمه فعادوا و لم يحجوا و لا حج أيضا أهل الشام و لا اليمن إنما حج أهل مصر
و في سنة سبع و ثمانين مات السلطان فخر الدولة و أقيم ابنه رستم مقامه في السلطنة بالري و أعمالها و هو ابن أربع سنين و لقبه القادر [ مجد الدولة ]
قال الذهبي : و من الأعجوبات هلاك تسعة ملوك على نسق في سنتي سبع و ثمانين و ثمان و ثمانين : منصور بن نوح ملك ما وراء النهر و فخر الدولة ملك الري و الجبال و العزيز العبيدي صاحب مصر و فيهم يقول أبو منصور عبد الملك الثعالبي :
( ألم تر مذ عامين أملاك عصرنا ... يصيح بهم للموت و القتل صائح )
( فنوح بن منصور طوته يد الردى ... على حسرات ضمنتها الجوانح )
( و يا بؤس منصور ففي يوم سرخس ... تمزق عنه ملكه و هو طائح )
( و فرق عنه الشمل بالسمل و اغتدى ... أميرا ضريرا تعتريه الجوائح )
( و صاحب مصر قد مضى بسبيله ... و والي الجبال غيبته الضرائح )
( و صاحب جرجانية في ندامة ... ترصده طرف من الحين طامح )
( و خوارزم شاه شاه وجه نعيمه ... و عن له يوم من النحس طالح )
( و كان علا في الأرض يخطبها أبو ... علي إلى أن طوحته الطوائح )
( و صاحب بست ذلك الضيغم الذي ... براثنه للمشرقين مفاتح )
( أناخ به من صدمة الدهر كلكل ... فلم تغن عنه و المقدر سانح )
( جيوش إذا أربت على عدد الحصى ... تغص بها قيعانها و الصحاصح )
( و دارت على صمصام دولة بويه ... دوائر سوء سلبهن فوادح )
( و قد جاز والي الجوزجان قناطر الح ... ياة فوافته المنايا الطوامح )
و ذكر الذهبي أن العزيز صاحب مصر مات سنة ست و ثمانين و فتحت له زيادة على أبائه : حمص و حماة و حلب و خطب له بالموصل و باليمن و ضرب اسمه فيها على السكة و الأعلام و قام بالأمر بعده ابنه منصور و لقب [ الحاكم بأمر الله ]
و في سنة تسعين ظهر بسجستان معدن ذهب فكانوا يصفون من التراب الذهب الأحمر
و في سنة ثلاث و تسعين أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربي فطيف به على حمار و نودي عليه : هذا جزاء من يحب أبا بكر و عمر ثم ضرب عنقه رحمه الله و لا رحم قاتله و لا أستاذه الحاكم
و في سنة أربع و تسعين قلد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي قضاء القضاة و الحج و المظالم و نقابة الطالبين و كتب له من شيراز العهد فلم ينظر في القضاء لامتناع القادر من الإذن له
و في سنة خمس و تسعين قتل الحاكم بمصر جماعة من الأعيان صبرا و أمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد و الشوارع و أمر العمال بالسب
و فيها أمر بقتل الكلاب و أبطل الفقاع و الملوخيا و نهى عن السمك الذي لا قشر له و قتل جماعة ممن باع ذلك بعد نهيه
و في سنة ست و تسعين أمر الناس بمصر و الحرمين إذا ذكر الحاكم أن يقوموا و يسجدوا في السوق و في مواضع الاجتماع
و في سنة ثمان و تسعين وقعت فتنة بين الشيعة و أهل السنة في بغداد و كاد الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقتل فيها و صاح الرافضة ببغداد : يا حاكم يا منصور فأحفظ القادر من ذلك و أنفذ الفرسان الذين على بابه لمعاونة أهل السنة فانكسر الروافض
و فيها هدم الحاكم بيعة قمامة التي بالمقدس و أمر بهدم جميع الكنائس التي بمصر و أمر النصارى بأن تحمل في أعناقهم الصلبان طول الصليب ذراع و وزنه خمسة أرطال بالمصري و اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرم الخشب في زنة الصلبان و أن يلبسوا العمائم السود فأسلم طائفة منهم ثم بعد ذلك أذن في إعادة البيع و الكنائس و أذن لمن أسلم أن يعود إلى دينه لكونه مكرها
و في سنة تسع و تسعين عزل أبو عمرو قاضي البصرة و ولي القضاء أبو الحسن بن أبي الشوارب فقال العصفري الشاعر :
( عندي حديث طريف ... بمثله يتغنى )
( عن قاضيين يعزى ... هذا و هذا يهنى )
( و ذا يقول جبرنا ... و ذا يقول استرحنا )
( و يكذبان جميعا ... و من يصدق منا )
و فيها وهي سلطان بني أمية بالأندلس و انخرم نظامهم
و في سنة أربعمائة نقصت دجلة نقصانا لم يعهد و اكتريت لأجل جزائر ظهرت و لم يكن قبل ذلك قط
و في سنة اثنتين نهى الحاكم عن بيع الرطب و حرقه و عن بيع العنب و أباد كثيرا من الكروم
و في سنة أربع منع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا و نهارا و استمر ذلك إلى أن مات
و في سنة إحدى عشرة قتل الحاكم لعنه الله بحلوان ـ قرية بمصر ـ و قام بعده ابنه علي و لقب بالظاهر لإعزاز دين الله و تضعضعت دولتهم في أيامه فخرجت عنهم حلب و أكثر الشام
و في سنة اثنتين و عشرين توفي القادر بالله ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة عن سبع و ثمانين سنة و مدة خلافته إحدى و أربعون سنة و ثلاثة أشهر
و ممن مات في أيامه من الأعلام : أبو أحمد العسكري الأديب و الرماني النحوي و أبو الحسن الماسرجسي شيخ الشافعية و أبو عبيد الله المرزباني و الصاحب بن عباد ـ و هو وزير مؤيد الدولة و هو أول من سمي بالصاحب من الوزراء و الدارقطني الحافظ المشهور و ابن شاهين و أبو بكر الأودني إمام الشافعية و يوسف بن السيرافي و ابن زولاق المصري و ابن أبي زيد المالكي شيخ المالكية و أبو طالب المكي صاحب [ قوت القلوب ] و ابن بطة الحنبلي و ابن سمعون الواعظ و الخطابي و الحاتمي اللغوي و الأدفوي أبو بكر و زاهر السرخسي شيخ الشافعية و ابن غلبون المقرىء و الكشميهني راوي الصحيح و المعافى بن زكريا النهرواني و ابن خويز منداد و ابن جني و الجوهري صاحب [ الصحاح ] و ابن فارس صاحب [ المجمل ] و ابن منده الحافظ و الإسماعيلي شيخ الشافعية و أصبغ بن الفرج شيخ المالكية و بديع الزمان أول من عمل المقامات و ابن لال و ابن أبي زمنين و أبو حيان التوحيدي و الوأواء الشاعر و الهروي صاحب [ الغريبين ] و أبو الفتح البستي الشاعر والحليمي شيخ الشافعية وابن الفارض و أبو الحسن القابسي و القاضي أبو بكر الباقلاني و أبو الطيب الصعلوكي و ابن الأكفاني و ابن نباتة صاحب الخطب و الصيمري شيخ الشافعية و الحاكم صاحب المستدرك و ابن كج و الشيخ أبو حامد الإسفرايني و ابن فورك و الشريف الرضي و أبو بكر الرازي صاحب الألقاب و الحافظ عبد الغني بن سعيد و ابن مردوية و هبة الله بن سلامة الضرير المفسر و أبو عبد الرحمن السلمي شيخ الصوفية و ابن البواب صاحب الخط و عبد الجبار المعتزلي و المحاملي إمام الشافعية و أبو بكر القفال شيخ الشافعية و الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني و اللاكائي و ابن الفخار عالم الأندلس و علي بن عيسى الربعي النحوي و خلائق آخرون
قال الذهبي : كان في هذا العصر رأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفرايني و رأس المعتزلة القاضي عبد الجبار و رأس الرافضة الشيخ المقتدر و رأس الكرامية محمد بن الهيصم و رأس القراء أبو الحسن الحمامي و رأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد و رأس الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي و رأس الشعراء أبو عمر بن دراج و رأس المجودين ابن البواب و رأس الملوك السلطان محمود بن سبكتكين
قلت : و يضم إلى هذا رأس الزنادقة الحاكم بأمر الله و رأس اللغويين الجوهري و رأس النحاة ابن جني و رأس البلغاء البديع و رأس الخطباء ابن نباتة و رأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري و رأس الخلفاء القادر بالله ـ فإنه من أعلامهم تفقه و صنف و ناهيك بأن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح عده من الفقهاء الشافعية و أورده في طبقاتهم و مدته في الخلافة من أطول المدد
القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله 422هـ ـ 467ه
القائم بأمر الله : أبو جعفر عبد الله بن القادر
ولد في نصف ذي القعدة سنة إحدى و تسعين و ثلاثمائة و أمه أم ولد أرمنية اسمها بدر الدجى و قيل : قطر الندى
ولي الخلافة عند موت أبيه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين و عشرين و كان ولي عهده في الحياة و هو الذي لقبه بالقائم بأمر الله
قال ابن الأثير : كان جميلا مليح الوجه أبيض مشربا حمرة حسن الجسم ورعا دينا عالما قوي اليقين بالله تعالى كثير الصدقة و الصبر له عناية بالأدب و معرفة حسنة بالكتابة مؤثرا للعدل و الإحسان و قضاء الحوائج لا يرى المنع من شيء طلب منه
قال الخطيب : و لم يزل أمر القائم بأمر الله مستقيما إلى أن قبض عليه في سنة خمسين و أربعمائة
و كان السبب في ذلك أن أرسلان التركي المعروف بالبساسيري ـ كان قد عظم أمره و استفحل شأنه لعدم نظراته و انتشر ذكره و تهيبته أمراء العرب و العجم و دعي له على المنابر و جبى الأموال و خرب القرى و لم يكن القائم يقطع أمرا دونه ثم صح عنده سوء عقيدته و بلغه أنه عزم على نهب دار الخلافة و القبض على الخليفة فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن مكيال سلطان الغز المعروف بطغرلبك ـ و هو بالري ـ يستنهضه في القدوم ثم أحرقت دار البساسيري
و قدم طغرلبك في سنة سبع و أربعين فذهب البساسيري إلى الرحبة و تلاحق به خلق من الأتراك و كاتب صاحب مصر فأمده بالأموال و كاتب تبال أخا طغرلبك و أطمعه بمنصب أخيه فخرج تبال و اشتغل به طغرلبك
ثم قدم البسسيري بغداد في سنة خمسين و معه الرايات المصرية و وقع القتال بينه و بين الخليفة و دعي لصاحب مصر المستنصر بجامع المنصور و زيد في الأذان : حي على خير العمل ثم خطب له في كل الجوامع إلا جامع الخليفة و دام القتال شهرا
ثم قبض البساسيري على الخليفة إلى ذي الحجة و سيره في غاية و حبسه بها و أما طغرلبك فظفر بأخيه و قتله ثم كاتب متولي غاية في رد الخليفة إلى داره مكرها فحصل الخليفة في مقر عزه في الخامس و العشرين من ذي القعدة ستة إحدى و خمسين و دخل بأبهة عظيمة و الأمراء و الحجاب بين يديه
و جهز طغرلنك جيشا فحاربوا السباسيري فظفروا به فقتل و حمل رأسه إلى بغداد
و لما رجع الخليفة إلى داره لم ينم بعدها إلا على فراش مصلاه و لزم الصيام و القيام و عفا عن كل من آذاه و لم يسترد شيئا مما نهب من قصره إلا بالثمن و قال : هذه أشياء احتسبناها عند الله بعدها على مخدة
و لما نهب قصره لم يوجد فيه شيء من آلات الملاهي
و روي أنه لما سجنه السباسبري كتب قصته و أنفذها إلى مكة فعلقت في الكعبة فيها : إلى الله العظيم من المسكين عبده اللهم إنك العلم بالسرائر المطلع على الضمائر اللهم غني بعلمك و إطلاعك على خلقك عن إعلامي هذا عبد قد كفر نعمك و ما شكرها و ألغى العواقب و ما ذكرها اطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيا و أساء إلينا عتوا و عدوا اللهم قل الناصر و اعتز الظالم و أنت المطلع العالم المنصف الحاكم بك نعتز عليه و إليك نهرب من بين يديه فقد تعزز علينا بالمخلوقين و نحن نعتز بك و قد حاكمناه إليك و توكلناه في إنصافنا منه عليك و رفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك و وثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق و أنت خير الحاكمين
و في سنة ثمان و عشرين مات الظاهر العبيدي صاحب مصر و أقيم ابنه المستنصر بعده ـ و هو ابن سبع سنين ـ فأقام في الخلافة ستين و أربعة أشهر
قال الذهبي : و لا أعلم أحدا في الإسلام لا خليفة و لا سلطانا أقام هذه المدة و في أيامه كان الغلاء بمصر الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف فأقام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضا و حتى قيل : إنه بيع رغيف بخمسين دينارا
و في سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة قطع المعز بن باديس الخطبة للعبيدي بالمغرب و خطب لبني العباس
و في سنة إحدى و خمسين كان عقد الصلح بين السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة و بين السلطان جغري بك بن سلجوق أخي طغرلبك صاحب خراسان بعد حروب كثيرة ثم مات جغري بك في السنة و أقيم مكانه ابنه ألب أرسلان
و في سنة أربع و خمسين زوج الخليفة ابنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن و انزعج و استعفى ثم لان لذلك برغم منه و هذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء و تحكمهم فيهم
قلت : و الآن زوج خليفة عصرنا ابنته من واحد من مماليك السلطان فضلا عن السلطان فإنا لله و إنا إليه راجعون
ثم قدم طغرلبك في سنة خمس و خمسين فدخل بابنة الخليفة و أعاد المواريث و المكوس و ضمن بغداد بمائة و خمسين ألف دينار ثم رجع إلى الري فمات بها في رمضان فلا عفا الله عنه و أقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب أرسلان صاحب خراسان و بعث إليه القائم بالخلع و التقليد
قال الذهبي : و هو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد و بلغ ما لم ما يبلغه أحد من الملوك و افتتح بلادا كثيرة من بلاد النصارى و استوزر نظام الملك فأبطل ما كان عليه الوزير قبله عميد الملك من سب الأشعرية و انتصر للشافعية و أكرم إمام الحرمين و أبا القاسم القشيري و بنى النظامية قيل و هي أول مدرسة بنيت للفقهاء
و في سنة ثمان و خمسين ولدت بباب الأزج صغيرة لها رأسان و وجهان و رقبتان على بدن واحد
و فيها ظهر كوكب كأنه دارة القمر ليلة تمامه بشعاع عظيم و هال الناس ذلك و أقام عشر ليال ثم تناقص ضوؤه و غاب
و في سنة تسع و خمسين فرغت المدرسة النظامية ببغداد و قرر لتدريسها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فاجتمع الناس فلم يحضر و اختفى فدرس ابن الصباغ صاحب الشامل ثم تلطفوا بالشيخ أبي إسحاق حتى أجاب و درس
و في سنة ستين كانت بالرملة الزلزلة الهائلة التي خربتها حتى طلع الماء من رؤوس الآبار و هلك من أهلها خمسة و عشرين ألفا و أبعد البحر عن ساحله مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون السمك فرجع الماء فأهلكهم
و في سنة إحدى و ستين احترق جامع دمشق و زالت محاسنه و تشوه منظره و ذهبت سقوفه المذهبة
و في سنة اثنتين و ستين و رد رسول أمير مكة على السلطان ألب أرسلان بأنه أقام الخطبة العباسية و قطع خطبة المستنصر المصري و ترك الأذان بحي على خير العمل فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار و خلعا
و سبب ذلك ذلة المصريين بالقحط المفرط سنين متوالية حتى أكل الناس الناس و بلغ الإردب مائة دينار و بيع الكلب بخمسة دنانير و الهر بثلاثة دنانير
و حكى صاحب [ المرآة ] : أن امرأة خرجت من القاهرة و معها مد جوهر فقالت : من يأخذه بمدبر ؟ فلم يلتفت إليها أحد
و قال بعضهم يهنئ القائم :
( و قد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف فيها و طاعون عمواس )
( أقامت به حتى استراب بنفسه ... و أوجس منها خيفة أي إيجاس )
و في سنة ثلاث و ستين خطب بحلب للقائم و للسلطان ألب أرسلان لما رأوا قوة دولتهما و إدبار دولة المستنصر
و فيها كانت وقعة عظيمة بين الإسلام و الروم و نصر المسلمون و لله الحمد و مقدمهم السلطان ألب أرسلان و أسر ملك الروم ثم أطلقه بمال جزيل و هادنه خمسين سنة
و لما أطلق قال السلطان : أين جهة الخليفة ؟ فأشار له فكشف رأسه و أوما إلى الجهة بالخدمة
و في سنة أربع و ستين كان الوباء في الغنم إلى الغاية
و في سنة خمس و ستين قتل السلطان ألب أرسلان و قام في الملك بعده ملكشاه و لقب [ جلال الدولة ] ورد تدبير الملك إلى نظام الملك و لقبه [ الأتابك ] و هو أول من لقبه و معناه الأمير الوالد
و فيها اشتد الغلاء بمصر حتى أكلت امرأة رغيفا بألف دينار و كثر الوباء إلى الغاية
و في سنة ست و ستين كان الغرق العظيم ببغداد و زادت دجلة ثلاثين ذراعا و لم يقع مثل ذلك قط و هلكت الأموال و الأنفس و الدواب و ركبت الناس في السفن و أقيمت الجمعة في الطيار على وجه الماء مرتين و قام الخليفة يتضرع إلى الله و صارت بغداد ملقة واحدة و انهدم مائة ألف دار أو أكثر
و في سنة سبع و ستين مات الخليفة القائم بأمر الله ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان و ذلك أنه افتصد و نام فانحل موضع الفصد و خرج منه دم كثير فاستيقظ و قد انحلت قوته فطلب حفيده ولي العهد عبد الله بن محمد و وصاه ثم توفي و مدت خلافته خمس و أربعون سنة
مات في أيامه من الأعلام : أبو بكر البرقاني و أبو الفضل الفلكي و الثعلبي المفسر و القدوري شيخ الحنفية و ابن سينا شيخ الفلاسفة و مهيار الشاعر و أبو نعيم صاحب [ الحلية ] و أبو زيد الدبوسي و البرادعي المالكي صاحب [ التهذيب ] و أبو الحسين البصري المعتزلي و مكي صاحب [ الإعراب ] و الشيخ أبو محمد الجويني و المهدوي صاحب التفسير و الإفليلي و الثمانيني و أبو عمر الداني و الخليل صاحب [ الإرشاد ] و سليم الرازي و أبو العلاء المعري و أبو عثمان الصابوني و ابن بطال شارح البخاري و القاضي أبو الطيب الطبري و ابن شيطا المقرئ و الماوردي الشافعي و ابن باب شاذ و القضاعي صاحب [ الشهاب ] و ابن برهان النحوي و ابن حزم الظاهري و البيهقي و ابن سيده صاحب [ المحكم ] و أبو يعلى بن الفراء شيخ الحنابلة و الحضرمي من الشافعية و الهذلي صاحب [ الكامل ] في القراءات و الفريابي و الخطيب البغدادي و ابن رشيق صاحب [ العمدة ] و ابن عبد البر
المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله 467 هـ ـ 487 ه
المقتدي بأمر الله : أبو القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله
مات أبوه في حياة القائم ـ و هو حمل ـ فولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر و أمه أم ولد اسمها أرجوان
و بويع له بالخلافة عند موت جده و له تسع عشرة سنة و ثلاثة أشهر و كانت البيعة بحضرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي و ابن الصباغ و الدامغاني و ظهر في أيامه خيرات كثيرة و آثار حسنة في البلدان
و كانت قواعد الخلافة في أيامه باهرة وافرة الحرمة بخلاف من تقدمه
و من محاسنه أنه نفى المغنيات و الحواظي ببغداد و أمر أن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر و خرب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس
و كان دينا خيرا قوي النفس عالي الهمة من نجباء بني العباس
و في هذه السنة من خلافته أعيدت الخطبة للعبيدي بمكة و فيها جمع نظام الملك المنجمين و جعلوا النيروز أول نقطة من الحمل و كان قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت و صار ما فعله النظام مبدأ التقاويم
و في سنة ثمان و ستين خطب للمقتدي بدمشق و أبطل الأذان بحي على خير العمل و فرح الناس بذلك
و في سنة تسع و ستين قدم بغداد أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القسيري حاجا فوعظ بالنظامية و جرى له فتنة كبيرة مع الحنابلة لأنه تكلم على مذهب الأشعري و حط عليهم و كثر أتباعه و المتعصبون له فهاجت فتن و قتلت جماعة
و عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة المقتدي لكونه شذ عن الحنابل
و في سنة خمس و سبعين بعث الخليفة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولا إلى السلطان يتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث عميد العراق
و في سنة ست و سبعين رخصت الأسعار بسائر البلاد و ارتفع الغلاء
و فيها ولى الخليفة أبا شجاع محمد بن الحسين الوزارة و لقبه [ ظهير الدين ] و أظن ذلك أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين
و في سنة سبع و سبعين سار سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية و أقصراء بجيوشه إلى الشام فأخذ أنطاكية ـ و كانت بيد الروم من سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة ـ و أرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره قال الذهبي : و آل سلجوق هم ملوك بلاد الروم و قد امتدت أيامهم و بقي منهم بقية إلى زمن الملك الظاهر بيبرس
و في سنة ثمان و سبعين جاءت ريح سوداء ببغداد بعد العشاء و اشتد الرعد و البرق و سقط رمل و تراب كالمطر و وقعت عدة صواعق في كثير من البلاد فظن الناس أنها القيامة و بقيت ثلاث ساعات بعد العصر و قد شاهد هذه الكائنة الإمام أبو بكر الطرطوشي و أوردها في أماليه
و في سنة تسع و سبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة و مراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه و أن يقلده ما بيده من البلاد فبعث إليه الخلع و الأعلام و التقليد و لقبه بأمير المسلمين ففرح بدلك و سر به فقهاء المغرب و هو الذي أنشأ مدينة مراكش
و فيها دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة و هو أول دخوله إليها فنزل بدار المملكة و لعب بالكرة و قد تقاوم الخليفة ثم رجع إلى أصبهان
و فيها قطعت خطبة العبيدي بالحرمين و خطب للمقتدي و في سنة إحدى و ثمانين مات ملك غزنة المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين و قام مقامه ابنه جلال الدين مسعود
و في سنة ثلاث و ثمانين عملت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز و درس بها أبو بكر الشاشي
و في سنة أربع و ثمانين استولت الفرنج على جميع جزيرة صقلية و هي أول ما فتحها المسلمون بعد المائتين و حكم عليها آل الأغلب دهرا إلى أن استولى العبيدي المهدي على المغرب
و فيها قدم السلطان ملكشاه بغداد و أمر بعمل جامع كبير بها و عمل الأمراء حوله دورا ينزلونها ثم رجع إلى أصبهان و عاد إلى بغداد في سنة خمس و ثمانين عازما على الشر و أرسل إلى الخليفة يقول : لا بد أن تترك لي بغداد و تذهب إلى أي بلد شئت فانزعج الخليفة و قال : و لا ساعة واحدة فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام فاتفق مرض السلطان و موته و عد ذلك كرامة للخليفة و قيل : إن الخليفة جعل يصوم فإذا أفطر جلس على الرماد و دعا على ملكشاه فاستجاب الله دعاءه و ذهب إلى حيث ألقت و لما كتمت زوجته تركان خاتون موته و أرسلت إلى الأمراء سرا فاستحلفتهم لولده محمود ـ و هو ابن خمس سنين فخلفوا له و أرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب و لقبه [ ناصر الدنيا و الدين ] ثم خرج عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه فقلده الخليفة و لقبه [ ركن الدين ] و ذلك في المحرم سنة سبع و ثمانين و أربعمائة و علم الخليفة على تقليده ثم مات الخليفة من الغد فجأة فقيل : إن جاريته شمس النهار سمته و بويع لولده المستظهر
و ممن مات في أيام المقتدي من الأعلام : عبد القادر الجرجاني و أبو الوليد الباجي و الشيخ أبو إسحاق الشيرازي و الأعلم النحوي و ابن الصباغ صاحب [ الشامل ] و المتولي و إمام الحرمين و الدامغاتي الحنفي و ابن فضالة المجاشعي و البزدوي شيخ الحنفية
المستظهر بالله أحمد بن المقتدر بأمر الله 487 هـ ـ 512 ه
المستظهر بالله : أبو العباس أحمد بن المتقدي بالله
ولد في شوال سنة سبعين و أربعمائة و بويع له عند موت أبيه و له ست عشرة سنة و شهران
و قال ابن الأثير : كان لين الجانب كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس و يفعل الخير و يسارع في أعمال البر حسن الخط جيد التوقيعات لا يقاربه فيها أحد يدل على فضل غزير و علم واسع سمحا جوادا محبا للعلماء و الصلحاء و لم تصف له الخلافة بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب
و في هذه السنة من أيامه مات المستنصر العبيدي صاحب مصر و قام بعده ابنه المستعلي أحمد
و فيها أخذت الروم بلنسية
و في سنة ثمان و ثمانين قتل أحمد خان صاحب سمرقند لأنه ظهر منه الزندقة فقبض عليه الأمراء و أحضروا الفقهاء فأفتوا بقتله فقتل لا رحمه الله و ملكوا ابن عمه
و في سنة تسع و ثمانين اجتمعت الكواكب السبعة سوى زحل في برج الحوت فحكم المنجمون بطوفان يقارب طوفان نوح فاتفق أن الحجاج نزلوا في دار المناقب فأتاهم سيل غرق أكثرهم
و في سنة تسعين قتل السلطان أرسلان أرغون بن ألب أرسلان السلجوقي صاحب خراسان فتملكها السلطان بركياروق و دانت له البلاد و العباد
و فيها خطب للعبيدي بحلب و أنطاكية و المعمرة و شيزر شهرا ثم أعيدت الخطبة العباسية
و فيها جاء الفرنج فأخذوا نيقية و هو أول بلد أخذوه و وصلوا إلى كفر طاب و استباحوا تلك النواحي فكان هذا أول مظهر الفرنج بالشام قدموا في بحر القسطنطينية في جمع عظيم و انزعجت الملوك و الرعية و عظم الخطب فقيل : إن صاحب مصر لما رأى قوة السلجقوية و استلاءهم على الشام كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوها و كثر النفير على الفرنج من كل جهة
و في سنة اثنتين و تسعين انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان
و فيها أخذت الفرنج بيت المقدس بعد حصار شهر و نصف و قتلوا به أكثر من سبعين ألفا منهم جماعة من العلماء و العباد و الزهاد و هدموا المشاهد و جمعوا اليهود في الكنيسة و أحرقوا عليهم و ورد المستنفرون إلى بغداد فأوردوا كلاما أبكى العيون و اختلفت السلاطين فتمكنت الفرنج من الشام و للأبيوردي في ذلك :
( مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرصة للمراحم )
( و شر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم )
( فأيها بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم )
( أنائمة في ظل أمن و غبطة ... و عيش كنوار الخميلة ناعم )
( و كيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نائم )
( و إخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم )
( تسومهم الروم الهوان و أنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم )
( فكم من دماء قد أبيحت ؟ و من دمى ... تواري حياء حسنها بالمعاصم )
( بحيث السيوف البيض محمرة الظبا ... و سمر العوالي داميات اللهازم )
( يكاد لهن المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم )
( أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم و الدين واهي الدعائم )
( و يجتنبون النار خوفا من الردى ... و لا يحسبون العار ضربة لازم )
( أترضى صناديد الأعارب بالأذى ... و تغضي على ذل كماة الأعاجم )
( فليتهم إذا لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم )
و فيها خرج محمد بن ملكشاه على أخيه السلطان بركياروق فانتصر عليه فقلده الخليفة و لقبه [ غياث الدنيا و الدين ] و خطب له ببغداد ثم جرت بينهما عدة وقعات
و فيها نقل المصحف العثماني من طبرية إلى دمشق خوفا عليه و خرج الناس لتلقيه فآووه خزانة بمقصورة الجامع
و في سنة أربع و تسعين كثر أمر الباطنية بالعراق و قتلهم الناس و اشتد الخطب بهم حتى كانت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم و قتلوا الخلائق منهم الروياني صاحب البحر
و فيها أخذ الفرنج بلد سروج و حيفا و أرسوف و قيسارية
و في سنة خمس و تسعين مات المستعلي صاحب مصر و أقيم بعده الآمر بأحكام الله منصور و هو طفل له خمس سنين
و في سنة ست و تسعين جرت فتن للسلطان فترك الخطباء الدعوة للسلطان و اقتصروا على الدعوة للخليفة لا غير
و في سنة سبع و تسعين وقع الصلح بين السلطانين : محمد و بركياروق و سببه أن الحروب لما تطاولت بينهما و عم الفساد و صارت الأموال منهوبة و الدماء مسفوكة و البلاد مخروبة و السلطنة مطموعا فيها و أصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين دخل العقلاء بينهما في الصلح و كتب العهود و الأيمان و المواثيق و أرسل الخليفة خلع السلطنة إلى بركياروق و أقيمت له الخطبة ببغداد
و في سنة ثمان و تسعين مات السلطان بركياروق فأقام الأمراء بعده ولده جلال الدولة ملكشاه قلده الخليفة و خطب له ببغداد و له دون خمس سنين فخرج عليه عمه محمد و اجتمعت الكلمة عليه فقلده الخليفة و عاد أصبهان سلطانا متمكنا مهيبا كثير الجيوش
و فيها كان ببغداد جدري مفرط مات فيه خلق من الصبيان لا يحصون و تبعه وباء عظيم
و في سنة تسع و تسعين ظهر رجل بنواحي نهاوند فادعى النبوة و تبعه خلق فأخذ و قتل
و في سنة خمسمائة أخذت قلعة أصبهان التي ملكها الباطنية و هدمت و قتلوا و سلخ كبيرهم و حشي جلده تبنا فعل ذلك السلطان محمد بعد حصار شديد فلله الحمد
و في سنة إحدى و خمسمائة رفع السلطان الضرائب و المكوس ببغداد و كثر الدعاء له و زاد في العدل و حسن السيرة
و في سنة اثنتين عادت الباطنية فدخلوا شيزر على حين غفلة من أهلها فملكوها و ملكوا القلعة و أغلقوا الأبواب و كان صاحبها خرج يتنزه فعاد و أبادهم في الحال و قتل فيها شيخ الشافعية الروياني صاحب البحر قتله الباطنية في بغداد كما تقدم
و في سنة ثلاث أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سنين
و في سنة أربع بلاء المسلمين بالفرنج و تايقنوا استيلاءهم على أكثر الشام طلب المسلمون الهدنة فامتنعت الفرنج و صالحوهم بألوف دنانير كثيرة فهادنوا ثم غدروا لعنهم الله
و فيها هبت بمصر ريح سوداء مظلمة أخذت بالأنفاس حتى لا يبصر الرجل يده و نزل على الناس رمل و أيقنوا بالهلاك ثم تجلى قليلا و عاد الصفرة و كان ذلك من العصر إلى ما بعد المغرب
و فيها كانت ملحمة كبيرة بين الفرنج و بين ابن تاشفين صاحب الأندلس نصر فيها المسلمون و قتلوا و أسروا و غنموا ما لا يعبر عنه و بادت شجعان الفرنج
و في سنة سبع جاء مودود صاحب الموصل بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس فوقع بينهم معركة هائلة ثم رجع مودود إلى الشام فصلى الجمعة يوما في الجامع و إذا بباطني رثب عليه فجرحه فمات من يومه فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتابا فيه : [ و إن أمه قتلت عميدها في يوم عيد في بيت معبودا لحقيق على الله أن يبيدها ]
و في سنة إحدى عشرة جاء سيل عرم غرق سنجار و سورها و هلك خلق كثير حتى إن السيل و ظهر بعد سنين و سلم طفل في سرير له حمله السيل فتعلق السرير بزيتونه و عاش و كبر
و فيها مات السلطان محمد و أقيم بعده ابنه محمود و له أربع عشرة سنة
و في سنة اثنتي عشرة مات الخليفة المستظهر بالله في يوم الأربعاء الثالث و العشرين من ربيع الأول فكانت مدته خمسا و عشرين سنة و غسله ابن عقيل شيخ الحنابلة و صلى عليه ابنه المسترشد و مات بعده بقليل جدته أرجوان والدة المقتدي
قال الذهبي : و لا يعرف خليفة عاشت جدته بعده إلا هذا رأت ابنها خليفة ثم ابن ابنها ثم ابن ابن ابنها و من شعر المستظهر :
( أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع يدا )
( و كيف أسلك نهج الاصطبار و قد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا )
( إن كنت أنقص عهد الحب يا سكني ... من بعد هذا فلا عاينتكم أبدا )
و للصارم البطائحي مدحا :
( أصبحت بالمستظهر بن المقتدي ... بالله بن القائم بن القادر )
( مستعصما أرجو نوال أكفه ... و بأن يكون على العشيرة ناصري )
فوقع المستظهر بجائزتين : بخير بين الصلة و الانحدار و المقام و الإدرار و قال السفلي : قال لي أبو الخطاب بن الجراح : صليت بالمستظهر في رمضان فقرأت : { إن ابنك سرق } رواية رويناها عن الكسائي فلما سلمت قال : هذه قراءة حسنة فيها تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب
مات في أيامه من الأعلام : أبو المظفر السمعاني و نصر المقدمي و أبو الفرج و شيذلة و الروياني و الخطيب التبريزي و الكيا الهراسي و الغزالي و الشاشي الذي صنف كتاب الحلية و سماه [ المستظهري ] و الأبيودري اللغوي
المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله 512 هـ ـ 529 ه
المسترشد بالله : أبو المنصور الفضل بن المستظهر بالله ولد في ربيع الأول سنة خمس و ثمانين و أربعمائة و أمه أم ولد و بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة و خمسمائة و كان ذا همة عالية و شهامة زائدة و إقدام و رأي و هيبة شديدة ضبط أمور الخلافة و رتبها أحسن ترتيب و أحيا رسم الخلافة و نشر عظامها و شيد أركان الشريعة و طرز أكمامها و باشر الحروب بنفسه و خرج عدة نوب إلى الحلة و الموصل طريق خراسان إلى أن خرج النوبة الأخيرة و كسر جيشه بقرب همذان و أخذ أسيرا إلى أذربيجان و قد سمع الحديث من أبي القاسم بن بيان و عبد الوهاب بن هبة الله السبتي و روى عنه محمد بن عمر بن مكي الأهوازي و وزيره علي بن طراد و إسماعيل بن طاهر الموصلي ذكر ذلك ابن السمعاني و ذكره ابن الصلاح في الطبقات الشافعية و ناهيك بذلك فقال هو الذي صنف له أبو بكر الشاشي كتابه العمدة في الفقه و بلقبه اشتهر الكتاب فإنه كان حينئذ يلقب عمدة الدنيا و الدين و ذكره ابن السبكي في الطبقات الشافعية و قال : كان في أول أمره تنسك و لبس الصوف و انفرد في بيت للعبادة و كان مولده في يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان سنة ست و ثمانين و أربعمائة و خطب له أبوه بولاية العهد و نقش اسمه على السكة في شهر ربيع الأول سنة ثمان و ثمانين و كان مليح الخط و ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله يستدرك على كتابه و يصلح أغاليط في كتبهم و أما شهامته و هيبته و سجاعته و إقدامه فأمر أشهر من الشمس و لم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش و المخالفين و كان يخرج بنفسه لدفع ذلك إلى أن خرج الخرجة الأخيرة إلى العراق و انكسر و أخذ و رزق الشهادة
و قال الذهبي : مات السلطان محمود بن محمد ملشكاه سنة خمس و عشرين فأقيم ابنه داود مكانه فخرج عليه عمه مسعود بن محمد فاقتتلا ثم اصطلحا على الاشتراك بينهما و لكل مملكة و خطب لمسعود بالسلطنة ببغداد و من بعده لداود و خلع عليهم ثم وقعت الوحشة بين الخليفة و مسعود لقتاله فالتقى الجمعان و غدر بالخليفة أكثر عسكره فظفر به مسعود و أسر الخليفة و خواصه فحبسهم بقلعة بقرب همذان فبلغ أهل بغداد ذلك فحثوا في الأسواق التراب على رؤوسهم و بكوا و ضجوا و خرج النساء حاسرات يندبن الخليفة و منعوا الصلوات و الخطبة
قال ابن الجوزي : و زلزلت بغداد مرارا كثيرة و دامت كل يوم خمس مرات أو ستا و الناس يستغيثون فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول : ساعة وقوف الولد غياث الدنيا و الدين على هذا المكتوب يدخل على أمير المؤمنين و يقبل الأرض بين يديه ويسأله العفو و الصفح و يتنصل غاية التنصل فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية و الأرضية مالا طاقة لنا بسماع مثلها فضلا عن مشاهدة : من العواصف و البروق و الزلازل و دام ذلك عشرين يوما و تشويش العساكر و انقلاب البللدان و لقد خفت على نفسي من جانب الله و ظهور آياته و امتناع الناس من الصلاة في الجوامع و منع الخطباء ما لا طاقة لي بحمله فالله الله تتلافى أمرك و تعيد أمير المؤمنين إلى مقر عزه و تحمل الغاشية بين يديه كما جرت عادتنا و عادة آبائنا ففعل مسعود جميع ما أمره به و قبل الأرض بين يدي الخليفة و وقف يسأل العفو
ثم أرسل سنجر رسولا آخر و معه عسكر يستحث مسعودا على إعادة الخليفة إلى مقر عزه فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية فذكر أن مسعودا ما علم بهم و قيل : بل علم بهم و قيل : بل هو الذي دستهم فهجموا على الخليفة في خيمته ففتكوا به و قتلوا معه جماعة من أصحابه فما شعر بهم العسكر إلا و قد فرغوا من شغلهم فأخذوهم و قتلوهم إلى لعنة الله و جلس السلطان للعزاء و أظهر المساءة بذلك و وقع النحيب و البكاء و جاء الخبر إلى بغداد فاشتد ذلك على الناس و خرجوا حفاة مخرقين الثياب و النساء ناشرات الشعور يلطمن و يقلن المراثي لأن المسترشد كان محببا فيهم ببره و لما فيه من الشجاعة و العدل و الرفق بهم و كان قتل المسترشد رحمه الله بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي لبقعدة سنة تسع و عشرين
و من شعره :
( أنا الأشقر المدعو بي الملاحم ... و من يملك الدنيا بغير مزاحم )
( ستبلغ أرض الروم خيلي و تنتضى ... بأقصى بلاد الصين صوارمي )
و من شعره لما أسر :
( و لا عجبا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح و أعجم )
( فحربة و خشي سقت حمزة الردى ... و موت علي من حسام ابن ملجم )
و له لما كسر عليه بالهزيمة فلم يفعل وثبت حتى أسر :
( قالوا : تقيم و قد أحا ... ط بك العدو و لا تفر )
( فأجابتهم : المء ما ... لم يتعظ بالوعظ غر )
( لا نلت خيرا ما حييـ ... ت و لا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعلم أن غيـ ... ر الله ينفع أو يضر )
قال الذهبي : و قد خطب بالناس يوم عيد أضحى فقال : الله أكبر ما سبحت الأنواء و أشرق الضياء و طلعت ذكاء و علت على الأرض السماء الله أكبر ما همى سحاب و لمع سراب و أنجح طلاب و سر قادما إياب ـ و ذكر خطبة بليغة ـ ثم جلس ثم قام فخطب و قال : اللهم أصلحني في ذريتي و أعني على ما وليتني و أوزعني شكر نعمتك و وقفني و انصرني فلما أنهاها و و تهيأ للنزول بدره أبو المظفر الهاشمي فأنشده :
( عليك سلام يا خير من علا ... على منبر قد حف أعلامه النصر )
( و أفضل من أم الأنام و عمهم ... بسيرته الحسنى جده من أجله نزل القطر )
( و أفضل أهل الأرض شرقا و مغربا و من جده من أجله نزل القطر )
( لقد شنفت أسماعنا منك خطبة ... و موعظة فصل يلين لها الصخر )
( ملأت بها كل القلوب مهابة ... فقد رجفت من خوف تخويفها مصر )
( و زدت بها عدنان مجدا مؤثلا ... فأضحى بها بين الأنام لك الفخر )
( وسدت بني العباس حتى لقد غدا يباهي بك السجاد و العلم البحر )
( فلله عصر أنت فيه إمامنا ... و لله دين أنت فيه لنا الصدر )
( بقيت على الأيام و الملك كلما ... تقدم عصر أنت فيه أتى عصر )
( و أصبحت بالعيد السعيد مهنأ ... تشريفنا فيه صلاتك و النحر )
و قال وزيره جلال الدين الحسن بن علي بن صدقه يمدحه :
( و جدت الورى كالماء طعما ورقة ... و أن أمير المؤمنين زلالة )
( و صورت معنى العقل شخخصا مصورا ... و أن أمير المؤمنين مثاله )
( و لولا مكان الدين و الشرع و التقى ... لقلت من الإعظام جل و جلاله )
و في سنة أربع و عشرين من أيامه ارتفع سحاب أمطر بلد الموصل نارا أحرقت من البلد مواضع و دورا كثيرة
و فيها قتل صاحب مصر الآمر بأحكام الله منصور من غير عقب و قام بعده ابن عمه الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المنتصر
و فيها ظهر ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان و خاف الناس منها و قد قتلت جماعة أطفال
و ممن مات في أيام المسترشد من الأعلام : شمس الأئمة أبو الفضل إمام الحنيفة و أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي و قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني و ابن بليمة المقرئ و الطغراني صاحب لامية العجم و أبو علي الصدفي الحافظ و أبو نصر القيشري و ابن القطاع اللغوي و محيي السنة البغوي و ابن الفحام المقرئ و الحريري صاحب المقامات و الميداني صاحب الأمثال و أبو الوليد بن رشد المالكي و الإمام أبو بكر الطرطوشي و أبو الحجاج السرقسطي و ابن السيد البطليوسي و أبو علي الفارقي من الشاعفية و ابن الطراوة النحوي و ابن الباذش و ظافر الحداد الشاعر و عبد الغفار الفارسي و خلائق آخرون
الراشد بالله المنصور بن المسترشد بالله 529 هـ ـ 530 ه
الراشد بالله : أبو جعفر المنصور بن المسترشد
ولد في سنة اثنتين و خمسمائة و أمه أم ولد يقال : إنه ولد مسدودا فأحضروا الأطباء فأشاروا بأن يفتح له مخرج بآلة من ذهب ففعل به ذلك فنفع
و خطب له أبوه بولاية العهد سنة ثلاث عشرة و بويع له بالخلافة عند قتل أبيه في ذي القعدة سنة تسع و عشرين
و كان فصيحا أديبا شاعرا شجاعا سمحا جوادا حسن السيرة يؤثر العدل و يكره الشر
و لما عاد السلطان مسعود إلى بغداد خرج هو إلى الموصل فأحضروا القضاة و الأعيان و العلماء و كتبوا محضرا فيه شهادة طائفة بما جرى من الراشد من الظلم و أخذ الأموال و سفك الدماء و شرب الخمر و استفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك : هل تصح إمامته ؟ و هل إذا ثبت فسقه يجوز لسلطان الوقت أن يخلعه و يستبدل خيرا منه ؟ فأفتوا بجواز خلعه و حكم بخلعه أبو طاهر بن الكرخي قاضي البلد و بايعوا عمه محمد بن المستظهر و لقب المقتفي لأمر الله و ذلك في سادس عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين
و بلغ الراشد الخلع فخرج من الموصل إلى بلاد آذربيجان و كان معه جماعة فقسطوا على مراغة مالا و عاثوا هناك و مضوا إلى همذان و أفسدوا بها و قتلوا جماعة و صلبوا آخرين و حلقوا لحى جماعة من العلماء ثم مضوا إلى أصبهان فحاصروها و نهبوا القرى
و مرض الراشد بظاهر أصبهان مرضا شديدا فدخل عليه جماعة من العجم كانوا فراشين معه فقتلوه بالسكاكين ثم قتلوا كلهم و ذلك في سادس عشر رمضان سنة اثنتين و ثلاثين و جاء الخبر إلى بغداد فقعدوا للعزاء يوما واحدا
قال العماد الكاتب : كان للراشد الحسن اليوسفي و الكرم الحاتمي
قال ابن الجوزي : و قد ذكر الصولي أن الناس يقولون : إن كل سادس يقوم للناس يخلع فتأملت هذا فرأيته عجبا
قلت : و قد سقت بقية كلامه في الخطبة ولم تؤخذ البردة و القضيب من الراشد حتى قتل فأحضرا بعد قتله إلى المقتفي
المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بالله 530 هـ ـ 555 ه
المقتفي لأمر الله : أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله
ولد في الثاني و العشرين من ربيع الأول سنة تسع و ثمانين و أربعمائة و أمه حبشية و بويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه و عمره أربعون سنة و سبب تلقيبه بالمقتفي أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول له : سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر الله فلقب المقتفي لأمر الله و بعث السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل و مهد بغداد فأخذ جميع ما في دار الخلافة من دواب و أثاث و ذهب و ستور و سرادق و لم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس و ثمانية أبغال برسم الماء فيقال : إنهم بايعوا المقتفي على أن لا يكون عنده خيل و لا آلة سفر
ثم في سنة إحدى و ثلاثين أخذ السلطان مسعود جميع تعلق الخليفة و لم يترك له إلا العقار الخاص و أرسل وزيره يطلب من الخليفة مائة ألف دينار فقال المقتفي : ما رأينا أعجب من أمرك ! أنت تعلم أن المسترشد سار إليك بأمواله فجرى ما جرى و أن الراشد ولي ففعل ما فعل و رحل و أخذ ما تبقى و لم يبق إلا الأثاث فأخذته كله و تصرفت في دار الضرب و أخذت التركات و الجوالي فمن أي وجه نقيم لك هذا المال ؟ و ما بقي إلا أن نخرج من الدار و نسلمها فإني عاهدت الله أن لا آخذ من المسلمين حبة ظلما فترك السلطان الأخذ من الخليفة و عاد إلى جباية الأملاك من الناس و صادر التجار فلقي الناس من ذلك شدة ثم في جمادى الأولى أعيدت بلاد الخليفة و معاملاته و التركات إليه
و في هذه السنة رقب الهلال الثلاثين من شهر رمضان فلم ير فأصبح أهل بغداد صائمين لتمام العدة فلما أمسوا رقبوا الهلال فما رأوه أيضا و كانت السماء جلية صاحية و مثل هذا لم يسمع بمثله في التواريخ
و في سنة ثلاث و ثلاثين كان ببحترة زلزلة عظيمة عشرة فراسخ في مثلها فأهلكت خلائق ثم خسف ببحترة و صار مكان البلد ماء أسود
و فيها استولى المراء على مغلات البلاد و عجز السلطان مسعود و لم يبق له إلا الاسم و تضعضع أيضا أمر السلطان سنجر فسبحان مذل الجبابرة و تمكن الخليفة المقتفي و زادت حرمته و علت كلمته و كان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية فلله الحمد
و في سنة إحدى و أربعين قدم السلطان مسعود بغداد و عمل دار ضرب فقبض الخليفة على الضراب الذي تسبب في إقامة دار الضرب فقبض مسعود على حاجب الخليفة فغضب الخليفة و غلق الجامع و المساجد ثلاثة أيام ثم أطلق الحاجب فأطلق الضراب و سكن الأمر
و فيها جلس ابن العبادي الواعظ فحضر السلطان مسعود و تعرض بذكر مكس البيع و ما جرى على الناس ثم قال : يا سلطان العالم أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي يؤخذ من المسلمين فاحسبني ذلك المطرب وهبه لي و اجعله شكرا لله بما أنعم عليك فأجاب و نودي في البلد بإسقاطه و طيف بالألواح التي نقش عليها ترك المكوس و بين يديه الدباب و البوقات و سمرت و لم تزل إلى أن أمر الناصر لدين الله بقلع الألواح و قال : ما لنا حاجة بآثار الأعاجم
و في سنة ثلاث و أربعين حاصرت الفرنج دمشق فوصل إليها نور الدين محمود بن زنكي و هو صاحب حلب يومئذ و أخوه غازي صاحب الموصل فنصر المسلمون و لله الحمد و هزم الفرنج و استمر نور الدين في قتال الفرنج و أخذ ما استولوا عليه من بلاد المسلمين
و في سنة أربع و أربعين مات صاحب مصر الحافظ لدين الله و أقيم ابنه الظافر إسماعيل
و فيها جاءت زلزلة عظيمة و ماجت بغداد نحو عشر مرات و تقطع منها جبل بحلوان
و في سنة خمس و أربعين جاء باليمن مطر كله دم و صارت الأرض مرشوشة بالدم و بقي أثره في ثياب الناس
و في سنة سبع و أربعين مات السلطان مسعود
قال ابن هبيرة و ـ هو وزير المقتفي ـ : لما تطاول على المقتفي أصحاب مسعود و أساؤوا الأدب و لم يمكن المجاهرة بالمحاربة اتفق الرأي على الدعاء عليه شهرا كما دعا النبي صلى الله عليه و سلم على رعل و ذكوان شهرا فابتدأ هو و الخليفة سرا كل واحد في موضعه يدعو سحرا من ليلة تسع و عشرين من جمادى الأولى و استمر الأمر كل ليلة فلما تكامل الشهر مات مسعود على سريره و لم يزد على الشهر يوما و لا نقص يوما
و اتفق العسكر على سلطنة ملكشاه و قام بأمره خاصبك ثم أن خاصبك قبض على ملكشاه و طلب أخاه محمدا من خوزستان فجاءه فسلم إليه السلطنة و أمر الخليفة حينئذ و نهى و نفذت كلمته و عزل من كان السلطان ولاه مدرسا بالنظامية و بلغه أن في نواحي واسط تخبطا فسار بعسكره و مهد البلاد و دخل الحلة و الكوفة ثم عاد إلى بغداد مؤيدا منصورا وزينب بغداد
و في سنة ثمان و أربعين خرجت الغز على السلطان سنجر و أسروه و أذاقوه الذل و ملكوا بلاده و بقوا الخطبة باسمه و بقي معهم صورة بلا معنى و صار يبكي على نفسه و له اسم السلطنة و راتبه في قدر راتب سائس من ساسته
و في سنة تسع و أربعين قتل بمصر صاحبها الظافر بالله العبيدي و أقاموا ابنه الفائز عيسى صبيا صغيرا و وهى أمر المصريين فكتب المقتفي عهدا لنور الدين محمود بن زنكي و ولاه مصر و أمره بالمسير إليها و كان مشغولا بحرب الفرنج و هو يفتر من الجهاد و كان تملك دمشق في صفر من هذا العام و ملك عدة قلاع و حصون بالسيف و بالأمان من بلاد الروم و عظمت ممالكه و بعد صيته فبعث إليه المكتفي تقليدا و أمره بالمسير إلى مصر و لقبه [ بالملك العادل ] و عظم سلطان المقتفي و اشتدت شوكته و استظهر على المخالفين و أجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره و لم يزل أمره في تزايد و علوا إلى أن مات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس و خمسين و خمسمائة
قال الذهبي : كان المقتفي من سروات الخلفاء عالما أديبا شجاعا حليما دمث الأخلاق كامل السؤدد خليقا للإمامة قليل المثل في الأمة لا يجري في دولته أمر ـ و إن صغر ـ إلا بتوقيعه و كتب في خلافته ثلاث ربعات و سمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن أبي الفرج بن السني
قال ابن السمعاني : و سمع جزاء ابن عرفة مع أخيه المسترشد من أبي القاسم بن بيان روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه و الوزير ابن هبيرة وزيره و غيرهما و قد جدد المقتفي بابا للكعبة و اتخذ من العقيق تابوتا لدفنه و كان محمود السيرة مشكور الدولة يرجع إلى الدين و عقل و فضل و رأي و سياسة جدد معالم الإمامة و مهد رسوم الخلافة و باشر الأمور بنفسه و غزا غير مرة و امتدت أيامه
و قال أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي في كتاب المناقب العباسية : كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل زاهرة بفعل الخيرات و كان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه و كان في أول أمره متشاغلا بالدين و نسخ العلوم و قراءة القرآن و لم ير مع سماحته و لين جانبه و رأفته بعد المعتصم خليفة في شهامته و صرامته و شجاعته مع ما خص به من زهده و ورعه و عبادته و لم تزل جيوشه منصورة حيث يممت
و قال ابن الجوزي : من أيام المقتفي عادت بغداد و العراق إلى يد الخلفاء و لم يبق له منازع و قبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك و ليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة و من سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خراسان و السلطان نور الدين محمود صاحب الشام و كان جوادا كريما محبا للحديث وسماعه معتنيا بالعلم مكر ما لأهله
قال ابن السمعاني : [ حدثنا أبو المنصور الجواليقي حدثنا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين حدثنا أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب حدثنا أبو محمد الصيرفيني حدثنا المخلص حدثنا إسماعيل الوراق حدثنا حفص بن عمرو الربالي حدثنا أبو سحيم حدثنا عبد العزيز ابن صهيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يزداد الأمراء إلا شدة و لا الناس إلا شحا و لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ]
و لما عاد المقتفي الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماما يصلى به دخل عليه فما زاد على أن قال : السلام على أمير المؤمنين و رحمه الله ـ و كان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائما ـ فقال : ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي و قال : يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية و روى الحديث ثم قال : يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة لأن الله ختم على قلوبهم و لن يفك ختم الله إلا الإيمان فقال المقتفي : صدقت و أحسنت المقتفي ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه
و ممن مات في أيام المقتفي من الأعلام : ابن الأبرش النحوي و يونس بن مغيث و جمال الإسلام بن المسلم الشافعي و أبو القاسم الأصفهاني صاحب لترغيب و ابن برجان و المازري المالكي صاحب كتاب [ المعلم بفوائد مسلم ] و الزمخشري و الرشاطي صاحب [ الأنساب ] و الجواليقي ـ و هو إمامه ـ و ابن عطية صاحب التفسير وأبو السعادات ابن الشجري و الإمام أبو بكر بن العربي و ناصح الدين الأرجاني الشاعر و القاضي عياض و الحافظ أبو الوليد بن الدباغ و أبو الأسعد هبة الرحمن القشيري و ابن علام الفرس المقرئ والرفاء الشاعر و الشهرستاني صاحب [ الملل و النحل ] و القيسراني الشاعر و محمد بن يحيى تلميذ الغزالي و أبو الفضل بن ناصر الحافظ و أبو الكرم الشهرزوري المقرئ و الوأواء الشاعر و ابن الجلاء إمام الشافعية و خلائق آخرون
المستنجد بالله يوسف بن المقتفى لأمر الله 555 هـ ـ 556 ه
المستنجد بالله : أبو المظفر يوسف بن المقتفي
ولد سنة ثمان عشرة و خمسمائة و أمه أم ولد كرجية اسمها طاوس خطب له أبوه بولاية العهد سنة سبع و أربعين
و بويع له يوم موت أبيه و كان موصوفا بالعدل و الرفق أطلق من المكوس شيئا كثيرا بحيث لم يترك بالعراق مكسا و كان شديدا على المفسدين سجن رجلا كان يسعى بالناس مدة فحضره رجل و بذل فيه عشرة آلاف دينار فقال : أنا أعطيك آلاف دينار و دلني على آخر مثله لأحبسه و أكف شره عن الناس
قال ابن الجوزي : و كان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب و الرأي الصائب و الذكاء الغالب و الفضل الباهر له نظم بديع و نثر بليغ و معرفة بعمل آلات الفلك و الإسطرلاب و غير ذلك
و من شعره :
( عيرتني بالشيب و هو وقار ... ليتها عيرت بما هو عار )
( إن تكن شابت الذوائب مني ... فالليالي تزينها الأقمار )
و له في بخيل :
( و باخل أشعل في بيته ... تكرمة منه لنا شمعة )
( فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت منه عينه دمعه )
و فيه في وزيره ابن هبيرة و قد رأى منه ما يعجبه من تدبير مصالح المسلمين :
( صفت نعمتان خصاتك و عمتا ... بذكرهما حتى القيامة تذكر )
( وجودك و الدنيا إليك فقيرة ... وجودك و المعروف في الناس منكر )
( فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ... و يحيى لكفا عنه يحيى و جعفر )
( و لم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ ... مظفر إلا كنت أنت المظفر )
مات في ثمان ربيع الآخر سنة ست و ستين
و كان في أول سنة من خلافته مات الفائز صاحب مصر و قام بعده العاضد لدين الله آخر خلفاء بني عبيد
و في سنة اثنتين و ستين جهز السلطان نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه في ألفي فارس لإلى مصر فنزل بالجيزه و حاصر مصر نحو شهرين فاستنجد صاحبها بالفرنج فدخلوا من دمياط لنجدته فرحل أسد الدين إلى الصعيد ثم وقعت بينه و بين المصريين حرب انتصر فيها على قلة عسكره و كثرة عدوه و قتل من الفرنج ألوفا ثم جبى أسد الدين خراج الصعيد و قصد الفرنج الإسكندرية و قد أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب ـ و هو ابن أخي أسد الدين ـ فحاصروها أربعة أشهر فتوجه أسد الدين إليهم فرحلوا عنها فرجع إلى الشام
و في سنة أربع و ستين قصدت الفرنج الديار المصرية في جيش عظيم فملكوا بلبيس و حاصروا القاهرة فأحرقها صاحبها خوفا منهم ثم كاتب السلطان نور الدين يستنجد به فجاء أسد الدين بجيوشه فرحل الفرنج عن القاهرة لما سمعوا بوصوله و دخل أسد الدين فولاه العاضد صاحب مصر الوزارة و خلع عليه فلم يلبث أسد الدين أن مات بعد خمسة و ستين يوما فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب و قلده الأمور و لقبه [ الملك الناصر ] فقام بالسلطنة أتم قيام
و من أخبار المستنجد قال الذهبي : ما زالت الحمرة الكثيرة تعرض في المساء منذ مرض و كان يرى ضوؤها على الحيطان
و ممن مات في أيامه من الأعلام : الديلمي صاحب [ مسند الفردوس ] و العمراني صاحب [ البيان ] ـ من الشافعية و ابن البزري شافعي أهل الجزيرة و الوزير ابن هبيرة و الشيخ عبد القادر الجيلي و الإمام أبو سعيد السمعاني و أبو النجيب السهرودي أبو الحسن بن هزيل المقرئ و آخرون
المستضيء بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله 566 هـ ـ 575 ه
المستضيء بأمر الله : الحسن أبو محمد بن المستنجد بالله ولد سنة ست و ثلاثين و خمسمائة و أمه أم ولد أرمنية اسمها غضة بويع له بالخلافة يوم موت أبيه
قال ابن الجوزي : فنادى برفع المكوس ورد المظالم و أظهر من العدل و الكرم ما لم نره في أعمارنا و فرق ملا عظيما على الهاشميين و العلويين و العلماء و المدارس و الربط و كان دائم البذل للمال ليس له عنده وقع ذا حلم و أناة و رأفة و لما استخلف خلع على أرباب الدولة و غيرهم فحكى خياط المخزن أنه فصل ألفا و ثلثمائة قباء إبر سيم و خطب له على المنابر بغداد و نثرت الدنانير كما جرت العادة و ولي روح بن الحديثي القضاء و أمر سبعة عشر مملوكا و للحيص بيص فيه :
( يا إمام الهدى علوت على الجو ... د بمال و فضة و نضال )
( فوهبت الأعمار و الأمن و البلـ ... دان في ساعة مضت من نهار )
( فماذا يثني عليك و قد جا ... وزت فضل البحور و الأمطار )
( إنما أنت معجز مستقل ... خارق للعقول و الأفكار )
( جمعت نفسك الشريفة بالبأ ... س و بالجود بين ماء و نار )
قال ابن الجوزي : و احتجب المستضيء عن أكثر الناس فلم يركب إلا مع الخدم و لا يدخل عليه غيرهم
و في خلافته انقضت دولة بني عبيد و خطب له بمصر و ضربت السكة باسمه و جاء البشير بذلك فعلقت الأسواق ببغداد و عملت القباب و صنفت كتابا سميته [ النصر على مصر ] هذا كلام ابن الجوزي
و قال الذهبي : في أيامه ضعف الرفض ببغداد و وهى و أمن الناس و رزق سعادة عظيمة في خلافته و خطب له باليمن و برقة و توزر و مصر إلى أسوان و دانت الملوك بطاعته و ذلك سنة سبع و ستين
و قال العماد الكاتب : استفتح السلطان صلاح الدين بن أيوب سنة سبع بجامع مصر كل طاعة و سمع و هو إقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس و عفت البدعة و صفت الشرعة و أقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية بالقاهرة و أعقب ذلك موت العاضد في يوم عاشوراء و تسلم صلاح الدين القصر بما فيه من الذخائر و النفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه و سير السلطان نور الدين بهذه البشارة شهاب الدين المطهر ابن العلامة شرف الدين ابن أبي عصرون إلى بغداد و أمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام
فأنشأت بشارة أولها : الحمد لله معلي الحق و معلنه و موهي الباطل و موهنه و منها : و لم يبق بتلك البلاد منبر إلا و قد أقيمت عليه الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين و تمهدت جوامع الجمع و تهدمت صوامع البدع ـ إلى أن قال : و طالما مرت عليها الحقب الخوالي و بقيت مائتين و ثمان سنين ممنوة بدعوة المبطلين مملوءة بحزب الشياطين فملكنا الله تلك البلاد و مكن لنا في الأرض و أقدرنا على ما كنا نؤمله من إزالة الإلحاد و الرفض
و تقدمنا إلى من استنبناه أن يقيم الدعوة العباسية هنالك و يورد الأدعياء و دعاة الإلحاد بها المهالك
و للعماد قصيدة في ذلك منها :
( قد خطبنا للمستضيء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر )
( و خذلنا لنصره العضد العا ... ضد و القاصر الذي بالقصر )
( و تركنا الدعي يدعوا ثبورا ... و هو تحت حجر و حصر )
و أرسل الخليفة في جواب البشارة الخلع و التشريفات لنور الدين و صلاح الدين و أعلاما و بنودا للخطباء بمصر و سير للعماد الكاتب خلعة و مائة دينار فعمل قصيدة أخرى منها :
( أدالت بمصر لداعي الهدا ... ة و انتقمت من دعي اليهود )
و قال ابن لأثير : السبب في إقامة الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه و ضعف أمر العاضد كتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بذلك فاعتذر بالخوف من وثوب المصريين فلم يضع إلى قوله و أرسل إليه يلزمه بذلك و اتفق أن العاضد مرض فاستشار صلاح الدين أمراءه فمنهم من وافق و منهم من خاف و كان قد دخل مصر أعجمي يعرف بالأمير العالم فلما ما هم فيه من الإحجام قال : أنا أبتدئ بها فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب و دعا للمستضئ فلم ينكر ذلك أحد فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بقطع خطبة العاضد ففعل ذلك و لم ينتطح فيها عنزان ـ و العاضد شديد المرض ـ فتوفي في يوم عاشوراء
و في سنة تسع و ستين أرسل نور الدين الخليفة بتقادم و تحف منها حمار مخطط و ثوب عتابي و خرج الخلق للفرجة عليه و كان فيهم رجل عتابي كثير الدعاوي و هو بليد ناقص الفضيلة فقال رجل : إن كان قد بعث إلينا حمار عتابي فنحن عندنا عتابي حمار
و فيها وقع برد بالسواد كالنارنج هدم الدور و قتل جماعة و كثيرا من المواشي و زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث عرفت بغداد و صليت خارج الجمعة خارج السور و زادت الفرات أيضا و أهلكت قرى و مزارع و ابتهل الخلق إلى الله تعالى و من العجائب أن هذا الماء على هذه الصفة و دجيل قد هلكت مزارعه بالعطش
و فيها مات السلطان نور الدين ـ و كان صاحب دمشق ـ و ابنه الملك الصالح إسماعيل ـ و هو صبي ـ فتحركت الفرنج بالسواحل فصولحوا بمال و هودنوا
و فيها أراد جماعة من شيعة العبيديين و محبيهم إقامة الدعوة و ردها إلى آل العاضد و وافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين فاطلع صلاح الدين على ذلك فصلبهم بين القصرين
و في سنة اثنتين و سبعين أمر صلاح الدين ببناء السور الأعظم المحيط بمصر و القاهرة و جعل على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش
قال ابن الأثير : دورة تسعة و عشرون ألف ذراع و ثلثمائة ذراع بالهاشمي
و فيها أمر بإنشاء قلعة بجبل المقطم ـ و هي التي صارت دار السلطنة ـ و لم تتم إلا في أيام السلطان الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين و هو أول من سكنها
و فيها بنى صلاح الدين تربة الإمام الشافعي
و في سنة أربع و سبعين هبت ببغداد ريح شديدة نصف الليل و ظهرت أعمدة مثل النار في أطراف السماء و استغاث الناس استغاثة شديدة و بقي الأمر على ذلك إلى السحر
و في سنة خمس و سبعين مات الخليفة المستضيء في سلخ شوال و عهد إلى ابنه أحمد
و ممن مات أيام المستضيء من الأعلام : ابن الخشاب النحوي و ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي و الحافظ أبو العلاء الهمذاني و ناصح الدين بن الدهان النحوي و الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر من حفدة الشافعي و الحيض بيص الشاعر و الحافظ أبو بكر بن خير و آخرون
الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله 575 هـ ـ 622 ه
الناصر لدين الله : أحمد أبو العباس بن المستضيء بأمر الله ولد الاثنين عاشر رجب سنة ثلاث و خمسين و خمسمائة و أمه أم ولد تركية اسمها زمرد و بويع له عند موت أبيه في مستهل ذي القعدة سنة خمس و سبعين و أجاز له جماعة : منهم أبو الحسين عبد الحق اليوسفي و أبو الحسن علي بن عساكر البطايحي و شهدة و أجاز هو لجماعة فكانوا يحدثون عنه في حياته و يتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا في الإسناد
و قال الذهبي : و لم يل الخلافة أحد أطول مدة منه فإنه أقام فيها سبعة و أربعين سنة و لم تزل مدة حياته في عز و جلالة و قمع الأعداء و استظهار على الملوك و لم يجد ضيما و لا خرج عليه خارجي إلا قمعه و لا مخالف إلا دفعه و كل من أضمر له سوءا رماه الله بالخذلان و كان ـ مع سعادة جده ـ شديد الاهتمام بمصالح الملك لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم و صغارهم و أصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة و الباطنة و كانت له حيل لطيفة و مكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد يوقع الصداقة بين ملوك متعادين و هم لا يشعرون و يوقع العداوة بين ملوك متفقين و هم لا يفطنون و لما دخل رسول صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل فصار يبالغ في التكتم و الورقة تأتيه بذلك فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر فصبحته الورقة بذلك و فيها [ كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة ] فتحير و خرج من بغداد و هو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل و ما وراء الجدار و أتى رسول خوارزم شاه برسالة مخفية و كتاب مختوم فقيل له ارجع فقد عرفنا ما جئت به فرجع و هو يظن أنهم يعلمون الغيب
قال الذهبي : قيل : إن الناصر كان مخدوما من الجن
و لما ظهر خوارزم شاه بخراسان و ما وراء النهر و تجبر و طغى و استعبد الملوك الكبار و أباد أمما كثيرة و قطع خطبة بني العباس من بلاده و قصد بغداد فوصل إلى همذان فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يوما فغطاهم في غير أوانه فقال له بعض خواصه : إن ذلك غضب من الله حيث قصدت بيت الخلافة
و بلغه أن أمم الترك قد تألبوا عليه و طمعوا في البلاد لبعده عنها فكان ذلك سبب رجوعه و كفي الناصر شره بلا قتال
و كان الناصر إذا أطعم أشبع و إذا ضرب أوجع و له مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر
و وصل إليه رجل معه ببغاء تقرأ { قل هو الله أحد } تحفه للخليفة من الهند فأصبحت ميتة و أصبح حيران فجاءه فراش يطلب منه الببغاء فبكى و قال : الليلة ماتت فقال : قد عرفنا هاتها ميتة و قال : كم كان ظنك أن يعطيك الخليفة ؟ قال : خمسمائة دينار قال : هذه خمسمائة دينار خذها فقد أرسلها إليك الخليفة فإنه أعلم بحالك منذ خرجت من الهند و كان صدر جهان قد صار إلى بغداد و معه جماعة من الفقهاء و واحد منهم لما خرج من داه من سمرقند على فرس جميلة فقال له أهله : لو تركتها عندنا لئلا تؤخذ منك في بغداد فقال : الخليفة لا يقدر أن يأخذها مني فأمر بعض القوادين أنه حين يدخل بغداد يضربه و يأخذها منه و يهرب في الزحمة ففعل فجاء الفقيه يستغيث فلا يغاث فلما رجعوا من الحج خلع على صدر جهان و أصحابه و خلع على ذلك الفقيه و قدمت له فرسه و عليها سرج من ذهب و طوق و قيل له : لم يأخذ فرسك الخليفة إنما أخذها أتوني فخر مغشيا عليه و أسجل بكرامتهم و قال الموفق عبد اللطيف : كان الناصر قد ملأ القلوب هيبة و خيفة فكان يرهبه أهل الهند و مصر كما يرهبه أهل بغداد فأحيا بهيبته الخلافة و كانت قد ماتت بموت المعتصم ثم مات بموته
و كان الملوك و الأكابر بمصر و الشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة و إجلالا و ورد بغداد تاجر و معه قناع دمياط المذهب فسألوه عنه فأنكر فأعطي علامات فيه : من عدده و ألوانه و أصنافه فازداد إنكاره فقيل له : من العلامات أنك نقمت على مملوكك التركي فلان فأخذته إلى سيف بحر دمياط في خلوة و قتلته و دفنته هناك و لم يشعر بذلك أحد
قال ابن النجار : دانت السلاطين للناصر و دخل في طاعته من كان المخالفين و ذلت له العتاة و الطغاة و انقهرت بسيفه الجبابرة و اندحض أعداؤه و كثر أنصاره و فتح البلاد العديدة و ملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن الخلفاء و الملوك و خطب له ببلاد الأندلس و بلاد الصين و كان أشد بني العباس تنصدع لهيبته الجبال و كان حسن الخلق لطيف الخلق كامل الظرف فصيح اللسان بليغ البيان له التوقيعات المسددة و الكلمات المؤيدة و كانت أيامه غرة في وجه الدهر و درة في تاج الفخر و قال ابن واصل : كان الناصر شهما شجاعا ذا فكرة صائبه و عقل رصين و مكر و دهاء و له أصحاب أخبار في العراق و سائر الأطراف يطالعونه بجزئيات الأمور حتى ذكر أن رجلا ببغداد عمل دعوة و غسل يده قبل أضيافه فطالع صاحب الخبر الناصر بذلك فكتب في جواب ذلك [ سوء أدب من صاحب الدار و فصول من كاتب المطالعة ] قال : و كان مع ذلك رديء السيرة في الرعية مائلا إلى الظلم و العسف ففارق أهل البلاد بلادهم و أخذ أموالهم و أملاكم و كان يفعل أفعالا متضادة و كان يتشيع و يميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه حتى ان ابن الجوزي سئل بحضرته : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : أفضلهم بعده من كانت ابنته تحته و لم يقدر أن يصرح بتفضيل أبي بكر
و قال ابن الأثير : كان الناصر سيء السيرة خربت في أيامه العراق مما أحدثه من الرسوم و أخذ أموالهم و أملاكهم و كان يفعل الشيء و ضده و كان يرمي بالبندق و يغوي الحمام
و قال الموفق عبد اللطيف : و في وسط ولايته اشتعل برواية الحديث و استناب نوابا في الإجازة عنه و التسميع و أجرى عليهم جرايات و كتب للملوك و العلماء إجازات و جمع كتابا سبعين حديثا و وصل إلى حلب و سمعه الناس
قال الذهبي : أجاز الناصر لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه : منهم ابن سكينة و ابن الأخضر و ابن النجار و ابن الدمغاني و آخرون
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي و غيره : قل بصر الناصر في آخر عمره و قيل ذهب كله و لم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير و أهل الدار و كان له جارية قد علمها الخط بنفسه فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع
و قال شمس الدين الجزري : كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ و يغلى سبع غلوات كل يوم غلوة ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام ثم يشرب منه و مع هذا ما مات حتى سقي المرقد مرات و شق ذكره و أخرج منه الحصى و مات منه يوم الأحد سلخ رمضان سنة اثنتين و عشرين و ستمائة : و من لطائفه أن خادما له اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب فوقع فيها :
بمن يمن يمن بمن ثمن ثمن
و لما تولى الخليفة بعث إلى السلطان صلاح الدين بالخلع و التقليد و كتب إليه السلطان كتابا يقول فيه : و الخادم ـ و لله الحمد ـ يعدد سوابق في الإسلام و الدولة العباسية لا يعمرها أولية أبي مسلم لأنه والى ثم وارى و لا آخرية طغرلبك لأنه نصر ثم حجر و الخادم من كان ينازع رداءها و أساغ الغصة التي أذخر الله للأساغة في سيفه ماءها فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر و أعز بتأييد إبراهيمي فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الطاهر
و من الحوادث في أيامه : منشوره في سنة سبع و سبعين و خمسمائة أرسل الملك الناصر يعاتب السلطان صلاح الدين في تسميه بالملك الناصر مع علمه أن الخليفة اختار هذه التسمية لنفسه
و في سنة ثمانين جعل الخليفة مشهد موسى الكاظم أمنا لمن لاذ به فالتجأ إليه خلق و حصل بذلك مفاسد
و في سنة إحدى و ثمانين ولد بالعلث ولد طول جبهته شبر و أربع أصابع و له أذن واحدة
و فيها وردت الأخبار بأنه خطب للناصر بمعظم بلاد المغرب
و في سنة اثنتين و ثمانين اجتمع الكواكب الستة في الميزان فحكم المنجمون بخراب العالم في جميع البلاد بطوفان الريح فشرع الناس في حفر مغارات في التخوم و توثيقها و سد منافسها على الريح و نقلوا إليها الماء و الزاد و انتقلوا إليها و انتظروا الليلة التي وعدوا فيها بريح كريح عاد و هي الليلة التاسعة من جمادى الآخرة فلم يأت فيها شيء و لا هب فيها نسيم بحيث أوقدت الشموع فلم يتحرك فيها ريح تطفئها و عملت الشعراء في ذلك فمما قيل فيه قول أبي الغنائم محمد بن المعلم :
( قل لأبي الفضل قول متعرف ... مضى جمادى و جاءنا رجب )
( و ما جرت زعزع كما حكموا ... و لا بدا كوكب له ذنب )
( كلا و لا أظلمت ذكاء و لا ... بدت إذن في قرونها الشهب )
( يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب )
( قد بان كذب المنجمين و في ... أي مقال قالوا فما كذبوا ؟ )
و في سنة ثلاث و ثمانين اتفق أن أول يوم في السنة كان أول أيام الأسبوع و أول السنة الشمسية و أول سني الفرس و الشمس القمر في أول البروج و كان ذلك من الاتفاقات العجيبة
و فيها كانت الفتوحات الكثيرة أخذ السلطان صلاح الدبين كثيرا من البلاد الشامية التي كانت بيد الفرنج و أعظم ذلك بيت المقدس و كان بقاؤه في يد الفرنج إحدى و تسعين سنة و أزال السلطان ما أحدثه الفرنج من الآثار و هدم ما أحدثوه من الكنائس و بنى موضع كنيسة منها مدرسة للشافعية فجزاه الله عن الإسلام خيرا و لم يهدم القمامة اقتداء بعمر رضي الله عنه حيث لم يهدمها لما فتح بيت المقدس و قال في ذلك محمد بن أسعد النسابة :
( أترى مناما ما يعيني أبصر ... القدس يفتح و النصارى تكسر )
( و قمامة قمت من الرجس الذي ... بزواله و زالها يتطهر )
( و مليكهم في القيد مصفود و لم ... ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر )
( قد جاء نصر الله و الفتح الذي ... وعد الرسول فسبحوا و استغفروا )
( يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فا روقها عمر الإمام الأطهر )
و من الغرائب أن ابن برجان ذكر في تفسيره { الم * غلبت الروم } أن بيت المقدس يبقى في يد الروم إلى سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة و ثم يغلبون و يفتح و يصير دار إسلام إلى آخر الأبد و أخذ من حساب الآية فكان ذلك
قال أبو شامة : و هذا الذي ذكره ابن برجان من عجائب ما اتفق و قد مات ابن برجان قبل ذلك بدهر فإن وفاته سنة ست و ثلاثين و خمسمائة
و في سنة تسع و ثمانين مات السلطان صلاح الدين رحمه الله فوصل إلى بغداد الرسول و في صحبته لأمة الحرب التي لصلاح الدين و فرسه و دينار واحد و ستة و ثلاثون درهما لم يخلف من المال سواها و استقرت مصر لابنه عماد الدين عثمان الملك العزيز و دمشق لابنه الملك الأفضل نور الدين علي و حلب لابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي
و في سنة تسعين مات السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان بن طغرلبك بن محمد بن ملك شاه و هو آخر ملوك السلجوقية
قال الذهبي : و كان عددهم نيفا و عشرين ملكا و أولهم طغرلبك الذي أعاد القائم إلى بغداد و مدة دولتهم مائة و ستون سنة
و في سنة خمسمائة و اثنتين و تسعين هبت ريح سوداء بمكة عمت الدنيا و وقع على الناس رمل أحمر و وقع من الركن اليماني قطعة
و فيها عسكر خوارزم شاه فعدا جيحون في خمسين ألفا و بعث إلى الخليفة يطلب السلطنة و إعادة دار السلطنة إلى ما كانت و أن يجيء إلى بغداد و يكون الخليفة تحت يده كما كانت الملوك السلجوقية فهدم الخليفة دار السلطنة و رد رسوله بلا جواب ثم كفي شره كما تقدم
و في سنة ثلاث و تسعين انقض كوكب عظيم سمع لا نقضاضه صوت هائل و اهتزت الدور و الأماكن فاستغاث الناس و أعلنوا بالدعاء و ظنوا ذلك من أمارات القيامة
و في سنة خمس و تسعين مات الملك العزيز بمصر و أقيم ابنه المنصور بدله فوثب الملك العادل سيف الدين أيو بكر بن أيوب و تملكها ثم أقام بها ابنه الملك الكامل
و في سنة ست و تسعين توقف النيل بمصر بحيث كسرها و لم يكمل ثلاثة عشر ذراعا و كان الغلاء المفرط بحيث كسرها بحيث أكلوا الجيف و الآدمين و فشا أكل بني آدم و اشتهر و رئي من ذلك العجب العجاب و تعدوا إلى حفر القبور و أكل الموتى و تمزق أهل مصر كل ممزق و كثر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو من هو في السياق و هلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار و يجد البيوت مفتحة و أهلها موتى
و قد حكى الذهبي في ذلك حكايات يقشعر الجلد من سماعها قال : و صارت الطرق مزرعة بالموتى و صارت لحومها للطير و السباع و بيعت الأحرار و الأولاد بالدارهم اليسيرة و استمر ذلك إلى أثناء سنة ثمان و تسعين
و في سنة سبع و تسعين جاءت زلزلة كبرى بمصر و الشام و الجزيرة فأخربت أماكن كثيرة و قلاعا و خسفت قرية من أعمال بصرى
و في سنة تسع و تسعين في سلخ المحرم ماجت النجوم و تطايرت تطاير الجراد و دام ذلك إلى الفجر و انزعج الخلق و ضجوا إلى الله تعالى و لم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم
و في سنة ستمائة هجم الفرنج إلى النيل من رشيد و دخلوا بلد فوة فنهبوها و استباحوها و رجعوا
و في سنة إحدى و ستمائة تغلبت الفرنج على القسطنطينية و أخرجوا الروم منها و كانت بأيدي الروم من قبل الإسلام و استمرت بيد الفرنج إلى سنة ستين و ستمائة فاستطلقها منهم الروم
و فيها ـ أي في سنة إحدى و ستمائة ـ ولدت امرأة بقطيعاء ولدا برأسين و يدين و اربعة أرجل و لم يعش
و في سنة ست و ستمائة كان ابتداء أمر التتار و سيأتي شرح حالهم
و في سنة خمس عشرة أخذت الفرنج من دمياط برج السلسلة
قال أبو شامة : و هذا البرج كان قفل الديار المصرية و هو برج عل في وسط النيل و دمياط بحذائه من شرقيه و الجزيرة بحذائه من غربيه و في ناحيته سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط و الأخرى على النيل إلى الجزيرة تمنعان عبور المراكب من البحر المالح
و في سنة عشرة أخذت الفرنج دمياط بعد حروب و محاصرات و ضعف الملك الكامل عن مقاومتهم فبدعوا فيها و جعلوا الجامع كنيسة فابتنى الملك الكامل مدينة عند مفرق البحرين سموها المنصورة و بنى عليها سورا و نزلها بجيشه و في هذه السنة كاتبه قاضي ركن الظاخر و كان الملك المعظم صاحب دمشق في نفسه منه فأرسل له بقجة فيها قباء و كلوته و أمره بلبسها بين الناس في مجلس حكمه فلم يمكنه الامتناع ثم قام و دخل داره و لزم بيته و مات بعد أشهر قهرا و رمى قطعا من كبده و تأسف الناس لذلك و اتفق أن الملك المعظم أرسل في عقب ذلك إلى الشرف بن عنين حين تزهد خمرا و بردا و قال : سبح بهذا فكتب إليه يقول :
( يا أيها الملك المعظم سنة ... أحدثتها تبقى على الآباد )
( تجري الملوك على طريقك بعدها ... خلع القضاة و تحفة الزهاد )
و في سنة إحدى و عشرين بنيت دار الحديث الكاملية بالقاهرة بين القصرين و جعل شيخها أبا الخطاب بن دحية و كانت الكعبة تكسى الديباج الأبيض من أيام المأمون إلى الآن فكساها الناصر ديباجا أخضر ثم كساها ديباجا أسود فاستمر إلى الآن
و ممن مات في أيام الناصر من الأعلام : الحافظ أبو طاهر السلفي و أبو الحسن بن القصار اللغوي و الكمال أبو البركات بن الأنباري و الشيخ أحمد بن الرفاعي الزاهد و ابن بشكوال و يونس والد يونس الشافعي و أبو بكر بن طاهر الأحدب النحوي و أبو الفضل والد الرافعي و ابن ملكون النحوي و عبد الحق الإشبيلي صاحب [ الأحكام ] و أبو زيد السهيلي صاحب [ الروض الأنف ] و الحافظ أبو موسى المديني و ابن بري اللغوي و الحافظ أبو بكر الحازمي و الشرف ابن أبي عصرون و ابو القاسم البخاري والعتابي صاحب [ الجامع الكبير ] ـ من كبار الحنيفة و النجم الحبوشاني المشهور بالصلاح و أبو القاسم بن فيرة الشاطبي صاحب القصيدة و فخر الدين أبو شجاع محمد ابن علي بن شعيب بن الدهان الفرضي أول من وضع الفرائض على شكل المنبر و الرهان المرغيناني صاحب [ الهداية ] ـ من الحنفية و قاضيخان صاحب الفتاوي منهم و عبد الرحيم بن حجون الزاهد بالصعيد و أبو الوليد بن رشد صاحب العلوم الفلسفية و أبو بكر بن زهر الطبيب و الجمال بن فضلان من الشافعية و القاضي الفاضل صاحب الإنشاء و الترسل و الشهاب الطوسي و أبو الفرج بن الجوزي و العماد الكاتب و ابن عظيمة المقري و الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب [ العمدة ] و البركي الطاوسي صاحب الخلاف و تميم الحلي و أبو ذر الخشني النحوي و الإمام فخر الدين الرازي و أبو السعادات ابن الأثير صاحب [ جامع الأصول ] و [ نهاية الغريب ] و العماد بن يونس صاحب شرح الوجيز و الشرف صاحب [ التنبيه ] و الحافظ أبو الحسن بن المفضل و أبو محمد بن حوط الله و أخوه أبو سليمان و الحافظ عبد القادر الرهاوي و الزاهد أبو الحسن بن الصباغ بقنا و الوجيه ابن الدهان النحوي و تقي الدين ابن المقترح و أبو اليمن الكندي النحوي و المعين الحاجري صاحب [ الكفاية ] ـ من الشافعية و الركن العميدي صاحب الطريقة في الخلاف و أبو البقاء العكبري صاحب [ الإعراب ] و ابن أبي أصيعبة الطبيب و عبد الرحيم بن السمعاني و نجم الدين الكبرى و ابن أبي الصيف اليمني و موفق الدين بن قدامة الحنبلي و فخر الدين بن عساكر و خلائق آخرون
الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله 622 هـ ـ 623 ه
الظاهر بأمر الله : أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله
ولد سنة إحدى و سبعين و خمسمائة و بايع له أبوه بولاية العهد و استخلف عند موت والده و هو ابن اثنتين و خمسين سنة فقيل له : ألا تتفسح ؟ قال : لقد يبس الزرع فقيل : يبارك الله في عمرك قال : من فتح دكانا بعد العصر إيش يكسب ؟
ثم إنه أحسن إلى الرعية و أبطل المكوس و أزال المظالم و فرق الأموال ذكر ذلك أبو شامة
و قال ابن الأثير في الكامل : لما ولي الظاهر الخلافة أظهر من العدل و الإحسان ما أعاد به سنة العمرين فلو قيل : إنهما ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا فإنه أعاد من الأموال المغصوبة و الأملاك المآخوذة في أيام أبيه و قبلها شيئا كثيرا و أبطل المكوس في البلاد جميعها و أمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق و بإسقاط جميع ما جدده أبوه و كان ذلك كثيرا لا يحصى
فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديما عشرة آلاف دينار فلما استخلف الناصر كان يؤخذ منها في السنة ثمانون ألف دينار فاستغاث أهلها فأعادها الظاهر إلى الخراج الأول
و لما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق و ذكروا أن أملاكهم قد يبست أكثر أشجارها و خربت فأمر أن لا يؤخذ إلا من كل شجرة سالمة
و من عدله أن صنجة الخزانة كانت راجحة نصف قيراط في المثقال يقبضون بها و يعطون بصنجة البلد فخرج خطه إلى الوزير و أوله { ويل للمطففين } الآيات و فيه : قد بلغنا أن الأمر كذا و كذا فتعاد صنجة الخزانة إلى ما يتعامل به الناس فكتبوا إليه أن هذا فيه تفاوتا كثيرا و قد حسبنا في العام الماضي فكان خمسة و ثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل و يقول : يبطل و لو أنه ثلثمائة ألف و خمسون ألف دينار
و من عدله أن صاحب الديوان قدم من واسط و معه أزيد من مائة ألف دينار من ظلم فردها على أربابها و أخرج أهل الحبوس و أرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليوفيها عمن أعسر و فرق ليلة عيد النحر على العلماء و الصلحاء مائة ألف دينار و قيل له : هذا الذي تخرجه من الأموال لا تسمح نفس ببعضه فقال : أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم بقيت أعيش ؟
و وجد في بيت من داره ألوف رقاع كلها مختومة فقيل له : لم لا تفتحها ؟ قال : لا حاجة لنا فيها كلها سعايات و هذا كله كلام ابن الأثير
و قال سبط ابن الجوزي : لما دخل إلى الخزائن قال له خادم : كانت في أيام آبائك تمتلىء فقال : ما جعلت الخزائن لتمتلىء بل تفرغ و تنفق في سبيل الله فإن الجمع شغل التجار ؟
و قال ابن واصل : أظهر العدل و أزال المكس و ظهر للناس و كان أبوه لا يظهر إلا نادرا
توفي رحمه الله في ثالث عشر رجب سنة ثلاث و عشرين فكانت خلافته تسع أشهر و أياما
و قد روى الحديث عن والده بالإجازة ورى عنه أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي
و لما توفي اتفق خسوف القمر مرتين في السنة فجاء ابن الأثير نصر الله رسولا من صاحب الموصل برسالة في التعزية ـ أولها :
ما لليل و النهار لا يعتذران و قد عظم حادثهما و ما للشمس و القمر لا ينكسفان و قد فقد ثالثهما :
( فيا وحشة الدنيا و كانت أنيسة ... و وحدة من فيها لمصرع واحد )
و هو سيدنا و مولانا الإمام الظاهر أمير المؤمنين الذي جعلت ولايته رحمة للعالمين إلى آخر الرسالة
المستنصر بالله منصور بن الظاهر بأمر الله 623 هـ ـ 640ه
المستنصر بالله : أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله
ولد في صفر سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة و أمه جارية تركية
قال ابن النجار : و بويع بعد موت أبيه في رجب سنة ثلاث و عشرين و ستمائة فنشر العدل في الرعايا و بذل الإنصاف في القضايا و قرب أهل العلم و الدين و بنى المساجد و الربط و المدارس و المارستانات و أقام منار الدين و قمع المتمردة و نشر السنن و كف الفتن و حمل الناس على أقوم سننن و قام بأمر الجهاد أحسن قيام و جمع الجيوش لنصرة الإسلام و حفظ الثغور و افتتح الحصون
وقال الموفق عبد اللطيف : بويع أبو جعفر فسار السيرة الجميلة و عمر طرق المعروف الدائرة و أقام شعار الدين و منار الإسلام و اجتمعت القلوب على محبته و الألسن على مدحه و لم يجد أحد من المتعنتة فيه معابا
و كان جدة الناصر يقربه و يسميه القاضي لهداه و عقله و إنكار ما يجده من المنكر
و قال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري : كان المستنصر راغبا في فعل الخير مجتهدا في تكثير البر و له في ذلك آثار جميلة و أنشأ المدرسة المستنصرية و رتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم
و قال ابن واصل : بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بني على وجه الأرض أحسن منها و لا أكثر منها و قوفا و هي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة و عمل فيها مارستانا و رتب فيها مطبخا للفقهاء و مزملة للماء البارد و رتب لبيوت الفقهاء الحصر و البسط و الزيت و الورق و الحبر و غير ذلك و للفقيه بعد ذلك في الشهر دينارا و رتب لهم حماما و هو أمر لم يسبق إلى مثله و استخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه و لا جده و كان ذا همة عالية و شجاعة و إقدام عظيم و قصدت التتار البلد فلقيهم عسكره فهزموا التتار هزيمة عظيمة و كان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة و كان يقول : لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون و آخذ البلاد من أيدي التتار و استأصلهم فلما مات المستنصر لم الدويدار و لا الشرابي تقليد الخفاجي خوفا منه و أقاما ابنه أبا أحمد للينه و ضعف رأيه ليكون لهم الأمر ليقضي الله أمرا كان مفعولا من هلاك المسلمين في مدته و تغلب التتار فإنا لله و إنا إليه راجعون
قال الذهبي و قد بلغ ارتفاع وقوف المستنصرية في العام نيفا و سبعين ألف مثقال و كان ابتداء عمارتها في سنة خمس و عشرين و تمت في سنة إحدى و ثلاثين و نقل إليها الكتب و هي مائة و ستون حملا من الكتب النفسية و عدد فقهائها مائتان و ثمانية و أربعون فقيها من المذاهب الأربعة و أربعة مدرسين و شيخ حديث و شيخ نحو و شيخ طب و شيخ فرائض و رتب فيها الخبز و الطبيخ و الحلاوة و الفاكهة و جعل فيها ثلاثين يتيما و وقف عليها ما لا يعبر عنه كثرة ـ ثم سرد الذهبي القرى و الرباع الموقوفة عليها ـ و قال : و فتحت يوم الخميس في رجب و حضر القضاة و المدرسون و الأعيان و سائر الدولة و كان يوما مشهودا
و من الحوادث في أيام المستنصر : في سنة ثمان وعشرين أمر الملك الأشراف صاحب دمشق ببناء دار الحديث الأشرفية و فرغت في سنة ثلاثين
و في سنة اثنتين و ثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير و أحضر الولاة و التجار و الصيارفة و فرشت الأنطاع و أفرغ عليها الدراهم و قال الوزير : قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذه الدراهم عوضا عن قراضة الذهب رفقا بكم و إنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي فأعلنوا بالدعاء ثم أديرت بالعراق و سعرت كل عشرة بدينار فقال الموفق أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد :
( لا عدمنا جميل رأيك فينا ... أنت باعدتنا عن التطفيف )
( و رسمت اللجين حتى ألفتاه ... و ما كان قبل بالمألوف )
( ليس للجمع كان منعك للصر ... ف و لكن للعدل و التعريف )
و في سنة خمس و ثلاثين و ستمائة ولي قضاء دمشق شمس الدين أحمد الجوني و هو أول قاضي رتب الشهود بالبلد و كان قبل ذلك يذهب الناس إلى بيوت العدول يشهدونهم
و فيها مات الإخوان السلطان الأشرف صاحب دمشق و الكامل صاحب مصر بعده بشهرين و تسلطن بمصر ولد الكامل قلامة و لقب العادل ثم خلع و تملك أخوه الصالح أيوب نجم الدين
و في سنة سبع و ثلاثين و ستمائة ولي خطابة دمشق الشيخ عزالدين بن عبد السلام فخطب خطبة عرية من البدع و أزال الأعلام المذهبة و أقام هو عوضها سودا بأبيض و لم يؤذن قدامه سوى مؤذن واحد و فيها رسول الأمين الذي تملك اليمن نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني إلى الخليفة يطلب تقليد السلطنة باليمن بعد موت الملك المسعود ابن الملك الكامل و بقي الملك في بيته إلى سنة خمسة و ستين و ثمانمائة
و في سنة تسع و ثلاثين و ستمائة بنى الصالح صاحب مصر المدرسة التي بين القصرين و القلعة التي بالروضة ثم أخرب غلمانه القلعة المذكورة سنة إحدى و خمسين و ستمائة
و في سنة أربعين و ستمائة توفي المستنصر يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة و رثاه الشعراء فمن ذلك قول صفي الدين عبد الله بن جميل
و من مناقب المستنصر أن الوجيه القيرواني مدحه بقصيدة يقول فيها :
( لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ... كنت المقدم و الإمام الأورغا )
فقال له قائل بحضرته : أخطأت قد كان حاضرا العباس جد أمير المؤمنين و لم يكن المقدم إلا أبو بكر فأقر ذلك المستنصر و خلع على قائل ذلك خلعة و أمر بنفي الوجيه فخرج إلى مصر حكاها الذهبي
و ممن مات في أيام المستنصر من الأعلام : الإمام أبو القاسم الرافعي و الجمال المصري و ابن معزوز النحوي و ياقوت الحموي و السكاكي صاحب [ المفتاح ] و الحافظ أبو الحسن بن القطان و يحيى بن معطي صاحب [ الأليفة ] في النحو و الموفق عبد اللطيف البغدادي و الحافظ أبو بكر بن نقطة و الحافظ عزالدين علي بن الأثير صاحب [ التاريخ و الأنساب و أسد الغابة ] و ابن عتبي الشاعر و السيف الآمدي و ابن فضلان و عمر بن الفرض صاحب التائية و الشهاب السهرودي صاحب [ عوارف المعارف ] و البهاء بن شداد و أبو العباس العوفي صاحب المولد النبوي و العلامة أبو الخطاب بن دحية و أخوه أبو عمرو و الحافظ أبو الربيع بن سالم صاحب [ الاكتفاء ] في المغازي و ابن الشواء الشاعر و الحافظ زكي الدين البرزالي و الجمال الحصري شيخ الحنفية و الشمس الجوبي و الحراني أبو عبد الله الزيني و أبو البركات ابن المستوفي و الضياء بن الأثير صاحب [ المثل السائر ] و ابن عربي صاحب [ الفصوص ] و الكمال بن يونس شارح [ التنبيه ] و خلائق آخرون
المستعصم عبد الله بن المستنصر بالله [ قتيل التتار ] 640 هـ ـ 659ه
المستعصم بالله : أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله آخر الخلفاء العراقيين
ولد سنة تسع و ستمائة و أمه أم ولد اسمها هاجر و بويع له بالخلافة عند موت أبيه أجاز على يد ابن النجار المؤيد الطوسي و أبو روح الهروي و جماعة و روى عنه بالإجازة جماعة : منهم النجم البادرائي و الشرف الدمياطي و خرج له الدمياطي أربعين حديثا رأيتها بخطه و كان كريما حليما سليم الباطن حسن الديانة
قال الشيخ قطب الدين : كان متدينا متمسكا بالسنة كأبيه و جده و لكنه لم يكن مثلهما في التيقظ و الحزم و علو الهمة و كان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة و الشهامة و كان يقول : إن ملكني الله الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون و أنتزع البلاد من التيار و أستأصلهم فلما توفي المستنصر لم ير الدوايدار و الشرابي و الكبار تقليد الخفاجي الأمر و خافوا منه و آثروا المسشتعصم للينه و انقياده ليكون لهم الأمر فأقاموه ثم ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي فأهلك الحرث و النسل و لعب بالخليفة كيف أراد و باطن التتار و ناصحهم و أطمعهم في المجيء إلى العراق و أخذ بغداد و قطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل علي و صار إذا جاء خبر منهم كنمه عن الخليفة و يطالع بأخبار الخليفة التيار إلى أن حصل ما حصل
و في سنة سبع و أربعين من أيامه أخذت الفرنج دمياط و السلطان الملك صالح مريض فمات ليلة نصف شعبان فأخفت جاريته أم خليل المسماة [ شجرة الدر ] موته و أرسلت إلى ولده توران شاه الملك المعظم فحضر ثم لم يلبث أن قتل في المحرم سنة ثمان و أربعين و ستمائة و ثب عليه غلمان أبيه فقتلوه و أمروا عليهم جارية أبيه [ شجرة الدر ] و حلف لها الأتراك و لنائبها عزالدين أيبك التركماني فشرعت [ شجرة الدر ] في الخلع للأمراء و الأعطيات
ثم استقل عز الدين بالسلطنة في ربيع الآخر و لقب [ الملك المعز ] ثم تنصل منها و حلف العسكر للملك الأشراف بن صلاح الدين يوسف بن مسعود بن الكامل و له ثمان سنين و بقي عز الدين أتابكه و خطب لهما و ضربت السكة باسمها
و في هذه السنة ـ أعني سنة ثمان ـ أستردت دمياط من الفرنج
و في سنة اثنتين و خمسين و ستمائة ظهرت نار في أرض عدن و كان يطير شررها في الليل إلى البحر و يصعد منها دخان عظيم في النهار
و فيها أبطل المعز اسم الملك الأشرف و استقل بالسلطنة
و في سنة أربع و خمسين ظهرت النار بالمدينة النبوية
قال أبو شامة : جاءنا كتب من المدينة فيها : لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة ظهر بالمدينة دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر فظهرت نار غظيمة في الحرة قريبا من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا و سالت أودية منها إلى وادي شطا سيل الماء و طلعنا نبصرها فإذا الجبال و طار منها شرر كالقصر إلى أن أبصر ضوؤها من مكة و من الفلاة جميعها و اجتمع الناس كلهم إلى القبر الشريف مستغفرين تائبين و استمرت هكذا أكثر من شهر
قال الذهبي : أمر هذه النار متواتر و هي مما أخبر به المصطفى صلى الله عليه و سلم حيث قال : [ لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ] و قد حكى غير واحد ممن كان ببصرى في الليل و رأى أعناق الإبل في ضوئها
و في سنة خمس و خمسين و ستمائة مات المعز أيبك سلطان مصر قتلته زوجته [ شجرة الدر ] و سلطنوا بعده ولده الملك المنصور على هذا و التتار جائلون في البلاد و شرهم متزايد و نارهم تستعر و الخليفة في غفلة عما يراد بهم و الوزير العلقمي حريص على إزالة الدولة العباسية و نقلها إلى العلوية و الرسل في السر بينه و بين التتار و المستعصم تائه في لذاته لا يطلع على الأمور و لا له غرض في المصلحة
و كان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جدا و كان مع ذلك يصانع التتار و يهاودنهم و يرضيهم فلما استخلف المستعصم كان خليا من الرأي و التدبير فأشار عليه الوزير بقطع أكثر الجند و أن مصانعة التتار و إكرامهم يحصل به المقصود ففعل ذلك
ثم إن الوزير كاتب التتار و أطمعهم في البلاد و سهل عليهم ذلك و طلب أن يكون نائبهم فوعدوه بذلك و تأهبوا لقصد بغداد
شرح حال التتار و وقائعهم قال الموفق عبد اللطيف في خبر التتار : هو حديث يأكل الأحاديث و خبر يطوي الأخبار و تاريخ ينسي التواريخ و نازلة تصغر كل نازلة و فادحة تطبق الأرض و تملؤها ما بين الطول و العرض
و هذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند لأنهم في جوارهم و بينهم و بين مكة أربعة أشهر و هم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه و اسعوا الصدور خفاف الأعجاز صغار الأطراف سمر الألوان سريعو الحركة في الجسم و الرأي تصل إليهم أخبار الأمم و لا تصل أخبارهم إلى الأمم و قلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم لأن الغريب لا يتشبه بهم و إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم و نهضوا دفعة واحدة فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه و لا عسكر حتى يخالطوه فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل و تضيق طرق الهرب و نساؤهم يقاتلن كرجالهم و الغالب على سلاحهم النشاب و أكلهم أي لحم و جد و ليس في قتلهم استسناء و لا إبقاء يقتلون الرجال و النساء و الأطفال و كان قصدهم إفناء النوع و إبادة العالم و لا قصد الملك و المال
و قال غيره : أرض التتار بأطراف بلاد الصين و هم سكان براري و مشهورون بالشر و الغدر
و سبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر و ست مماليك و لهم ملك حاكم على المماليك الست هو القان الأكبر المقيم بمطمفاج و هو كالخليفة للمسلمين
و كان سلطان إحدى المماليك الست و هو [ دوش خان ] قد تزوج بعمة جنكزخان فحضر زائرا لعمته و قد مات زوجها و كان قد حضر مع جنكزخان كشلوخان فأعلمتها أن الملك لم يخلف والدا أشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه فقام و انضم إليه خلق من المغول ثم سير التقادم إلى القان الأكبر فاستشاط غيظا و أمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت و طردها و قتل الرسل لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة يتملك إنما هم بادية الصين فلما سمع جنكزخان و صاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد و أظهرا الخلاف للقان و أتتها أمم كثيرة من التتار و علم القان قوتهم و شرهم فأرسل يؤانسهم و يظهر مع ذلك أن ينذرهم و يهددهم فلم يغن ذلك شيئا ثم قصدهم و قصدوه فوقع بينهم ملحمة عظيمة فكسروا القان الأعظم و ملكوا بلاده و استفحل شرهم و ستمر الملك بين جنكزخان و كشلوخان على المشاركة
ثم سار إلى بلاد شاقون من نواحي الصين فملكاها فمات كشلوخان فقام مقامه ولده فاستضعفه جنكزخان فوثب عليه ز ظفر به و استقل جنكزخان و دانت له التتار و انقادت له و اعتقدوا فيه الإلهية و بالغوا في طاعته ثم كان أول خروجهم في سنة ست و ستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك و فرغانة فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان الذي أباد الملوك و أخذ المماليك و عزم على قصد الخليفة فلم يتهيأ كما تقدم فأمر أهل فرغانة و الشاش و كاسان و تلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء و الجفلى إلى سمرقند و غيرها ثم خربها جميعا خوفا من التتار أن يملكوها لعلمه أنه لا طاقة له بهم
ثم صارت التتار يتخطفون و ينتقلون إلى سنة خمس عشرة فأرسل فيها جنكزخان إلى السلطان خوارزم شاه رسلا و هدايا و قال الرسول : إن القان الأعظم يسلم عليك و يقول لك : ليس يخفى علي عظم شأنك و ما بلغت من سلطانك و نفوذ حكمك على الأقاليم و أنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات و أنت عندي مثل أعز أولادي و غير خاف عنك أنني تملكت الصين و أنت أخبر الناس ببلادي و أنها مثارات العساكر و الخيول و معادن الذهب و الفضة و فيها كفاية عن غيرها فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة و تأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه و بشر جنكزخان بذلك و استمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار
و كان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر و معه عشرون ألف فارس فشرهت نفسه إلى أموال التجار و كانت السلطان يقول : إن هؤلاء القوم قد جاؤوا بزي التجار و ما قصدهم إلا التجسس فإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم فقبض عليهم و أخذ أموالهم فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول : إنك أعطيت أمانك التجار فغدرت و الغدر قبيح و هو سلطان الإسلام أقبح فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا و إلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله فتلجد و أمر بقتل الرسل فقتلوا
فيالها من حركة لما أهدرت من دماء المسلمين و أجرت بكل نقطة سيلا من الدم
ثم سار جنكزخان إليه فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور ثم ساق إلى برج همذان رعبا من التتار فأحدق به العدو فقتلوا كل من معه و نجا هو بنفسه فخاض الماء إلى جزيرة و لحقته علة ذات الجنب فمات بها وحيدا فريدا و كفن في شاش فراش كان معه و ذلك في سنة سبع عشرة و ملكوا جميع مملكة خوارزم شاه
قال سبط ابن الجوزي : كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة فأخذوا بخارى و سمرقند قتلوا أهلها و حاصروا خوارزم شاه ثم بعد ذلك عبروا النهر و كان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان فلم تجد التتار أحدا في وجههم فطاروا في البلاد قتلا و سبيا و ساقوا إلى أن وصلوا همذان و قزوين في هذه السنة
و قال ابن الأثير في كامله : حادثة التتار من الحوادث العظمى و المصائب الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها عمت الخلائق و خصت المسلمين فلو قال قائل : إن العلم منذ خلقه الله تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها
و من أعظم ما يذكرون فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس و ما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام ؟ و ما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا ؟
فهذه الحادثة التي استطار شرها و عم ضررها و سادت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر و بلاد شاغرق ثم منهم إلى بخارى و سمرقند فيملكونها و يبيدون أهلها ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها هلكا و تخريبا و قتلا و إبادة و إلى الري و هذان إلى حد العراق ثم يقصدون آذربيجان و نواحيها و يخربونها و يستبيحونها في أقل من سنة ـ أمر لم يسمع بمثله ثم ساروا من آذربيجان إلى دربند شروان فملكوا مدنها و عبروا من عندها إلى بلاد اللن و اللكز فقتلوا و أسروا ثم قصدوا بلاد فقجاق و هم أكثر من الترك عددا فقتلوا من وقف و هرب الباقون و استولى التتار عليها
و مضت طائفة آخرى غير هؤلاء إلى غزنة و أعمالها و سجستان و كرمان ففعلوا مثل هؤلاء بل أشد هذا لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة و إنما ملكها في نحو عشر سنيين و لم يقتل أحدا و إنما رضي بالطاعة و هؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض و أحسنه و أعمره في نحو سنة و لم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا و هو خائف يترقب وصولهم إليه
ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة و مددهم يأتيهم فإنهم معهم الأغنام و البقر و الخيل يأكلون لحومها لا غير
و أما خيلهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها و تأكل عروق النبات و لا تعرف الشعير
و أما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها و لا يحرمون شيئا و يأكلون جمع الدواب و بني آدم و لا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد و لما دخلت سنة ست و خمسين وصل التتار إلى بغداد و هم مائتا ألف و يقدمهم هلاكو فخرج إليهم عسكر الخليفة فهزم العسكر
و دخلوا بغداد يوم عاشوراء فأشار الوزير لعنه الله على المستعصم بمصانعتهم و قال : أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح ظن فخرج و توثق بنفسه منهم و ورد إلى الخليفة و قال : إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بإبنك الأمير أبي بكر و يبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته و لا يريد إ لا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية و ينصرف عنك بجيوشه فليجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين و يمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد و الرأي أن تخرج إليه فخرج إليه في جمع من الأعيان فأنزل في خيمة
ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء و الأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم و صار كذلك : تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم حتى قتل جميع من هناك من العلماء و الأمراء و الحجاب و الكبار
ثم مد الجسر و بذل السيف في بغداد و استمر القتال فيها نحو أربعين يوما فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة و لم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة و قتل الخليفة رفسا
قال الذهبي : و ما أظنه دفن و قتل معه جماعة من أولاده و أعمامه و أسر بعضهم و كانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها و لم يتم للوزير ما أراد و ذاق من التتار الذل و الهوان و لم تطل أيامه بعد ذلك و عملت الشعراء قصائد في مرائي بغداد و أهلها و تمثل بقول سبط التعاويذي :
( بادت و أهلوها معا فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب )
و قال بعضهم :
( يا عصبة الإسلام نوحي و اندبي ... حزنا على ما تم للمستعصم )
( دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي )
و كان آخر خطبة خطبت ببغداد قال الخطيب في أولها : الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار و حكم بالفناء على أهل هذه الدار هذا و السيف قائم بها
و لتقي الدين أبي اليسر قصيدة مشهورة في بغداد و هي هذه :
( لسائل الدمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك و الأحباب قد ساروا )
( يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى و الدار ديار )
( تاج الخلافة و الربع الذي شرفت ... به المعالم قد عفاه إفقار )
( أضحى لعصف البلى في ربعه أثر ... و للدموع على الآثار آثار )
( يا نار قلبي من نار لحرب وغى ... شبت عليه و وافى الربع إعصار )
( علا الصليب على أعلى منابرها ... و قام بالأمر من يحويه زنار )
( و كم حريم سبته الترك غاصبة ؟ ... و كان من دون ذاك الستر أستار )
( و كم بدور على البدرية انخسفت ؟ ... و لم يعد لبدور منه إبدار )
( و كم دخائر أضحت و هي شائعة ؟ ... من النهاب و قد حازته كفار )
( و كم حدود أقيمت من سيوفهم ؟ ... على الرقاب و حطت فيه أوزار )
( ناديت و السبي مهتوك تجر بهم ... إلى السفاح من الأعداء دعار )
و لما فرغ هلاكو من قتل الخليفة و أهل بغداد و أقام على العراق نوابه و كان ابن العلقمي حسن لهم أن يقيموا خليفة علويا فلم يوافقوه و اطرحوه و صار معهم في صورة بعض الغلمان و مات كمدا لا رحمه الله و لا عفا عنه
ثم أرسل هلاكو إلى الناصر صاحب دمشق كتابا صورته : يعلم السلطان الملك الناصر طال يقاؤه أنه لما توجهنا العراق و خرج إلينا جنودهم فقتلناهم بسيف الله ثم خرج إلينا رؤساء البلد و مقدموها فكان قصارى كلامهم سببا لهلاك نفوس تستحق الإهلاك و أما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا و دخل تحت عبوديتنا فسألناه عن أشياء كذبنا فيها فاستحق الإعلام و كان كذبه ظاهرا و وجدوا ما عملوا حاضرا و أجب ملك البسيطة و لا تقولن : قلاعي المانعات و رجالي المقاتلات و قد بلغنا أن شذرة من العسكر التجأت إليك هاربة و إلى جنابك لائذة :
( أين المفر و لا مفر لهارب ... و لنا البسيطان الثرى و الماء )
فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضا و طولها عرضا و السلام
ثم أرسل له كتابا ثانيا يقول فيه : خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد : فإنا فتحنا بغداد و استأصلنا و ملكها و كان قد ظن ـ و قد فتن الأموال و لم ينافس في الرجال ـ أن ملكه يبقى على ذلك الحال و قد علا ذكره و نمى قدره فخسف في الكمال بدره :
( إذا تم أمر بدا نفصه ... توقع زوالا إذا قيل تم )
و نحن في طلب الازدياد على ممر الآباد فلا تكن كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم و أبد ما في نفسك : إما إمساك بمعوف أو تسريح بإحسان و أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره و تنل بره واسع بأموالك و رجالك و لا تعوق رسلنا و السلام
ثم أرسل إليه كتابا ثالثا يقول فيه : أما بعد : فنحن جنود الله بنا ينتقم ممن عتا و تجبر و طغى و تكبر و بأمر الله ما ائتمر إن عوتب تنمر و إن روجع استمر و نحن قد أهلكنا البلاد و أبدنا العباد و قتلنا النسوان و الأولاد فيا أيها الباقون أنتم بمن مضى لا حقون و يا أيها الغافلون أنتم إليهم تساقون نحن جيوش الهلكة لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام و ملكنا لا يرام و نزيلنا لا يضام و عدلنا في ملكنا قد اشتهر و من سيوفنا أين المفر :
( أين المفر و لا مفر لهارب ... و لنا البسيطان الثرى و الماء )
( ذلت لهيبتنا الأسود و أصبحت ... في قبضتي الأمراء و الخلفاء )
و نحن إليكم صائرون ولكم الهرب و علينا الطلب :
( ستعلم ليلى أي دين تداينت ؟ ... و أي غريم بالتقاضي غريمها ؟ )
دمرنا البلاد و أيتمنا الأولاد و أهلكنا العباد و أذقناهم العذاب و جعلنا عظيمهم صغيرا و أميرهم أسيرا تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون و عن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون و قد اعذر من أنذر
ثم دخلت سنة سبع و خمسين و الدنيا بلا خليفة
و فيها نزل التتار على آمد و كان صاحب مصر المنصور علي بن المعز صبيا و أتابكه الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه و قدم الصاحب كمال الدين بن العديم إليهم رسولا يطلب النجدة على التتار فجمع قطز الأمراء و الأعيان فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام ـ و كان المشار إليه في الكلام ـ فقال الشيخ عز الدين : إذا طرق العدو البلاد وجب على العلم كلهم قتالهم و جاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء و أن تبيعوا ما لكم من الحوائص و الآلات و يقتصر كل منكم على فرسه و سلاحه و تتساور في ذلك أنتم و العامة و أما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال و الآلات الفاخرة فلا
ثم بعد أيام قبض قطز على ابن أستاذه المنصور و قال : هذا صبي و الوقت صعب و لا بد أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد و تسلطن قطز و لقب بـ [ الملك المظفر ]
ثم دخلت سنة ثمان و خمسين و الوقت أيضا بلا خليفة
و فيها قطع التتار الفرات و وصلوا إلى حلب و بذلوا السيف فيها ثم وصلوا إلى دمشق و خرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار فأقبل المظفر بالجيوش و شاليشه ركن الدين بيبرس البندقداري فالتقوا هم و التتار عند عين جالوت و وقع المصاف و ذلك يوم الجمعة خامس عشر رمضان فهزم التتار شر هزيمة و انتصر المسلمون و لله الحمد و قتل من التتار مقتلة عظيمة و ولوا الأدبار و طمع الناس فيهم يتخطفونهم و ينهبونهم و جاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر فطار لناس فرحا ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيدا منصورا و أحبه الخلق غاية المحبة و ساق بيبرس وراء التتار إلى بلاد حلب و طردهم عن البلاد و وعده السلطان بحلب ثم رجع عن ذلك فتأثر بيبرس من ذلك و كان ذلك مبدأ الوحشة و كان المظفر عزم على التوجه إلى حلب لينظف آثار البلاد من التتار فبلغه أن بيبرس تنكر له و عمل عليه فصرف وجهه عن ذلك و رجع إلى مصر و قد أضمر الشر لبيبرس و أسر ذلك لبعض خواصه فأطلع على ذلك بيبرس فساروا إلى مصر و كل منهما محترس من صاحبه فاتفق بيبرس و جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق في ثالث عشر شهر ذي القعدة و تسلطن بيبرس و لقب الملك القاهر و دخل مصر و أزال عن أهلها ما كان المظفر قد أحدثه عليهم من المظالم و أشار عليه الوزير زين الملة و الدين ابن الزبير بأن يغير هذا اللقب و قال : ما لقب به أحد فأفلح : لقب به القاهر بن المعتضد فخلع بعد قليل و سمل و لقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم فأبطل السلطان هذا اللقب و تلقب بالملك الظاهر
ثم دخلت سنة تسع و خمسين و الوقت أيضا بلا خليفة إلى رجب فأقيمت بمص الخلافة و بويع المستنصر كما سنذكره و كان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين و نصفا
و ممن مات في أيام المستعصم من الأعلام : الحافظ تقي الدين الصريفيني و الحافظ أبو القاسم بن الطيلسان و شمس الأئمة الكردي من كبار الحنفية و الشيخ تقي الدين بن الصلاح و العلم السخاوي و الحافظ محب الدين بن النجار مؤرخ بغداد و منتخب الدين شارح المفصل و ابن يعيش النحوي و أبو الحجاج الأقصري الزاهد و أبو علي الشلوبيني النحوي و ابن البيطار صاحب المفردات و العلامة جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية و أبو الحسن بن الدباج النحوي و القفطي صاحب تاريخ النحاة و أفضل الدين الخونجي صاحب المنطق و الأزدي و الحافظ يوسف بن خليل و البهاء ابن بنت الحميري و الجمال بن عمرون النحوي و الرضي الصغاني اللغوي صاحب [ العباب ] و غيره و الكمال عبد الواحد الزملكاني صاحب المعاني و البيان و إعجاز القرآن و الشمس الخسرو شاهي و المجد ابن تيمية و يوسف سبط ابن الجوزي صاحب [ مرآة الزمان ] و ابن باطيش من كبار الشافعية و النجم البادرائي و ابن الفضل المرسي صاحب التفسير و خلائق آخرون
فصل
و مات في مدة انقطاع الخلافة من الأعلام : الزكي عبد العظيم المنذري و الشيخ أبو الحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية و شعبة المقرئ و الفاسي شارح الشاطبية و سعد الدين بن العزي الشاعر و الصرصري الشاعر و ابن الأبار مؤرخ الأندلس و آخرون
المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله 659هـ ـ 661ه
المستنصر بالله : أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد
قال الشيخ قطب الدين : كان محبوسا ببغداد فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب و صار إلى عرب العراق فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس وفد عليه في رجب و معه عشرة من بني مهارش فركب السلطان للقائه و معه القضاة و الدولة فشق القاهرة ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز ثم بويع له بالخلافة فأول من بايعه السلطان ثم قاضي القضاة تاج الدين ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم و ذلك في ثالث عشر رجب و نقش اسمه على السكة و خطب له و لقب بلقب أخيه و فرح الناس و ركب يوم الجمعة و عليه السواد إلى جامع القلعة و صعد المنبر و خطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس و دعا فيها للسلطان و المسلمين ثم صلى بالناس ثم رسم بعمل خلعة خليفة السلطان و بكتابة تقليد له ثم نصب خيمة بظاهر القاهرة و ركب المستنصر بالله يوم الاثنين رابع شعبان إلى الخيمة و حضر القضاة و الأمراء و الوزير فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده و طوقه و نصب منبر فصعد عليه فخر الدين بن لقمان فقرأ التقليد ثم ركب السلطان بالخلعة و دخل من باب النصر و زينت القاهرة و حمل الصاحب التقليد على رأسه راكبا و الأمراء مشاة و رتب السلطان للخليفة أتابكا و استادارا و شرابيا و حاجبا و كاتبا و عين له خزانة و جملة مماليك و مائة فرس و ثلاثين بغلا و عشرة قطارات جمال إلى أمثال ذلك
قال الذهبي : و لم يلي الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا و المقتفي
و أما صاحب حلب الأمير شمس الدين أقوش فإنه أقام بحلب خليفة و لقبه الحاكم بأمر الله و خطب له و نقش اسمه على الدراهم
ثم إن المستنصر هذا عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان يشيعه إلى أن دخلوا دمشق ثم جهز السلطان الخليفة و أولاد صاحب الموصل و غرم عليه و عليهم من الذهب ألف ألف دينار و ستين ألف درهم فسار الخليفة و معه ملوك الشرق و صاحب سنجار فاجتمع به الخليفة الحلبي الحاكم و دان له و دخل تحت طاعته ثم سار ففتح الحديثة ثم هيت فجاءه عسكر من التتار فتصافوا له فقتل من المسلمين جماعة و عدم الخليفة المستنصر فقيل : قتل و هو الظاهر و قيل : سلم و هرب فأضمرته البلاد و ذلك في الثالث من المحرم سنة ستين فكانت خلافته دون ستة أشهر و تولى بعده بسنة الحاكم الذي كان بويع بحلب في حياته
الحاكم بأمر الله أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن 661هـ ـ 701ه
الحاكم بأمرالله : أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي ـ بضم القاف و تشديد الباء الموحدة ـ ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر بالله
كان اختفى وقت أخذ بغداد و نجا ثم خرج منها و في صحبته جماعة فقصد حسين ابن فلاح أمير بني خفاجة فأقام عنده مدة ثم توصل مع العربي إلى دمشق و أقام عند الأمير عيسى بن مهنأ مدة فطالع به الناصر صاحب دمشق فأرسل يطلبه فبغته مجيء التتار فلما جاء الملك المظفر دمشق سير في طلبه الأمير قلج البغدادي فاجمع به و بايعه بالخلافة و توجه في خدمته جماعة من أمراء العرب فافتتح الحاكم غانة بهم و الحديثة و هيت و الأنبار و صاف التتار و انتصر عليهم ثم كاتبه علاء الدين طيبرس نائب دمشق يومئذ و الملك الظاهر يستدعيه فقدم دمشق في صفر فبعثه إلى السلطان و كان المستنصر بالله قد سبقه بثلاثة أيام إلى القاهرة فما رأى أن يدخل إليها خوفا من أن يمسك فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها و رؤساؤها منهم عبد الحليم بن تيمية و جمع خلقا كثيرا و قصد غانة فلما رجع المستنصر وافاه بغانة فانقاد الحاكم له و دخل تحت طاعته فلما عدم المستنصر في الوقعة المذكورة في ترجمته قصد الحاكم الرحبة و جاء إلى عيسى بن مهنأ فكاتب الملك الظاهر بيبرس فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة و معه ولده و جماعة فأكرمه الملك الظاهر و بايعوه بالخلافة و امتدت أيامه و كانت خلافته نيفا و أربعين سنة و أنزله الملك الظاهر بالبرج الكبير بالقلعة و خطب بجامع القلعة مرات
قال الشيخ قطب الدين في يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى و ستين جلس السلطان مجلسا عاما و حضر الحاكم بأمر الله راكبا إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل و جلس مع السلطان و ذلك بعد ثبوت نسبه فأقبل عليه السلطان و بايعه بإمرة المؤمنين ثم أقبل هو على السلطان و قلده الأمور ثم بايعه الناس على طبقاتهم فلما كان من الغد يوم الجمعة خطب خطبة ذكر فيها الجهاد و الإمامة و تعرض إلى ما جرى من هتك حرمة الخلافة ثم قال : و هذا السلطان الملك الظاهر قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار و شرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار و أول الخطبة : الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا و ظهيرا ثم كتب بدعوته إلى الآفاق
و في هذه السنة و بعدها تواتر مجيء جماعة من التتار مسلمين مستأمنين فأعطوا أخبارا و أرزاقا فكان ذلك مبدأ كفاية شرهم
و في سنة اثنتين و ستين فرغت المدرسة الظاهرية بين القصرين و ولى بها تدريس الشافعية التقي ابن رزين و تدريس الحديث الشرف الدمياطي
و فيها زلزلت مصر زلزلة عظيمة
و في سنة ثلاث و ستين انتصر سلطان المسلمين بالأندلس أبو عبد الله بن الأحمر على الفرنج و استرجع من أيديهم اثنتين و ثلاثين بلدا : من جملتها إشبيلية و مرسية
و فيها كثر الحريق بالقاهرة في عدة مواضع و وجد لفائف فيها النار و الكبريت على الأسطحة
و فيها حفر السلطان بحر أشمون و عمل فيه بنفسه و الأمراء
و فيها مات طاغية التتار هلاكو و ملك بعده ابنه أبغا
و فيها سلطن السلطان ولده الملك السعيد و عمره أربع سنين و ركبه بأبهة الملك في قلعة الجبل و حمل الغاشية بنفسه بين يديه ولده من باب السر إلى باب السلسلة ثم عاد و ركب إلى القاهرة و الأمراء مشاة بين يديه
و فيها جدد بالديار المصرية القضاة الأربعة من كل مذهب قاض و سبب ذلك توقف القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز عن تنفيذ كثير من الأحكام و تعطلت الأمور و أبقى للششافعي النظر في أموال الأيتام و أمور بيت المال ثم فعل ذلك بدمشق
و في رمضان منها حجب السلطان الخليفة و معه الناس لكون أصحابه كانوا يخرجون إلى البلد و يتكلمون في أمر الدولة
و في سنة خمس و ستين و ستمائة أمر السلطان بعمل الجامع بالحسنية و تم في سنة سبع و ستين و قرر له خطيب حنفي
و في سنة أربع و سبعين وجه السلطان جيشا إلى النوبة و دنقلة فانتصروا و أسر ملك النوبة و أرسل به إلى الملك الظاهر و وضعت الجزية على أهل دنقلة و لله الحمد
قال الذهبي : و أول ما غزيت النوبة في سنة إحدى و ثلاثين من الهجرة غزاها عبد الله بن أبي سرح في خمسة آلاف فارس و لم يفتحها فهادنهم و رجع ثم غزيت في زمن هشام و لم تفتح ثم في زمن المنصور ثم غزاها تكن الزنكي ثم كافور الأخشيدي ثم ناصر الدولة ابن حمدان ثم توران شاه أخو السلطان صلاح الدين في سنة ثمانية و ستين و خمسمائة و لم تفتح إلا هذا العام و قال في ذلك ابن عبد الظاهر :
( هذا هو الفتح لا شيء سمعت به ... في شاهد العين لا ما في الأسانيد )
و في سنة ست و سبعين مات الملك الظاهر بدمشق في المحرم و استقل ابنه الملك السعيد محمد بالسلطنة و له ثمان عشرة سنة
و فيها جمع التقي بن رزين بين قضاء مصر و القاهرة و كان قضاء مصر قبل ذلك مفردا عن قضاء القاهرة ثم لم يفرد بعد ذلك قضاء مصر عن قضاء القاهرة
و في سنة ثمان و سبعين خلع الملك السعيد من السلطنة و سير إلى الكرك سلطانا بها فمات من عامه و ولوا مكانه بمصر أخاه بدر الدين سلامش ـ و له سبع سنين ـ و لقبوه بـ [ الملك العادل ] و جعلوا أتابكة الأمير سيف الدين قلاوون و ضرب السكة باسمه على وجه و دعي لهما في الخطبة ثم في رجب نزع سلامش من السلطنة بغير نزاع و تسلطن قلاوون و لقب بـ [ الملك المنصور ]
و في سنة تسع و سبعين يوم عرفة وقع بديار مصر برد كبار و صواعق
و في سنة ثمانين وصل عسكر التتار إلى الشام و حصل الرجيف فخرج السلطان لقتالهم و وقع المصاف و حصل مقتلة عظيمة ثم حصل النصر للمسلمين و لله الحمد
و في سنة ثمان و ثمانين أخذ السلطان طرابلس بالسيف و كانت في أيدي النصارى من سنة ثلاث و خمسمائة إلى الآن و كان أول فتحها في زمن معاوية و أنشأ التاج ابن الأثير كتابا بالبشارة بذلك إلى أصحاب اليمن يقول فيه : و كانت الخلفاء و الملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه مكب على مجلس أنسه يرى السلامة غنيمة و إذا عن له وصف الحرب لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة قد بلغ أمله من الرتبة و قنع بالسكة و الخطبة أموال تنهب و ممالك تذهب لا يبالون بما سلبوا و هم كما قيل :
( إن قاتلونا قتلوا أو طاردوا طردوا ... أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا )
إلى أن أوجد الله من نصر دينه و أذل الكفر و شياطينه
و ذكر بعضهم أن معنى طرابلس باللسان الرومي ثلاثة حصون مجتمعة
و في سنة تسع و ثمانين مات السلطان قلاوون في ذي القعدة و تسلطن ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل فأظهر أمر الخليفة و كان خاملا في أيام أبيه حتى إن أباه لم يطلب منه تقليدا بالملك فخطب الخليفة بالناس يوم الجمعة و ذكر في خطبته توليته للملك الأشرف أمر الإسلام
و لما فرغ من الخطبة صلى بالناس قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ثم خطب الخليفة مرة خطبة أخرى جهادية و ذكر بغداد و حرض على أخذها
و في سنة لإحدى و تسعين سافر السلطان فحاصر قلعة الروم
و في سنة ثلاث و تسعين و ستمائة قتل السلطان بتروجة و سلطنوا أخاه محمد بن المنصور و لقب [ الملك الناصر ] و له يومئذ تسع سنين ثم خلع في المحرم سنة أربع و تسعين و تسلطن كتبغا المنصوري و تسمى بـ [ الملك العادل ]
و في هذه السنة و دخل في الإسلام قازان بن أرغون بن أبغا بن هلاكو ملك التتار و فرح الناس بذلك و فشا الإسلام في جيشه
و في سنة ست و تسعين و ستمائة كان السلطان بدمشق فوثب لاجين على السلطنة و حلف له الأمراء و لم يختلف عليه اثنان و لقب [ الملك المنصور ] و ذلك في صفر و خلع عليه الخليفة الخلعة السوداء و كتب له تقليدا و سير العادل إلى صرخد نائبا بها ثم قتل لاجين في جمادى الآخرة سنة ثمان و تسعين و أعيد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون و كان منفيا بالكرك فقلده الخليفة فسير العادل إلى حماة نائبا بها فاستمر إلى أن مات سنة اثنتين و سبعمائة
و في سنة إحدى و سبعمائة توفي الخليفة الحاكم إلى رحمة الله ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى و صلى عليه العصر بسوق الخيل تحت القلعة و حضر جنازته رجال الدولة و الأعيان كلهم مشاة و دفن بقرب السيدة نفيسة و هو أول من دفن منهم هناك و استمر مدفنهم إلى الآن و كان عهد بالخلافة لولده أبي الربيع سليمان
و ممن مات في أيام الحاكم من الأعلام : الشيخ عزالدين بن عبد السلام و العلم اللورقي و أبو القاسم القباري الزاهد و الزين خالد النابلسي و الحافظ أبو بكر بن سدي و الإمام أبو شامة و التاج ابن بنت الأعز و أبو الحسن بن عدلان و مجد الدين ابن دقيق العيد و أبو الحسن بن عصفور النحوي و الكمال سلار الإربلي و عبد الرحيم ابن يونس صاحب [ التعجيز ] و القرطبي صاحب التفسير و التذكرة و الشيخ جمال الدين ابن مالك و ولده بدر الدين و النصير الطوسي رأس الفلاسفة و خاصة التتار و التاج ابن السباعي خازن المستنصرية و البهان ابن جماعة و النجم الكاتبي المنطقي و الشيخ محيي الدين النووي و الصدر سليمان إمام الحنفية و التاج ابن مسير المؤرخ و الكواشي المفسر و التقي بن رزين و ابن خلكان صاحب [ وفيات الأعيان ] و ابن إياز النحوي و عبد الحليم بن تيمية و ابن جعوان و ناصر الدين بن المنبر و النجم ابن البارزي و البرهان النسفي صاحب التصانيف في الخلاف و الكلام و الرضي الشاطبي اللغوي و الجمال الشريشي و النفسي شيخ الأطباء و أبو الحسين بن أبي الربيع النحوي و الأصبهاني شارح المحصول و العفيف التلمساني الشاعر المنسوب إلى الإلحاد و التاج ابن الفركاح و الزين بن المرحل و الشمس الجوني و العز الفاروقي و المحب الطبري و التقي ابن بنت الأعز و الرضي القسطنطيني و البهاء ابن النحاس النحوي و ياقوت المستعصمي صاحب الخط المنسوب و خلائق آخرون
المستكفى بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله أحمد 701هـ ـ 740ه
المستكفي بالله : أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله
ولد في نصف المحرم سنة أبع و ثمانين و ستمائة و اشتغل بالعلم قليلا و بويع بالخلافة بعهد من أبيه في جمادى الأولى سنة إحدى و سبعمائة و خطب له على المنابر في البلاد المصرية و الشامية و سارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار و المماليك الإسلامية و كانوا يسكنون بالكبش فنقلهم السلطان إلى القلعة و أفرد لهم دارا
و في سنة اثنتين هجم التتار على الشام فخرج السلطان و معه الخليفة لقتالهم فكان النصر عليهم و قيل من التتار مقتلة عظيمة و هرب الباقون
و فيها زلزلت مصر و الشام زلزلة عظيمة هلك فيها خلق تحت الهدم
و في سنة أربع أنشأ الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري الوظائف و الدروس بجامع الحاكم و جدده بعد خرابه من الزلزلة و جعل القضاة الأربعة مدرسي الفقه و شيخ الحديث سعد الدين الحارثي و شيخ النحو أبا حيان
و في سنة ثمان خرج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قاصدا للحج فخرج من مصر في شهر رمضان المعظم و خرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم فلما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر فلما توسطه انكسر به فسلم من كان قدامه و قفز به الفرس فنجا و سقط من وراءه فكانوا خمسين فمات أربعة و تهشم أكثرهم في الوادي تحته و أقام السلطان بالكرك ثم كتب كتابا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة فأثبت ذلك القضاة بمصر ثم نفذ على قضاة الشام و بويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير يالسلطنة في الثالث و العشرين من شهر شوال و لقب [ الملك المظفر ] و قلده الخليفة و ألبسه الخلعة السوداء و العمامة المدورة و نفذ التقليد إلى الشام في كيس أطلس أسود فقرئ هناك و أوله [ إنه من سليمان و إنه بسم الله الرحمن الرحيم ]
ثم عاد الملك الناصر في رجب سنة تسع يطلب عوده إلى الملك و مالأه على ذلك جماعة من الأمراء فدخل دمشق في شعبان ثم دخل مصر يوم عيد الفطر و صعد القلعة و كان المظفر بيبرس فر في جماعة من أصحابه قبل قدومه بأيام ثم أمسك و قتل من عامه و قال العلاء الوداعي في عود الناصر إلى الملك :
( الملك الناصر قد أقبلت ... دولته مشرقة الشمس )
( عاد إلى كرسيه مثل ما ... عاد سليمان إلى الكرسي )
و في هذه السنة تكلم الوزير في إعاده أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض و أنهم قد التزموا للديوان بسعمائة ألف دينار كل سنة زيادة على الجالية فقام الشيخ تقي الدين بن تيمية في إبطال ذلك قياما عظيما و بطل و لله الحمد
و فيها أظهر ملك التتار خوبند الرفض في بلاده و أمر الخطباء أن لا يذكروا في الخطبة إلا علي بن أبي طالب و ولديه و أهل البيت و استمر ذلك إلى أن مات سنة ست عشرة و ولي ابنه أبو سعيد فأمر بالعدل و أقام السنة و الترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي في الخطبة و سكن كثير من الفتن و لله الحمد و كان هذا من خير ملوك التتار و أحسنهم طريقة و استمر إلى أن مات سنة ست و ثلاثين و لم يقم من بعده قائمة بل تفرقوا شذر مذر
و في سنة عشر زاد النيل زيادة كثيرة لم يسمع بمثلها و غرق منها بلاد كثيرة و ناس كثيرون
و في سنة أربع و عشرين زاد النيل أيضا كذلك و مكث على الأرض ثلاثة أشهر و نصفا و كان ضرره أكثر من نفعه
و في سنة ثمان و عشرين عمرت سقوف المسجد الحرام بمكة و الأبواب و ظاهره مما يلي باب بني شيبة
و في سنة ثلاثين أقيمت الجمعة بإيوان الشافعية من المدرسة الصالحية بين القصرين و ذلك أول ما أقيمت بها
و فيها فرع من الجامع الذي أنشأه قوصون خارج باب زويلة و خطب به و حضره السلطان و الأعيان و باشر الخطابة يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني ثم استقر في خطابته فخر الدين بن شكر
و في سنة ثلاث و ثلاثين أمر السلطان بالمنع من رمي البندق و أن لا تباع قسيه و منع المنجمين
و فيها عمل السلطان للكعبة بابا من الآبنوس عليه صفائح فضة زنتها خمسة و ثلاثون ألفا و ثلاثمائة و كسر و قلع الباب فأخذه بنو شيبة بصفحائه و كان عليه اسم صاحب اليمن
و في سنة ست و ثلاثين وقع بين الخليفة و السلطان أمر فقبض على الخليفة و اعتقله بالبرج و منعه من الاجتماع بالناس ثم نفاه في ذي الحجة سنة سبع إلى القوص هو و أولاده و أهله و رتب لهم ما يكفيهم و هم قريب من مائة نفس فإنا لله و إنا إليه راجعون و استمر المستكفي بقوص إلى أن مات بها في شعبان سنة أربعين و سبعمائة و دفن بها و له بضع و خمسون سنة
و قال ابن حجر في الدرر الكامنة : كان فاضلا جوادا حسن الخط جدا شجاعا يعرف بلعب الأكرة و رمي البندق و كان يجالس العلماء و الأدباء و له عليهم إفضال و معهم مشاركة و كان بطول مدته يخطب له على المنابر حتى في زمن حبسه و مدة إقامته بقوص و كان بينه و بين السلطان أولا محبة زائدة و كان يخرج مع السلطان إلى السرحات ن و يلعب معه الكرة و كانا كالأخوين
و السبب في الوقيعة بينهما أنه رفع إليه قصة عليها خط الخليفة بأن يحضر السلطان بمجلس الشرع الشريف فغضب من ذلك و آل الأمر إلى أن نفاه إلى قوص و رتب له على واصل المكارم أكثر مما كان له بمصر
و قال ابن فضل في ترجمته من المسالك : كان حسن الجملة لين الحملة
و ممن مات في أيام المستكفي من الأعلام : قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد و الشيخ زين الدين الفارقي شيخ الشافعية و شيخ دار الحديث و ليها بعد وفاة النووي إلى الآن و وليها بعده صدر الدين بن الوكيل و الشرف الفزاري و الصدر بن الزرير بن الحاسب و الحافظ شرف الدين الدمياطي و الضياء الطوسي شارح [ الحاوي ] و الشمس السروجي شارح [ الهداية ] من الحنفية و الإمام نجم الدين بن الرضعة إمام الشافعية في زمانه و الحافظ سعد الدين الحارثي و الفخر التوزي محدث مكة و الرشيد بن المعلم من كبار الحنفية و الأربوي و الصدر ابن الوكيل شيخ الشافعية و الكمال ابن الشريشي و التاج التبريزي و الفخر ابن بنت أبي سعد و الشمس ين أبي العز شيخ الحنفية و الرضي الطبري إمام مكة و الصفي أبو الثناء و محمود الأرموي و الشيخ نور الدين البكري و العلاء بن العطار تلميذ الإمام النووي و الشمس الأصبهاني صاحب التفسير و شرح مختصر ابن الحاجب و شرح التجريد و غير ذلك و التقي الصائغ المقرئ خاتمة مشايخ القراء و الشهاب محمود شيخ صناعة الإنشاء و الجمال بن مطهر شيخ الشيعة و الكمال بن قاضي شهبة و النجم القمولي صاحب الجواهر و البحر و الكمال بن الزملكاني و الشيخ تقي الدين بن تيمية و ابن جبارة شارح [ الشاطبية ] و النجم البالسي شارح [ التنبيه ] و البرهان الفزاري شيخ الملك المؤيد صاحب حماة الذي له تصانيف كثيرة منها نظم الحاوي و الشيخ ياقوت العرشي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي و البرهان الجعبري و البدر بن جماعة و التاج ابن الفاكهاني و الفتح ابن سيد الناس و القطب الحلبي و الزين الكناني و القاضي محيي الدين بن فضل الله و الركن بن القويع و الزين بن المرحل و الشرف ابن البارزي و الجلال القزويني و آخرون
الواثق بالله إبراهيم بن المستمسك بالله محمد بن الحاكم 740هـ ـ 742ه
الواثق بالله : إبراهيم ابن ولي العهد المستمسك بالله أبي عبد الله بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد كان جده الحاكم عهد إلى ابنه محمد و لقبه المستمسك فمات في حياته فعهد إلى ابنه إبراهيم هذا ظنا أنه يصلح للخلافة فرآه غير صالح لها لما هو فيه من الانهماك في اللعب و معاشرة الأرذال فعدل عنه و عهد إلى المستكفي ابنه ـ أعني ابن الحاكم ـ و هو عم إبراهيم فكان إبراهيم هو السبب في الوقيعة بين الخليفة المستكفي و السلطان بعد أن كانا كالأخوين كما كان يحمله إليه من النميمة به حتى جرى ما جرى
فلما مات المستكفي بقوص عهد إلى ابنه أحمد فلم يلتفت السلطان إلى ذلك و بايع إبراهيم هذا و لقب بالواثق إلى أن حضرت السلطان الوفاة فندم على ما صدر منه و عزل إبراهيم هذا و بايع ولي العهد أحمد و لقب الحاكم و ذلك في أول المحرم سنة اثنتين و أربعين
قال ابن حجر : راجع الناس السلطان في أمر إبراهيم هذا و وسموه بسوء السيرة فلم يلتفت إلى ذلك و لم يزل بالناس حتى بايعوه و كان العامة يلقبونه المستعطي بالله
و قال ابن فضل الله في المسالك في ترجمة الواثق : عهد إليه جده ظنا أنه يكون صالحا أو يجيب لداعي الخلافة صائحا فما نشأ إلا في تهتك و لا دان إلا بعد تنسك أغري بالقاذورات و فعل ما لم تدع إليه الضرورات و عاشر السفلة و الأراذل و هان عليه من عرضه ما هو باذل و زين له سوء عمله فرآه حسنا و عمي عليه فلم ير مسيئا إلا محسنا و غواه اللعب بالحمام و شرى الكباش للنطاح و الديوك للنقار و المنافسة في المعز الزرائبية الطوال الآذان و أشياء من هذا و مثله مما يسقط المروءة و يثلم الوقار و انضم هذا إلى سوء معاملة و مشترى سلع لا يوفي أثمانها و استئجار دور لا يقوم بأجرها و تحيل على درهم يملأ به كفه و سحت يجمع به فمه و حرام يطعم منه و يطعم حرمه حتى كان عرضة للهوان و أكلة لأهل الأوان
فلما توفي المستكفي و السلطان عليه في حدة غضبه و تياره المتحامل عليه في شدة غلبه طلب هذا الواثق المغتر و المائق إلا أنه غير المضطر و كان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة و يعقد مكائده على رأس عقد التميمة فحضر إليه و أحضر معه عهد جده فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته و صرف في وجه الخلافة إلى جهته و كان قد تقدم نقض ذلك العهد و نسخ ذلك العقد و قام قاضي القضاة أبو عمر بن جماعة في صرف رأي السلطان عن إقامة الخطبة باسم الواثق فلم يفعل و اتفق الرأيان على ترك الخطبة للاثنين و اكتفي فيها بمجرد اسم السلطان فرحل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر كأنه ما علا ذروتها و خلا الدعاء للخلفاء من المحاريب كأنه ما قرع بابها و مروتها فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس و شعارها عليه لباس الحداد و أغمدوا تلك السيوف الحداد ثم لم يزل الأمر على هذا حتى حضرت السلطان الوفاة و قرع الموت صفاه فكان مما أوصى به رد الأمر إلى أهله و إمضاء عهد المستكفي لابنه و قال الآن حصحص الحق و حنا على مخاليفه ورق و عزل إبراهيم و هزل و كان قد رعى البهم و ستر اللؤم بثياب أهل الكرم و تسمن و شحمه ورم و تسمى بالواثق و أين هو من صاحب هذا الاسم ؟ الذي طال ما سرى رعبه في القلوب و أقضت هيبته مضاجع الجنوب و هيهات لا تعد من النسر التماثيل و لا الناموسة و إن طال خرطومها كالفيل و إنما سوق الزمان قد ينفق ما كسد و الهر يحكي انتفاخا صورة الأسد و قد عاد الآن يعض يديه و من يهن يسهل الهوان عليه هذا آخر كلام ابن فضل الله
الحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفى بالله سليمان 742هـ ـ 753ه
الحاكم بأمر الله : أبو العباس أحمد بن المستكفي كان أبوه لما مات بقوص عهد إليه بالخلافة فقدم الملك الناصر عليه إبراهيم ابن عمه لما كان في نفسه من المستكفي و كانت سيرة إبراهيم قبيحة و كان القاضي عزالدين بن جماعة قد جهد كل الجهد في صرف السلطان عنه فلم يفعل فلما حضرته الوفاة أوصى الأمراء برد الأمر إلى ولي عهد المستكفي ولده أحمد فلما تسلطن المنصور أبو بكر بن الناصر عقد مجلسا يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى و أربعين و طلب الخليفة إبراهيم و ولي العهد أحمد و القضاة و قال : من يستحق الخلافة شرعا ؟ فقال ابن جماعة : إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد و أشهد عليه أربعين عدلا بمدينة قوص و ثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي بمدينة قوص فخلع السلطان حينئذ إبراهيم و بايع أحمد و بايعه القضاة و لقب [ الحاكم بأمر الله ] لقب جده
و قال ابن فضل الله في المسالك في ترجمته : هو إمام عصرنا و غمام مصرنا قام على غيظ العدى و غرق بفيض الندى و صارت له الأمور إلى مصائرها و سيقت إليه بصائرها فأحيا رسوم الخلافة و رسم بما لم يستطع أحد خلافه و سلك مناهج آبائه و قد طمست و أحياها بمباهج أبنائه و قد درست و جمع شمل بني أبيه و قد طال بهم الشتات و أطال عذرهم و قد اختلف السبات و رفع اسمه على ذرى المنابر و قد عبر مدة لا يطلع إلا في آفاقه تلك النجوم و لا يسبح إلا من سبحه تلك الغيوم و السجوم طلب بعد موت السلطان و أنفذ حكم وصيته في تمام مبايعته و التزام متابعته و كان أبوه قد أحكم له بالعقد المتقدم عقدها و حفظ له عند ذوي الأمانة عهدها ثم تسلطن الملك المنصور أبو بكر بن السلطان و عمر له من تحت الملك الأوطان قال ابن فضل الله : و قد كتبت له صورة المبايعة و هي : بسم الله الرحمن الرحيم { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } إلى قوله { عظيما } هذه بيعة رضوان و بيعة إحسان و جمعية رضى يشهدها الجماعة و يشهد عليها الرحمن بيعة يلزم طائرها العنق و يحوم بسائرها و يحمل أنباءها البراري و البحار مشحونة الطرق بيعة يصلح الله بها الأمة و يمنح بسببها النعمة و يتجارى الرفاق و يسري الهناء في الآفاق و تتزاحم لزهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق بيعة سعيدة ميمونة شريفة بها السلامة في الدين و الدينا مضمونة بيعة صحيحة شرعية ملحوظة مرعية بيعة تسابق إليها كل نية و تطاوع كل طوية و يجتمع عليها شتات البرية بيعة يستهل بها الغمام و يتهلل البدر التمام بيعة متفق عليها الإجماع و الاجتماع و لبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع فاعتقد صحتها من سمع لله و أطاع و بذل في تمامها كل امرىء ما استطاع حصل عليها اتفاق الأبصار و الأسماع و وصل بها الحق إلى مستحقه و أقره الخصم و انقطع النزاع يضمها كتاب مرقوم يشهده المقربون و تلقاه الأئمة الأقربون { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } ذلك من فضل الله علينا و على الناس و إلينا و لله الحمد و إلى بني العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد و الحل و أصحاب الكلام فيما قل و جل و ولاة و الحكام و أرباب المناصب و الأحكام حملة العلم و العلام و حماة السيوف و الأقلام و أكابر بني عبد مناف و من انخفض قدره و أناف و سروات قريش و وجوه بني هاشم و البقية الطاهرة من بني العباس و خاصة الأمة و عامة الناس بيعة ترى بالحرمين خيامها و تخفق بالمأزمين أعلامها و تتعرف بعرفات بركاتها و تعرف بمنى و يؤمن عليها يوم الحج الأكبر و تؤم ما بين الركن و المقام و الحجر و لا يبتغى بها إلا وجه الله الكريم بيعة لا يحل عقدها و لا ينبذ عهدها لازمة جازمة دائبة دائمة تامة عامة شاملة كاملة صحيحة صريحة متعبة مريحة و لا من يوصف بعلم و لا قضاء و لا من يرجع إليه في اتفاق و لا إمضاء و لا إمام مسجد و لا خطيب و لا ذو فتوى يسأل فيجيب و لا من لزم المساجد و لا من تضمهم أجنحة المحاريب و لا من يجتهد في رأي فيخطىء أو يصيب و لا محدث بحديث و لا متكلم في قديم و حديث و لا معروف بدين و صلاح و لا فرسان حرب و كفاح و لا راشق بسهام و لا طاعن برماح و لا ضارب بصفاح و لا ساع بقدم و لا طائر بجناح و لا مخالط للناس و لا قاعدة في عزلة و لا جمع كثرة و لا قلة و لا من يستقل بالجوزاء لواؤه و لا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه و لا باد و لا حاضر و لا مقيم و لا سائر و لا أول و لا آخر و لا مسر في باطن و لا معلن في ظاهر و لا عرب و لا عجم و لا راعي إبل و لا غنم و لا صاحب أناة و لا بدار و لا ساكن في حضر و بادية بدار و لا صاحب عمد و لا جدار و لا ملجج في البحار الذاخرة و البراري و القفار و لا من يعتلي صهوات الخيل و لا من يسبل على العجاجة الذيل و لا من تطلع عليه شمس النهار و نجوم الليل و لا من تظلمه السماء و تقله الأرض و لا من تدل عليه الأسماء على اختلافها و ترفع درجات بعضهم على بعض حتى آمن بهذه البيعة و أمن عليها و أمن بها و من الله عليه و هداه إليها و أقر بها و صدق و غض لها بصره خاشعا لها و أطرق و مد إليها يده بالمبايعة و معتقده بالمتابعة و رضي بها و ارتضاها و أجاز حكمها على نفسه و أمضاها و دخل تحت طاعتها و عمل بمقتضاها و قضى بينهم بالحق و قيل : الحمد لله رب العالمين
و إنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه و عوضه عن دار السلام بدار السلام و نقله مزكي يديه عن شهادة الإسلام بشهادة الإسلام حيث آثره بقربه و مهد لجنبه و أقدمه على ما قدمه من مرجو عمله و كسبه و خار له في جواره فريقا و أنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا الله أكبر ليومه لولا مخلفه كانت تضيق الأرض بما رحبت و تجزى كل نفس بما كسبت و تنبأ كل سريرة ما ادخرت و ما جنت لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح لقد اضطرب منبر و سرير لولا خلفه الصالح لقد اضطر مأمور و أمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح و لم يكن في النسب العباسي و لا في البيت المسترشدي و لا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء و جدود و لا من تلده أخرى الليالي و هي عاقر غير ولود من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها و سرطوياتها إلا واحد و أين ذاك الواحد ؟ هو و الله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار و تراث أجداده الأخيار و لا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل و النهار و هو ولد المنتقل إلى ربه و ولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام و هكذا في الوجود الإمام و أنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق و المغارب و الفائز بملك ما بين المشارق و المغارب الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة الباقي بعد الأئمة الماضين و نعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة المتضع لله و هو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة الذي يفضح السحاب نائله و الذي لا يعزه عادله و لا يغره عادله و الذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال بأمره و قام قائمه و لا قعد على سرير الخلافة إلا و عرف أنه ما خاب مستكفيه و لا غاب حاكمه نائب الله في أرضه و القائم مقام رسوله صلى الله عليه و سلم و خليفته و ابن عمه و تابع عمله الصالح و وارث علمه سيدنا و مولانا عبد الله و وليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أيد الله ببقائه الدين و طوق بسيفه الملحدين و كبت تحت لوائه المعتدين و كتب له النصر إلى يوم الدين و كب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين و أعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين و أعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين و الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق و به كانوا يعدلون و عليه كانوا يعملون و نصر أنصاره و قدر اقتداره و أسكن في القلوب سكينته و وقاره و مكن له في الوجود و جمع له أقطاره و لما انتقل إلى الله ذلك السيد و لقي أسلافه و نقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة و خلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره و خليفة يغالب مزيد الليل بأنواره و وارث نبي بمثله و مثل آبائه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على آثاره و مضى و لم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع و عليه كانت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا نزاع اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود و عقد بيعة عليها الله و الملائكة شهود و جمع الناس له و ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف و لم ير بائعه و قد مد طامعا لمزيدها و قد تكلف و أجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيها فخار و أخذ يمين يمد لها الأيمان و يشهد بها الإيمان و يعطي عليها المواثيق و تعرض أمانتها على كل فريق حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة و حط على المصحف الكريم يده و حلف بالله و أتم أيمانه و لم يقطع و لا استثنى و لا تردد و من قطع عن غير قصد أعاد و جدد و قد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة و نية من حلف له و تذمم بالوفاء له في ذمته و تكفله على عادة أيمان البيعة و شروطها و أحكامها المرددة و أقسامها المؤكدة بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة الطاعة و لا يفارق الجمهور و لا يفر عن الجماعة الجماعة و غير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم و خطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا و أذنوا أن يكتب عنهم حسبما يشهد به بعضهم على بعض و يتصادق عليه أهل السماء و الأرض بيعة تم بمشيئة الله تمامها و عم بالصوب المغدق غمامها و قالوا : الحمد لله أذهب عنا الحزن و وهب لنا الحسن ثم الحمد لله الكافي عبده الوافي لمن يضعف على كل موهبة حمده ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها و ير هب إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها و يدأب من ارتقى منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها نحمده و الحمد لله كلمة لا يمل من تردادها و لا يحل السهام من سدادها و لا يبطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها و تكبير أقدار أهل ودادها و تصغير التحقير لا التحبيب لأندادها
و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقايس دماء الشهداء و إمداد مدادها و تنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها و تتجانس رقومها المدبجة و ما تلبسه الدولة العباسية من شعارها و الليالي من دثارها و الأعداء من حدادها
و نشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم و على جماعة أهله و من خلف من أبنائها و سلف من أجدادها و رضي الله عن الصحابة أجمعين و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
و بعد : فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده و وهبه من الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده و علمه منطق الطير مما يتحمله حمائم البطائق من بدائع البيان و سخر له من البريد على متون الخيل ما سخره من الريح لسليمان و آتاه الله من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان و تصرف و أعطاه من الفخار به ما أطاعه كل مخلوق و لم يتخلف و جعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد و ينفض على ظل الهدب ما فضل به من سويداء القلب و سواد البصر من السواد و يمد ظله على الأرض و كل مكان دار ملك و كل مدينة بغداد و هو في ليله السجاد و في نهاره العسكري و في كرمه جعفر وهو الجواد يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه و الابتهاج بما يغص كل عدو بريقه و يبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام و مصالح الأعمال فيما تتحلى به الأيام و يقدم التقوى أمامه و يقرر عليها أحكامه و يتبع الشرع الشريف و يقف عنده و يوقف الناس و من لا يحمل أمره طائعا على العين يحمله غصبا على الرأس و يعجل أمير المؤمنين بما استقر به النفوس و يرد به كيد الشيطان و إنه يؤوس و يأخذ بقلوب الرعايا و هو غني عن هذا و لكنه يسوس و أمير المؤمنين يشهد الله عليه و خلقه بأنه أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله و استمر به في مقيله تحت كنف ظلاله على اختلاف طبقات ولاة الأمور و طرقات الممالك و الثغور برا و بحرا و سهلا و وعرا شرقا و غربا بعدا و قربا و كل جليل و حقير و قليل و كثير و صغير و كبير و مالك و مملوك و أمير و جندي يبرق له سيف شهير و رمح ظهير و من مع هؤلاء من وزراء و قضاة و كتاب و من له تدقيق في إنشاء و تحقيق في حساب ومن يتحدث في بريد و خراج و من يحتاج إليه و من لا يحتاج و من في التدريس و المدارس و الربط و الزوايا و الخوانق و من له أعظم التعلقات و أدنى العلائق و سائر أرباب المراتب و أصحاب الرواتب و من له من مال الله رزق مقسوم و حق مجهول أو معلوم و استمر كل امرئ على ما هو عليه حتى يستخير الله و يتبين له ما بين يديه و من ازداد تأهيله زاد تفضيله و إلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله و لا يحابي أحد في دين الله و لا يحابي في حق فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين و كل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له و فهمه سليمان لا يغير أمير المؤمنين في ذلك و لا في بعضه تغييرا شكرا لله على نعمه و هكذا يجازي من شكر و لا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية به عن الكدر و لا يتأول في ذلك متؤول إلا من جحد النعمة و كفر و لا يتعلل متعلل فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله و نعيذ أيامه الغر من الغير وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره و ذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق و أن يضرب باسمها النقود و تسير بالإطلاق و يوشح بالدعاء لهما عطف الليل و النهار و يصرح منه بما يشرق وجه الدرهم و الدينار و قد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب و يتداوله كل بعيد و قريب و مختصره أن الله أمر بأوامر و نهى عن نواه و هو رقيب و سيفرغ الألباء لها السجايا و يفرغ الخطباء لها شعوب الوصايا و تتكمل بها المزايا و يرق شجوها بالليل المقمر و يرقم على جبين الصباح و تعظ بها مكة بطحاءها و يحيا بحدائها قفاه و يلقنها كل أب فهمه ابنه و يسأل كل ابن نجيب أباه و هو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم بينة و إليكم ما دعاكم به إلى سبيل الله من الحكمة و الموعظة الحسنة و لأمير المؤمنين عليكم الطاعة و لولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها و لا أمسك بها البحر و دحا الأرض و أرسى جبالها و لا اتفقت الآراء على من يستحق و جاءت إليه الخلافة تجر أذيالها و أخذها دون بني أبيه و لم تكن تصلح إلا له و لم يكن يصله إلا لها و قد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق و أسباب الارتزاق و أجراكم على وفاقكم و علمكم مكارم الأخلاق و أجراكم على عوائدكم و لم يمسك خشية الإنفاق و لم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم و يعمل بما يسعد به من يحيى أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده و يزيد على من تقدم و يقيم فروض الحج و الجهاد و ينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد و أمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام و يشمل بره سكان الحرمين الشريفين و سدنة بيت الله الحرام و يجهر السبيل على صالة و يرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام و يتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر و يرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام و يقيم بعدله قبور الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أينما كانوا و أكثرهم في الشام و الجمع و الجماعات هي فيكم على قديم سننها و قويم سننها و ستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضم إليه و فيما يتسلم من بلاد الكفار و يسلم منهم على يديه و أما الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بمأموره المقلد عنه جميع ما وراء سريره و أمير المؤمنين قد وكل منه خلد الله ملكه و سلطانه عينا لا تنام و قلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام و سيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى و قد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا و بحرا و لا يكف عمن ظفر به منهم قتلا و لا أسرا و يفك أغلالا و لا إصرا و لا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانا و في البحر غربانا تحمل كل منهما من كل فارس صقرا و يحمي المماليك ممن يتخرق أطرافها بإقدام و يتحول أكنافها بإقدام و ينظر في مصالح القلاع و الحصون و الثغور و ما يحتاج إليه من آلات القتال و أمهات الممالك التي هي مرابط البنود و مرابض الأسود و الأمراء و العساكر و الجنود و ترتيبهم في الميمنة و المسيرة و النجاح الممدود و يتفقد أحوالهم بالعرض بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء و الأرض و ما لهم من زرد موضون و بيض مسها ذهب ذائب فكانت كأنها بيض مكنون و سيوف قواضب و رماح بسبب دوامها من الدماء خواضب و سهام تواصل القسي و تفارقها فتحن حنين مفارق و تزمجر القوس زمجرة مغاضب
و هذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم و إطالة ذيل التطويل على مطلوبكم و دماؤكم و أموالكم و أعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر و مزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم و يظهر و أما جزيئات الأمور فقد علمتم أن من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى و أنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين و كلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين و له عليكم أداء النصيحة و إبداء الطاعة بسريرة صحيحة فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين و تحت رقه و لزمه حكم بيعته و ألزم طائره في عنقه و سيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما
هذا قول أمير المؤمنين و قال : و هو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال و على هذا عهد إليه و به يعهد و ما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه و لا يشهد و أمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال و يستعيذ به من الإهمال و يسأل أن يمده لما يحب من الآمال و لا يمد له حبل الإمهال
و يختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل و الإحسان و الحمد لله و هو من خلق أحمد و قد أتاه الله ملك سليمان و الله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه و يملكه أقطار الأرض و يورثه بعد العمر الطويل عقبه و لا يزال على سدة العلياء قعوده و لدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره و لا أودى مهديه و لا رشيده
و قال ابن حجر في الدرر : كان أولا لقب [ المستنصر ] ثم لقب الحاكم
ذكر الشيخ زين الدين العراقي أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين و أنه حدث
مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث و خمسين
و من الحوادث في أيامه : في عام ولايته خلع السلطان المنصور لفساده و شربه الخمور حتى قيل : إنه جامع زوجات أبيه و نفي إلى قوص و قتل بها فكان ذلك من الله مجازاة لما فعله والده مع الخليفة و هذه عادة الله مع من يتعرض لأحد من آل العباس بأذى و تسطلن أخوه الملك الأشرف كجك ثم خلع من عامه و ولي أخوه أحمد و لقب بـ [ الناصر ] و عقد المبايعة بينه و بين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي قاضي الشام و كان قد حضر معه مصر
و في سنة ثلاث و أربعين خلع الناصر أحمد و ولي أخوه إسماعيل و لقب بـ [ الصالح ] و في سنة ست و أربعين مات الصالح فقلد الخليفة أخاه شعبان و لقب بـ [ الكامل ]
و في سنة سبع و أربعين قتل الكامل و ولي أخوه أمير حاج و لقب بـ [ المظفر ]
و في سنة ثمان و أربعين خلع المظفر و ولي أخوه حسن و لقب بـ [ الناصر ]
و في سنة تسع و أربعين كان الطاعون العام الذي لم يسمع بمثله
و في سنة اثنتين و خمسين خلع الناصر حسن و ولي أخوه صالح و لقب [ الملك الصالح ] و هو الثامن ممن تسلطن من أولاد الناصر محمد بن قلاوون و جعل شيخو أتابكة قال في ذيل المسالك و هو أول من سمي بمصر [ الأمير الكبير ]
و ممن مات في أيام الحاكم من الأعلام : الحافظ أبو الحجاج المزي و التاج عبد الباقي اليمني و الشمس ابن عبد الهادي و أبو حيان و ابن الوردي و ابن اللبان و ابن عدلان و الذهبي و ابن فضل الله و ابن قيم الجوزية و الفخر المصري شيخ الشافعية بالشام و التاج المراكشي و آخرون
أقسام الكتاب 1 2 3 4*
======
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق